لاحظت، من خلال تصفحي لببليوغرافيا الإبداع المغربي والعربي، تَرَفُّعُ الأدباء المغاربة والعرب عن الاعتراف ببعضهم البعض ومصاحبة بعضهم البعض في أعمال مشتركة. فالكاتبات النساء تتهربن من الأعمال المشتركة مع كاتبات من جنسهن ربما لأنهن يريْن في الأمر ردّة إلى حياة «الحريم». كما يندر وجود أعمال مشتركة بين أديب عربي وأديبة عربية باستثناء «أدب الرسائل والمراسلات» حيث اجتمعت في الشام غادة السمان بغسان كنفاني والتقى في المغرب عبد الكبير الخطيبي بغيثة الخياط. أما الأسماء القليلة من الكتاب العرب الرجال ممن دخلوا تجربة العمل الإبداعي المشترك فيطالعنا اسم إدريس الصغير مرة أخرى كاستثناء. بل إن الرجل تعدى الاستثناء ليصبح «قاعدة» في العمل الإبداعي التشاركي من خلال ثلاثة أعمال سردية مشتركة: «اللعنة و الكلمات الزرقاء» (مجموعة قصصية)، بالاشتراك مع عبد الرحيم مودن، 1976 «ميناء الحظ الأخير»، (رواية)، بالاشتراك مع عبد الحميد الغرباوي، 1995 «حوار جيلين» (مجموعة قصصية)، بالاشتراك مع محمد سعيد الريحاني، 2011 ولظروف خاصة، تأخرت «حوار جيلين»، المجموعة القصصية الأخيرة، عن الصدور لمدة ثلاث سنوات لكنها لم تكن جامدة في طابور الانتظار وإنما كانت تنمو في انتظارها وتتطور إذ تغير، خلال انتظار النشر، أكثر من نص وتغيرت أكثر من فقرة قبل دخول العمل أخيرا إلى المطبعة وبداية العد العكسي لخروجه المحتمل إلى أسواق القراءة والقراء بعد أسبوعين. عند الإعداد لتحرير أضمومة «حوار جيلين»، كانت السيناريوهات الثلاثة الممكنة كالتالي: السيناريو الأول، المشاركة في كتابة النصوص متوالية بعد متوالية؛ السيناريو الثاني، اقتسام متواليات النص بحيث يفتتح الواحد منا النص بينما يبقى توقيع الختام للآخر، السيناريو الثالث، الاحتفاظ بمطلق الحرية في اختيار كل منا لنصوصه وتحريرها على طريقته وهو ما وقع الاختيار عليه في الأخير فكان لإدريس الصغير الجزء الأول من الأضمومة بينما كان لمحمد سعيد الريحاني الجزء الثاني منها. وعليه، بعث لي إدريس الصغير بنصوصه السبعة دفعة واحدة فارتأيت محاورتها بنصوص متفاعلة مع تيمتها المركزية، «الضياع». وبذلك، جاءت أضمومة «حوار جيلين» موزعة على جزأين: الجزء الأول خاص بنصوص إدريس الصغير السبعة التي تتدرج عناوينها كالتالي: رجل وورقة وأحلام، في مقهى على ضفة نهر، طريق الأحلام، نومانز لاند، حقول الأقحوان وشقائق النعمان، صانع الأحلام، أحلام طاميزودا. أما الجزء الثاني فيشتمل على نصوص محمد سعيد الريحاني السبعة وهي حسب ترتيبها في المجموعة: في رحاب التقنية، هل قرأت يوما عن الأشباح؟، الضياع، فظاظة القبائل البعيدة، الاسم «عاطل» والمهنة «بدون»، الذي كان حرا، أحلام الظهيرة. ولظروف خاصة، تأخرت المجموعة القصصية «حوار جيلين» عن الصدور لمدة ثلاث سنوات. لكنها لم تكن تنتظر فحسب وإنما كانت تنمو أيضا. فقد تغير أكثر من نص وتعدلت أكثر من فقرة قبل أن تستعد للخروج إلى أسواق القراءة والكتاب أواخر شهر ابريل 2011. ولأن الكاتبين ينتميان إلى جيلين مختلفين من أجيال الكتابة القصصية في المغرب، فإن ما يجمع بين نصوصهما في هذا العمل المشترك، «حوار جيلين»، هو «الضياع» كفلسفة وجودية وكمنظور فني وكأسلوب في الكتابة. «الضياع» كقانون كوني، كنهر جارف لكل ما ومن يحاول التشبث بموطئ قدم على بساط الطمأنينة والمعنى الخادعين... نصوص إدريس الصغير في هذه المجموعة، «حوار جيلين»، ضياع في ضياع: ضياع يتخذ ثارة قناع التعب الأبدي وثارة قناع الشيخوخة وثارة أخرى قناع الجنون وثارة رابعة قناع فقد الحبيبة... ففي فاتحة نصوصه، «رجل وورقة وأحلام»، يتشبث الرجل الذي لا حاضر له بوهم لا يشاطره فيه غيره: وهم الفوز في اليانصيب وتغيير الوضع الاجتماعي والعودة للشباب لكن كثافة أوهامه انتهت به إلى فقد بيته وأقرب أقاربه، زوجته: «ترجع أنت في المساء متعبا. تطرق الباب مرات فلا تجاب. حتى المفتاح نسيت أن تحمله معك اليوم. تركت لك خبرا عند الجيران: «إذا حضر في المساء... قولوا له: إن اهتديت إلى مكاني، أيها القرد الهرم، فافعل بي ما تشاء». أما نص «في مقهى على ضفة نهر» فربما كان مقابله المحتمل من العناوين الممكنة «نهاية اللعبة» أو «نهاية التاريخ» أو «القيامة الآن». فالزمن الذي اعتقده الناس مستقبلا وأجهدوا أنفسهم في تعليق آمالهم بالخلاص على مشجبه، ذلك الزمن قد حل الآن ولكنه ليس مستقبلا. ليس في هذا الوجود مستقبل، ليس ثمة غد، ليس هناك غير الضياع الذي يؤجل الجميع مواجهته: «انتبهوا جيدا، وتابعوا هذا الفتى وهو يرسم. تعلموا منه. لكنه كان دائما يبدأ الرسم منطلقا من الشاطئ نحو المنبع. لا يصدق لحد الآن برغم كبره أن الأنهار هي التي تصب في البحار وليس العكس. لكن كثيرا من الحقائق تبدو غير قابلة للتصديق في زمننا الكابي هذا. هذا الفتى سيكون له شأن في المستقبل. ومات أستاذ الجغرافية أمام تلاميذه وهو يميز لهم بين أضخم نهر في العالم وبين أطول نهر. العمر لم يمهله حتى يرى شأن الفتى في المستقبل. ألسنا الآن في المستقبل.؟! هذه الكلمة الغامضة السرابية المنزلقة من بين أصابع اليدين كانزلاق الماء على راحتي متوضئ، شيخ قانت. الفعل المضارع هو ما دل على الزمن الحاضر والمستقبل. أليس هكذا علمونا قواعد اللغة العربية في المدرسة الابتدائية، وجذبوا آذاننا الطويلة ونحن نستظهرها؟ وإن شئت المستقبل القريب استعملت السين: مثال. سنصبح أمة متقدمة. وإن شئت المستقبل البعيد استعملت سوف: مثال. سوف نصبح أمة متقدمة. وقس على هذا.» أما خاتم النصوص الصّْغيريَةِ في هذه المجموعة القصصية المشتركة، نص «أحلام طاميزودا»، فيبدأ كأغلب النصوص القصصية بالسرد بضمير الغائب المتجرد الموضوعي العارف بدواخل وأسرار الشخوص الأصم اتجاه المعاناة الفردية. لكن ما أن تحمل الحبيبة على المحمل وتأخذ وجهتها نحو المقبرة حتى يلقي السارد على الأرض بكل الأقنعة والأدوار السردية ويتحرر من كل تجرده وموضوعيته ليعلن «بضمير المتكلم» أنه هو الحبيب وأن الراحلة هي الحبيبة وأن النص ما هو إلا ذكرى قصة حب كانت لاهبة: «كانت اللقاءات هنالك، في خلوة عن العالم، عن كل العالم. بعيدا عن الحروب، وعن الدمار وعن الدسائس وعن كل المخلوقات. ترى لماذا اخترنا بالضبط ذلك المكان؟ الم يكن الرومان يشقون عباب نهر سبو بسفنهم المحملة بالمؤونة ليرسوا بها في طاميزودا؟ الم يحبوا هنا؟ ألم يحترقوا بلظى الأشواق، و طول النأي، والمعاناة المؤلمة لهذا الحب الأزلي؟ أين أنت اذن؟ اذن أرى جسدك مسجى على المحمل، مغسولا، بعطر الجنان. أراك محمولة فوق الأكتاف، ليشق مسمعي، العويل، والصرخات الرعناء. اليوم لا أملك سوى الذكرى، اليوم أعود عند الغروب منكسرا، أيمم نحو مدينة كئيبة تغفو مجهدة، لتنكمش على أحزانها الدائمة» * ألقيت هذه الشهادة بمناسبة تكريم «جماعة الكوليزيوم الأدبي» المغربي لإدريس الصغير بمدينة مراكش.