حقائق وشهادات حول قضية توفيق بوعشرين مع البيجيدي: بين تصريحات الصحافي وتوضيحات المحامي عبد المولى المروري    دراسة تكشف آلية جديدة لاختزان الذكريات في العقل البشري    التجمع الوطني للأحرار يثمن المقاربة الملكية المعتمدة بخصوص إصلاح مدونة الأسرة    حصيلة سنة 2024.. تفكيك 123 شبكة لتنظيم الهجرة غير النظامية والاتجار في البشر    الدكتور هشام البوديحي .. من أحياء مدينة العروي إلى دكتوراه بالعاصمة الرباط في التخصص البيئي الدولي    الدورة ال 44 لمجلس وزراء الشؤون الاجتماعية العرب بالمنامة .. السيد الراشيدي يبرز الخطوط العريضة لورش الدولة الاجتماعية التي يقودها جلالة الملك    قيوح يشرف على تدشين المركز اللوجيستيكي "BLS Casa Hub" بتيط مليل    فرض غرامات تصل إلى 20 ألف درهم للمتورطين في صيد طائر الحسون بالمغرب    38 قتيلا في تحطم طائرة أذربيجانية في كازاخستان (حصيلة جديدة)    الدفاع الحسني يهزم الرجاء ويعمق جراحه في البطولة الاحترافية    رحيل الشاعر محمد عنيبة أحد رواد القصيدة المغربية وصاحب ديوان "الحب مهزلة القرون" (فيديو)    المهرجان الجهوي للحلاقة والتجميل في دورته الثامنة بمدينة الحسيمة    انقلاب سيارة على الطريق الوطنية رقم 2 بين الحسيمة وشفشاون    المغرب الرياضي الفاسي ينفصل بالتراضي عن مدربه الإيطالي غولييرمو أرينا    رئيس الرجاء يرد على آيت منا ويدعو لرفع مستوى الخطاب الرياضي    الإنتاج الوطني من الطاقة الكهربائية بلغ 42,38 تيراواط ساعة في متم 2023    تنظيم الدورة السابعة لمهرجان أولاد تايمة الدولي للفيلم    الندوة 12 :"المغرب-البرتغال. تراث مشترك"إحياء الذكرىالعشرون لتصنيف مازغان/الجديدة تراثا عالميا. الإنجازات والانتظارات    حركة حماس: إسرائيل تُعرقل الاتفاق    أخبار الساحة    الخيانة الزوجية تسفر عن اعتقال زوج و خليلته    روسيا: المغرب أبدى اهتمامه للانضمام إلى "بريكس"    عبير العابد تشكو تصرفات زملائها الفنانين: يصفونني بغير المستقرة نفسياً!    السعودية و المغرب .. علاقات راسخة تطورت إلى شراكة شاملة في شتى المجالات خلال 2024    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    الريسوني: مقترحات مراجعة مدونة الأسرة ستضيق على الرجل وقد تدفع المرأة مهرا للرجل كي يقبل الزواج    التنسيق النقابي بقطاع الصحة يعلن استئناف برنامجه النضالي مع بداية 2025    تأجيل أولى جلسات النظر في قضية "حلّ" الجمعية المغربية لحقوق الإنسان    بعد 40 ساعة من المداولات.. 71 سنة سجنا نافذا للمتهمين في قضية "مجموعة الخير"    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الخميس    ابتدائية الناظور تلزم بنكا بتسليم أموال زبون مسن مع فرض غرامة يومية    جهة مراكش – آسفي .. على إيقاع دينامية اقتصادية قوية و ثابتة    برنامج يحتفي بكنوز الحرف المغربية    بورصة الدار البيضاء تستهل تداولاتها بأداء إيجابي    مصرع لاعبة التزلج السويسرية صوفي هيديغر جرّاء انهيار ثلجي    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    لجنة: القطاع البنكي في المغرب يواصل إظهار صلابته    ماكرون يخطط للترشح لرئاسة الفيفا    بطولة إنكلترا.. ليفربول للابتعاد بالصدارة وسيتي ويونايتد لتخطي الأزمة    نزار بركة: 35 مدينة ستستفيد من مشاريع تنموية استعدادا لتنظيم مونديال 2030    مجلس النواب يصادق بالأغلبية على مشروع القانون التنظيمي المتعلق بالإضراب    مجلس النواب بباراغواي يصادق على قرار جديد يدعم بموجبه سيادة المغرب على أقاليمه الجنوبية    باستثناء "قسد".. السلطات السورية تعلن الاتفاق على حل "جميع الفصائل المسلحة"    تقرير بريطاني: المغرب عزز مكانته كدولة محورية في الاقتصاد العالمي وأصبح الجسر بين الشرق والغرب؟    تزايد أعداد الأقمار الاصطناعية يسائل تجنب الاصطدامات    مجلس النواب بباراغواي يجدد دعمه لسيادة المغرب على صحرائه    ضربات روسية تعطب طاقة أوكرانيا    وزير الخارجية السوري الجديد يدعو إيران لاحترام سيادة بلاده ويحذر من الفوضى    السعدي : التعاونيات ركيزة أساسية لقطاع الاقتصاد الاجتماعي والتضامني    ارتفاع معدل البطالة في المغرب.. لغز محير!    طبيب يبرز عوامل تفشي "بوحمرون" وينبه لمخاطر الإصابة به    ما أسباب ارتفاع معدل ضربات القلب في فترات الراحة؟    "بيت الشعر" يقدم "أنطولوجيا الزجل"    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب.. "رواية جديدة لأحمد التوفيق: المغرب بلد علماني"    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



إدريس بنسعيد: كورونا تفرض على المغرب نموذجا تنمويا أساسه الاستثمار في الإنسان

يؤكد الباحث السوسيولوجي إدريس بنسعيد في الحوار التالي مع "أحداث أنفو" أن جائحة كورونا كشفت عن إيجابيات وسلبيات كثيرة في المغرب. فقد أبرزت الحس التضامني للمغاربة وانضباطهم لإجراءات الطوارئ الصحية، كما أبانت عن قوة أجهزة الدولة ونجاعتها وقدرتها على الاستباق والاحتواء. لكنها عرّت، في المقابل، عن أعطاب عميقة من قبيل ضعف مؤسسات الوساطة وفشل سياسة المدينة وتدبير المجال وغياب استراتيجية الانتقال الرقمي، وسواها من أعطاب تستوجب اعتماد نموذج تنموي أشمل يكون أساسه الاستثمار في الإنسان بوصفه منتجا للقيمة والثروة.
_ فرضت حالة الحجر الصحي نمطا مغايرا لطبيعة الاجتماع المألوفة من خلال التباعد الاجتماعي. بصفتك عالم اجتماع كيف تقرأ هذا المفهوم المستجد، الذي يمس مفهوم المجتمع كما قامت عليه السوسيولوجيا؟
_ _ بالفعل، طرحت جائحة كورونا علينا جميعا أسئلة غير مسبوقة، وفرضت هذا النوع من التباعد الاجتماعي. لم يكن الأمر سهلا بالنظر إلى أننا كمغاربة ننتمي إلى مجتمع متوسطي، يحتل فيه الجسد مكانة أساسية سواء على الصعيد العام أو الخاص.
إذ أن التعبير عن العلاقات الاجتماعية لا يقتصر على اللغة بل تلعب فيه لغة الجسد دورا أساسيا، وفي بعض الأحيان دورا حاسما. الاقتراب، العناق، اللمس، الحديث بصوت مرتفع وغير ذلك من الحركات والإشارات هو كذلك جزء من طبيعة الإنسان المتوسطي ومن نمط عيشه. إذن، أن نفرض التباعد الاجتماعي وأن نتعود على أن لا نعانق أصدقاءنا وأحباءنا، بل حتى أن لا نصافح الناس هي أمور وجدنا فيها في البداية صعوبات جمة.
من جهة أخرى، السؤال الذي يطرح نفسه هو هل التباعد الاجتماعي "ممكن" في الظروف الراهنة؟ حسب ما نشاهده من صور فإن الجواب يفصح عن جزء من المشكل، ومفاده أن التباعد الاجتماعي في ظروف الفقر والسكن غير اللائق والاكتظاظ وانتشار السكن العشوائي والأسواق العشوائية يجعل الإنسان في كثير من الأحيان مضطرا للاختيار بين احترام قواعد التباعد الاجتماعي أو التخلي عن الحياة بصفة شبه نهائية، من حيث التسوق والأكل والشرب...
مسألة التباعد الاجتماعي ضرورة صحية لا نقاش فيها، غير إن تطبيقها في ظروف الحجر الصحي يكشف عن جملة من الأعطاب خاصة العميقة، في الوسط الحضري وفي هوامش المدن وأحزمة الفقر. من ناحية أخرى، نلاحظ أن أبسط إشاعة تحيي خوفا كامنا من المستقبل، كما هو حال التهافت على اقتناء المواد الغذائية، وعدم احترام الدور واختراق الصفوف، وسواها من سلوكات. نستخلص أن التقارب الاجتماعي هو القاعدة في العلاقات الاجتماعية في حين أن التباعد الاجتماعي هو قاعدة صحية مكتسبة لكن شروط تطبيقها تبين حجم الأعطاب التي نعاني منها.
_ من آثار جائحة كورونا أن الفضاء العمومي غدا فضاء موبوءا وتقلص فيه النشاط البشري إلى حدوده القصوى، كيف تنظر إلى تأثير هذا العامل على العلاقات الاجتماعية القائمة على التفاعل، وتحولاته المفترضة؟
_ _ كون الفضاء العمومي أصبح مهجورا بكيفية شبه شاملة، وحتى ارتياده أصبح مقننا بضوابط واحتياطات ومدد زمنية محسوبة ولمدة طويلة، أمر غير مسبوق في تاريخ الإنسانية، فحسب التقديرات فإن ما يقارب نصف سكان الكوكب يعيشون نفس الوضعية. بالنسبة للمغرب، فإن آثار التباعد هذا على العلاقات الاجتماعية يمكن رصده حاليا سواء على مستوى الأفراد، وفي كيفية تكيفهم مع الأوضاع الراهنة. أما على مستوى المجتمع ككل فإن الأمر صعب حاليا لأننا أمام ظاهرة بالغة الجدة.
في المقابل كشفت ظروف الحجر الصحي عن فضاءات أخرى لها أدوار كبيرة، أهمها الفضاء الافتراضي، والشبكة العنكبوتية على الخصوص، إذ أن ارتياده أصبح كثيفا، والتبادل عن طريق الهاتف النقال أو وسائط التواصل الاجتماعي خاصة الفورية ازداد بوتيرة أكبر، إذ أصبح الناس يسألون عن بضعهم بعضا أكثر، وربما تجدد الاتصال بين أناس لم يتواصلوا منذ مدة طويلة فيما بينهم.
يمكن من خلال هذا الفضاء الافتراضي أن نستشف الملامح العامة للذهنيات، حيث يظهر فيها أول ما يظهر رد الفعل الدفاعي عن الحجر الصحي، وخاصة بواسطة السخرية والكاريكاتير والنكتة، وهو بمثابة متنفس كبير أو صمام يكشف عن إبداعات حقيقية.
نعرف من خلال عدد المشتركين في الهاتف النقال وخدمة الأنترنت في المغرب أن الأمر يتعلق بظاهرة حقيقية وبكثافة ملموسة في استعمال الفضاء الافتراضي، تبين دوره الحيوي الكبير الذي أصبح الوسيط الافتراضي يحتله في هذه الظروف الخاصة (بل وفي كل الظروف)، وما ضعف الصبيب اليومي في الشبكة العنكبوتية بحكم الضغط الكبير عليها بفعل التواصل الافتراضي سوى دليل على هذه الكثافة في الاستعمال وعلى تحول العالم الافتراضي بمثابة ملجأ يحتمي به الناس.
ورغم الدور المهم في عملية التفريغ هاته فإن الفضاء الافتراضي ليس كله إيجابيات، هناك سلبيات من قبيل انتشار الأخبار الزائفة والإشاعات. نستخلص أن الفضاء الافتراضي أصبح ملجأ لتعويض غياب وهجر الفضاء المادي الفيزيائي وربما حتى فرصة للتمييز "ما بين صندوقي التفاح والحامض.." من جملة فرص أخرى.
غير أن هناك فضاءات أخرى أصبحت قاحلة وجرداء أكثر من السابق، وأعني تحديدا الفضاء السياسي، ففراغ الفضاء الفيزيائي نبهنا إلى حجم فراغ الفضاء السياسي الضعيف أصلا بالمغرب، إذ انكشف بالملموس أن تدخل الفاعل السياسي قليل جدا ومقنن ومشفر، وليس ثمة حركية ونقاش وسجال سياسي كما هو الأمر في البلدان الديمقراطية حسب ما نعاينه في شاشات التلفاز، بل إن الحكومة نفسها في تدبيرها للجائحة تبدو قطاعاتها متوازية وعمودية، ولا يملأ تدخلها بنجاح إلا الفضاء الصحي والأمني اللذين تدبرهما "الأجهزة" كمنظومة متكاملة.
أما على المستوى السياسي فإننا نعاين غيابا كبيرا للفاعل السياسي في المجالين الفيزيائي والافتراضي، إذ أن تدخلات رئيس الحكومة ووزير الصحة نادرة وقصيرة، وأشبه بالبلاغات. في حين أن التدخل الرئيس موكول للفاعل الإداري والأمني والتقني. في نفس السياق نجد أنه رغم ما فرضته الجائحة من تدابير وقائية لا جدال فيها، يبقى قرار إغلاق الفضاء الصحافي الورقي غير مفهوم، خصوصا أن قطاع الصحافة الورقية بالمغرب يعاني أصلا في ظل تراجع مبيعات الصحف، ناهيك عن أن ما يدبره قانون 20.22 يكشف عن نية مؤجلة للحجر على العالم الافتراضي نفسه، وبعقوبات أشد من عقوبات خرق الحظر في المجال العمومي الواقعي. على هذا الأساس فإن فراغ الفضاء العمومي كشف عن ضعف وارتباك فضاءات أخرى، وأثر على قطاعات أخرى تعاني الهشاشة.
_ تحدثتم عن التعويض الذي مارسه الفضاء الافتراضي فيما يخص الهجر الذي يعرفه الفضاء المادي. هل يمكن القول إن هذه الأزمة ستسرع الانتقال الرقمي في المغرب بعدما انكشفت الفجوة الرقمية أكثر؟
_ _ مسالة الهوة الرقمية مطروحة في المغرب منذ مدة طويلة، لكن الوضعية الحالية كشفتها جليا. هذه الفجوة الرقمية لا ترجع فقط إلى نقص في الأجهزة والوسائل التقنية وإنما تعود بالأساس إلى ضرورة توفر إرادة وسياسة واستراتيجية رقمية تستشرف المستقبل، أي الانتقال إلى مجتمع آخر هو المجتمع الرقمي، وهو مجتمع مستقل يزداد انفصالا واستقلالا عن العالم الفيزيائي، له ضوابطه وآلياته وأخلاقياته.
نلاحظ مثلا أن مبادرة التعليم عن بعد، هي عملية وإن كانت متعثرة فإنها قد مكنت في وقت قصير من إنتاج محتوى تعليمي غير مسبوق، ولكنها من ناحية أخرى، إذا تتبعنا هذه المحتويات بمختلف أسلاك التعليم، فسنجد أنها قد كشفت عن أعطاب بيداغوجية وتربوية تمس المنظومة التعليمية في المغرب، وكشفت أن الانتقال إلى المجتمع الرقمي ليس هو فقط انتقال من اللوحة الخشبية إلى اللوح الإلكتروني، وأن الأمر لا يتعلق بالحامل الرقمي في حد ذاته (حاسوب أو هاتف) وإنما يرتبط باستراتيجية علمية وتربوية ومحتويات رقمية قادرة على إيجاد موطئ قدم في مجتمع المعرفة.
أما الحامل الإلكتروني المرتبط بفلسفة أساسها عقلانية تقوم على التشبيك والتفاعل وإتاحة المعلومة، وإفساح المجال للنظر والتفكير و"حل المشكلات" ودمقرطة العلم والمعرفة قد يتحول في حالتنا إلى حامل لنشر الدجل والخرافة والكره والتمييز العرقي، وبذلك فإن هذا الحامل عندما يتم فصله عن فلسفته وعن وظائفه في إطار إستراتيجية رقمية واضحة تتغيا الانخراط في مجتمع المعرفة، ربما يصبح أكثر ضررا.
_ في مقابل انكماش الفضاء العمومي نلاحظ أن فضاء الأسرة والبيت وقع عليه الثقل إذ لم يعد فضاء الراحة وإنما استقبل وظائف جديدة من عمل ودراسة... هل فعلا يستحمل فضاء البيت والأسرة هذه الأدوار المكثفة؟
_ _ يتعين في نظري التمييز بين مستويين في ما يخص الفضاء الأسري: مستوى أول يهم العلاقات الأسرية في حد ذاتها. بينت مختلف الدراسات المنجزة في المغرب حول الثقة في المؤسسات أن الأسرة سواء بمعناها الصغير أي النووية أو الأسرة الممتدة لازالت هي أعلى مؤسسة تحظى بالثقة ولازالت هي القيمة المرجعية العليا في المجتمع المغربي.
لقد أدت ظروف الحجر الصحي في الغالب إلى تمتين هذه العلاقات الأسرية بل ربما أدت إلى إعادة اكتشافها من خلال تعرف جديد للآباء على الأبناء والعكس صحيح، ومن خلال تقاسم العمل داخل الوحدة المنزلية، وتثمين التقاليد الأسرية. يمكن في هذا السياق أن تقع تصدعات داخل الأسرة من خلال حالات الطلاق والانهيارات العصبية والعنف، وهي آثار جانبية للحجر الصحي. ليست هناك أرقام في هذا الصدد لكن من خلال تتبع بعض المصادر الأجنبية يتبين أن هذه الأمور هي من أبرز تداعيات الحجر على الأسرة.
مستوى ثاني، يرتبط بكون الأسرة تعيش في مجال، هو الوحدة المنزلية، الأمر الذي يعيدنا إلى المجال السكني الذي أشرنا إليه سابقا. إن انتشار الفقر والبطالة والعمل غير المهيكل وانتشار العشوائيات، يؤشر على أعطاب سياسات المدينة والسكن الاقتصادي، الذي تم في كثير من الأحيان التفكير فيه كحلول تقنية، وعدم إدماج الأبعاد الاجتماعية والاقتصادية، ناهيك عن الثقافية في هذا النوع من السكن، الأمر الذي جعل الوحدة الأسرية غير متطابقة مع الوحدات السكنية التي تعيش فيها.
بمعنى أن أزيد من 70 ألف من الأشخاص، الذين تم توقيفهم بسبب خرق الحجر الصحي هم من الوسط الحضري، وتحديدا من الأحياء الشعبية، ومن هذه الوحدات السكنية التي تحدثت عنها. هذه الوحدات السكنية، هي في الأعم عبارة عن غرفة أو بيت صغير يتشكل من مساحة ضيقة ناقصة التجهيز والتهوية والشروط الصحية. تتغلب الساكنة عادة على هذا النقص "كيف ما جاب الله" من خلال التناوب على هذا الفضاء الضيق.
فهم ينامون فيه وفق الحاجة الاضطرارية للنوم، ولكنهم في الصباح ينتشرون في الأرض، في المدرسة والعمل إن كان ثمة عمل وفي راس الدرب، حيث يقضون سحابة يومهم وجزءا من الليل خارج فضاء البيت، وفي كثير من الأحيان خارج الحي حيث يطور أفراد الأسر سلوكاتهم بالنظر إلى الفضاءات التي يرتادونها يوميا، وهي فضاءات قد تحتضن عملا مشروعا أو غير مشروع، وقد يكون "أخلاقيا" أو "غير أخلاقي"، لذلك فإنهم لا يلتقون إلا فترة قصيرة في البيت وقد لا يعلم بعضهم ماذا يفعل البعض الآخر أو يتغاضون عنه.
ناهيك عن تجاور واحتكاك الحاجيات والسلوكيات الخاصة بالذكور والإناث، الأطفال والمراهقين، الشبان والشيوخ، المدخنين وغيرهم، في فضاء ضيق. ما نخلص إليه هو أن ظروف الحجر الصحي تسائل اليوم أكثر من أي وقت مضى سياسة المدينة وتدبير المجال.
الفضاءات المنزلية غير اللائقة وهي كثيرة جدا بينت أنها غير قادرة على احتواء الناس بصفة دائمة وفق شعار "ابق في دارك"، وغير قادرة على احتواء العلاقات الأسرية الجديدة التي لم يسبق لها أن وضعت على المحك بهذا الشكل، هناك من يمارس سلوكات غير مقبولة أخلاقيا ولا تعرفها الأسرة أو تتغاضى عنها كما أشرت، هناك من يعمل ومن لا يعمل، وقد بينت الجائحة أن الوحدات الأسرية غير قادرة على احتواء التحولات العميقة الحاصلة في العلاقات الاجتماعية في الوقت الحالي، وهو ما يفسر علاقة الكر والفر مع السلطة.
أما على المستوى القروي الذي غالبا ما يتم نسيانه، فرغم أن ربطه بشبكة الكهرباء والماء تم بنسبة تتجاوز 90 في المائة، فإن التجهيزات الأساسية الأخرى لا تزل ناقصة جدا. يتميز الفضاء القروي في غالبيته بالتشتت والانتشار في المجال غير أن الوحدات السكنية فيه تسع العائلة الكبرى مما يجعل المراقبة العائلية الأسرية قوية، والأفراد يضطرون لترك القواعد المكتسبة في الخارج بشكل مؤقت داخل البيت والامتثال للقواعد التقليدية للأسرة.
وفي غياب المتاجر وأماكن التسوق فإن الأسواق الأسبوعية تلعب دورا استراتيجيا لا غنى عنه للعيش وربط العلاقات الاجتماعية المسترسلة وتنميتها وتبادل الأخبار والتكيف مع الجو العام للمنطقة والبلد. ومنع الأسواق في هذا الظرف لأسباب وقائية له تداعيات. لذلك فالجائحة بينت مدى الأعطاب الموجودة في تدبير مجال السكن في المدن والتفاوتات المجلية ما بين الوسطين الحضري والقروي.
_ هل يمكن الحديث عن عودة للدولة بأدوارها التقليدية ورمزيتها باعتبارها الملجأ والملاذ والحامي؟
_ _ في ما يخص عودة الدولة فالأمر قائم في المغرب منذ قرون، ونتائجه الحميدة لا يمكن أن تخطئها العين. لكن ثمة أسئلة تطرحها الجائحة على مستقبل هذه الدولة. ما هي أهدافها الخاصة في ظل عولمة جارفة. لقد أماطت الجائحة اللثام عن الهوة الكبيرة بين الخطاب والواقع. فالعولمة تعاني من نقص أخلاقي وفقر قيمي كبيرين.
فهي لا تركز على تنمية المجتمع وإنما تستهدف الفرد كمستهلك للسلع بالأساس وتكرس الفردانية التي تعد في العمق سلوكا غريزيا يرتبط بحب البقاء. وقد لاحظنا كيف أن هذه الأنانية اتسمت بها حتى الدولة الوطنية في ظل الجائحة، فالمستفيد الأول هو الدول القوية التي تقوم اليوم بصفقات كبرى على مستوى المواد الأولية، بل لم تتورع عن قرصنة مواد طبية كانت موجهة إلى بلدان أقل قوة ومارست عليها ضغوطا مختلفة.
لقد أغنت العولمة الاقتصاد ووسعت التبادل حسب قواعد هيمنة موحدة لكنها أفقرت الإنسان، وحولته إلى كائن استهلاكي، وقد جاءت هذه الجائحة في وقت بدأت تبرز فيه مؤشرات كثيرة تهم إعادة ترتيب العلاقات بين الدول، إذ أن المساواة وحقوق الإنسان والديمقراطية بدأت تنسحب من أرض الواقع وتنتقل إلى الخطابات المجردة فقط، بل وبدأ التشكيك الجدي في جدواها.
سوف تكون مرحلة ما بعد الجائحة فرصة لإعادة ترتيب مقتضيات العولمة على أسس جديدة، من خلال ترسيخ مبدأ القوة في العلاقات الدولية، وإعادة توطيد التبعية والاستعمار بشكل جديد، كما ستتم إعادة النظر في المواثيق الدولية لتصبح ملزمة للبلدان الضعيفة دون الدول القوية، كما ستتم إعادة النظر في القيمة الاقتصادية للسلع والخدمات، وسوف يتكرس الدور المركزي في العولمة للأنظمة البنكية في مجال الاقتصاد وهي أنظمة تقوم على الريع والمضاربة.
يبقى السؤال مفتوحا في ما إذا كان ترتيب هذه العولمة الجديدة يقتضي الحاجة إلى حرب أم أنها ستبقى رهينة الحرب الناعمة، وأن الجائحة نفسها، ربما "بفعل فاعل" تعد فصلا افتتاحيا من فصولها وإن كنت لا أطمئن إلى هذه القراءة. ومهما يكن شكل هذه الحرب، سواء أكانت حرب أسلحة أم حربا بيولوجية فإن البلدان الضعيفة التي لم تهيء نفسها للدخول إلى العالم الجديد، ومفتاحه مجتمع المعرفة، ستكون هي المتضرر منها سياسيا واقتصاديا وثقافيا.
_ الجائحة أبرزت أيضا إيجابيات سواء على مستوى المجتمع أو الدولة..
_ _ بكل تأكيد، ما عبر عنه المغاربة من تضامن في تعاملهم مع الجائحة ومن انضباط لإجراءات الحجر الصحي في حدود الطاقة والإمكان هام وجدير بالتنويه. كما أن الدولة أبانت عن قدرة كبيرة على التكيف والاستباق والاحتواء. ما نراه الآن على الساحة يسمح لنا باستخلاص أولي وهو أن أجهزة الدولة التي تحظى بالرعاية بينت عن نجاعتها واستباقيتها، خاصة على مستوى العمل الهرمي لوزارة الداخلية من شبكة المقدمين والشيوخ إلى أعلى مستوياتها.
وقد شهدنا تدخلاتها المنسقة والناجعة وإجراءات أخرى كتوزيع المساعدات المالية على الأسر الأكثر هشاشة والحرص على سيولة تزويد السوق بالمواد الاستهلاكية وغير ذلك. في مقابل قوة أجهزة الدولة وقفنا على ضعف بين في عمل المؤسسات وأدائها لأدوارها المرتقبة. تقوم الدولة الحديثة على توازن ما ينفك عن التجدد ما بين قوة الأجهزة وقوة المؤسسات. لقد كشفت ظروف الجائحة أكثر مما مضى الحاجة إلى أجهزة قوية وفي الآن نفسه إلى مؤسسات قوية، فاعلة وناجعة، كأساس للديموقراطية ودولة القانون والمؤسسات.
لكن، يبدو أن هذا الشرط الضروري لانتقال ديموقراطي حقيقي (بالإضافة لحرية التعبير) لا يزال مؤجلا بعيد المنال، وهذا ما ستكون له كلفة باهظة في ما-بعد الجائحة في ظل اقتصاد مغربي جزء مهم منه غير مهيكل ويعتمد في مستوى المداخيل والقيمة المضافة على موارد لا يتحكم فيها، من قبيل أحوال الطقس والسياحة وتحويلات المغاربة المقيمين في الخارج، ناهيك عما تطرحه الفلاحة التسويقية من مشاكل مستقبلية تهم الثروة المائية بالمغرب الشحيحة. كما أن السوق الدولية ستتغير بعد الجائحة وهو ما سيعرض اقتصادنا لانكماش قد لا نكون مهيئين لأداء فاتورته الاجتماعية والسياسية.
_ هذا يثير سؤال النموذج التنموي الجديد الذي يبدو أن الغائب الأكبر فيه هو الفاعل الثقافي
_ _ النموذج التنموي كما هو متداول لحد الآن هو نموذج اقتصادي صرف. الظاهر أننا لم نشرع بعد في التفكير في نموذج تنموي شامل يكون اختيار أو إعادة النظر في النموذج الاقتصادي ركنه الأساسي، غير أن المقاربة الاقتصادوية الصرف لا تستطيع لوحدها إنتاج نموذج جديد يختزل التنمية فقط في الاستثمار لجلب المال وتنمية الثروة الوطنية.
إن التنمية ونموذجها المنشود فعل أشمل مداره هو الإنسان من حيث هو قيمة في ذاته. لذلك فهي تنبني على تعزيز ما هو اقتصادي وما هو اجتماعي وثقافي من تعليم وصحة وفنون، وعلى ما هو سياسي يهم تقوية المؤسسات. ثروة المغرب الحقيقية لا تكمن في السياحة ولا في الفوسفاط، رغم أهميتهما البالغة، بل في الإنسان.
وزبدة هذا الرأسمال البشري هي الشباب والأطفال. الاستثمار في الإنسان سيكون هو المنتج للقيمة والثروة، وهو استثمار يتأسس بداهة على تعزيز القدرة الاقتصادية وعلى تربية متينة وبناء عقل منفتح قادر على المبادرة والإبداع والابتكار وبناء مواطنة أسها الحرية والحقوق الإنسانية. أما بالنسبة لدور المثقف فإني لا أميل في هذا السياق إلى اعتباره مجرد خبير ومستشار، هناك مكاتب دراسات تقوم بهذا الدور.
ما نحتاجه هو أن يكون هذا النموذج قائما على فلسفة ثقافية، على مبادئ واضحة يمكن استخراج بعضها من خلال تفعيل دستور 2011، وهي الحداثة والعقلانية والعدالة الاجتماعية والمساواة المجالية والتعدد الثقافي في مجتمعنا والانفتاح على العالم والثقافات الأخرى والارتكاز على تاريخنا الطويل. بناء هذه المفاهيم وتركيبها والتناظر بشأنها هو جوهر عمل المثقف في هذا المجال، وتحويلها إلى قوانين وإجراءات وسياسات عمومية واختيارات يعود إلى مجالات أخرى.
دور المثقف في هذا الصدد يشبه دور الفلسفة بالنسبة إلى العلوم والتقنيات التي لم تستطيع أن تتطور بدون فلسفة قوية. نحتاج إلى نموذج ثقافي نقف على وجوده وتفعيله في كل القطاعات، في التعليم والصحة والاقتصاد والإعلام والعلاقات الدولية... دور المثقف في النموذج التنموي تحويل ما هو سياسي واقتصادي واجتماعي وثقافي إلى مخارج متعددة لتصور عام يقوم على دعامات متفاعلة، متساوية ومتطورة.
ولن يكون هذا النموذج "نموذجيا" إلا إذا استثمر في الإنسان، في تعليمه وتأهيله وتزويده بالأدوات العلمية والمعرفية الصالحة للقرن الواحد والعشرين، في مجتمع بمحيطه الجيوسياسي وعمقه التاريخي وغنى تعدده الثقافي. إن دور الثقافة كلحمة لمكونات هذا النموذج يعني تغيير الأولويات حيث لن تبقى المردودية والاستثمار والقيمة المضافة محصورة في ما هو اقتصادي، مالي ومادي صرف.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.