إن دراستي لهذا الخطاب السردي «بوح بألوان الطيف» ترتكز أساسا على العلاقة التفاعلية بين البنية اللغوية التركيبية،باعتبارها مرجعا لمجموعة من العلامات السيميائية الدالة على ما يحيل المتلقي إلى البنية الدلالية، وإلى المرجعية القصدية المتغلغلة داخل الخطاب، والتي تعتبر معبرا للمتلقي إلى (دلالة خطاب البوح) الذي يعكس لا محالة، انعتاق الذات الساردة من قيود التكتم الناجمة عن مخاض أفعال سلوكية، وانفعالات نفسية متناقضة، وانتقالها من حالات: (القلق، الغضب، التوتر..) إلى حالات: (الفرح، الابتهاج، الاحتفال..) والعكس.. وكلها محفزات للبوح وإطلاق العنان لفعل الكتابة تعبيرا عن الأحاسيس والمشاعر والانفعالات المشتركة بين الذات الساردة والآخر. تأويلات دلالية في بنية العنوان: تشكلت بنية العنوان: «بوح بألوان الطيف» معجميا من ثلاثة ألفاظ، كونت في علاقاتها عالما منسجما من الرؤيا،ناسجة بذلك خيوط الأبعاد اللغوية والدلالية والجمالية لعتبة نصوصالكتاب، ولوشيجها السردي المتوالف بتراكماته الفكرية والثقافية والإنسانية، وكذا الذاتية والحياتية بالأساس. تأخذ اللفظة اللغوية أو البنية التركيبية لعتبة النصوص التي بين أيدينا، وظيفة العَبَّارَةِ الواقية لانتقال القارئ إلى ضفاف المعنى والدلالة المحتملة؛ بالمصاحبة والمقاربة والتأويل والتفسير… وبالتالي ليبحر المتلقي من خلالها في أعماق بنيات النصوص على مستويات عدة. «بوح»: هذه اللفظة في حد ذاتها مصدرية من الفعل باح يبوح بوْحا… وهو الكشف عن الخفايا والأسرار.. وقد تفضي دروب معانيها بالمتلقي إلى الإحالة على الاعتراف الذاتي والبوح النفسي عما يخالج الكاتب من مشاعر محمّلة بالحب والكره، بالفرح والحزن.. وبمتناقضات الحياة المعيشة.. وباليومي الرتيب.. أوكما أعربت عنه الكاتبة «سعاد الأمين» في مستهل نصوص مجموعتها. ولأنه بوح فإنه يخرج من المتراكم النفسي دون قيود، منطلقا نحو عالم الكتابة الرحيب، منفلتا من أغلال الرقابة الذاتية. والبوح إفراج عن المكتم المخفي للانجلاء والظهور، وهوأيضاتفريغ لامتلاء النفس الإنسانية بتراكمات ما تخلفه الحياة من متاعب كَأْداء، ومشاغل شاقة.. فتأتي الكتابة تنفيسا لطيفاعن الهموم، باعتبارها تطهيرا للروح والجسد من المعاناة النفسية. «بألوان الطيف»: «ألوان»: جمع لون وهو صفة الجسم من كل الألوان المحتمل وجودها فيزيائيا/ ضوئيا، وخاصة التي تتعلق بألوان الطيف السبعة.. وقد اختارت القاصة وجود كلمة «ألوان» في العنوان باعتباره بوابة النص ومدخله الرئيس لولوج ما يكتمه المتن/ (النص الحاضر)، من مسكوت نفسي أو اجتماعي أو غيره/ (النص الغائب).. للدلالة على تعدد البوح في حالاته النفسية والاجتماعية المنعكسة ألوانطيفها في الكتابة السردية للكاتبة «سعاد الأمين».. وقد جاء حرف الباء ضمن بنية العتبة للدلالة على الإلصاق المجازي (1) الذي يحيل المتلقي على نوعية البوح، إنه بوحبتلوينات متعددة شبيهة بتلوينات الطيف وكأنها موجات الضَّوء المنبعث من مصادر مختلفة… وهو ما تشير إليه القاصة «سعاد الأمين» تحت عنونتها: «قبل البدء» مستدعية المتلقي لمشاركتها بوحها قائلة: «واليوم.. أشاركك أيها القارئ بوح خواطري ونبض مشاعري… أنقل إليك أشجاني ولفح أوجاعي، هي خواطر متنوعة متلونة بألوان الطيف، صاحبتني سبع حجج، كانت رفيقتي.. شاطرتها أناتي وابتساماتي، فتحملت بصبر نزفي وعزفي…» (2) وتحاول الساردة في نصوصها «بوح بألوان الطيف» توحيد الذات من خلال ترجمتهاللإحساس الإنساني المشترك برؤية جمعية للعالم.. «وتوحيد الذات كما في مفهوم علم النفس عند فرويد، يدل على اتحاد الشخص بالشخص بحيث يحس كل منهما أنه عين أخيه يشاركه في إحساسه، وعاطفته، وفكره كأنهما شخص واحد..» (3)يتبين ذلك من خطابها السردي للمتلقي: «على رسلك قارئي، لا تظن أنك دخلت إلى محرابي وهيكل صلواتي، إنما صفحاتي يتعانق فيها الذاتي مع محيطك، ويتواشج فؤادي مع فؤادك، فيغدو كلا لا يتجزأ…»(4) وتقول أيضا: «نعم قارئي: إن همّ الواقع واحد، وجرح العروبة واحد، وذل التقهقر واحد، فدعني أعزف لحنا جماعيا بصوتي، لأني أغرد من داخل سربك وليس خارجا عنه.» (5). خطاب الساردة محمّل بعلامات دالة على البوح في أرقى تشكلاته الذاتية والنفسية والاجتماعية والإنسانية.. وإذا تأمل القارئ في ما سردته الكاتبة «سعاد الأمين» تحت عتبة: «قبل البدء» يتبين جليا أن الساردة تروم، وبإلحاح شديد أن تضع القارئ في السكّة الصحيحة حتى لا تزيغ به أهواء القراءة خارج ما تحسه من معاناة، هي في واقعها جزء لا يتجزأ من واقع المتلقي. بوح صادق عميق المعنى والدلالة، بوح شفيف بألوان الطيف الحياتية المتعددة… وهو بالتالي، سمة دالة على الدعوة إلى المبارحة الوجدانية، لالتقاء الساردة بالمتلقي على مائدة المكاشفة والتجرد الخالص من الأنانية والذاتية، ودعوة للانعتاق نحو التطهير والتخلص من عوالق تراكمات الذاتي المجروح واليومي المثقل بالمتاعب والمشاق. وتستمر الساردة «سعاد الأمين» في تشبثها بإخلاصها للبوح في دلالاته وسيماته المرتبطة بالكتابة، لتعرب من خلالها عن سلوكات ذاتية، وانفعالات نفسية عبرت عنها ب «الكتابة: قلق…. وأرق…. وعشق…». ثلاثية لفظية شكّلت نسقا بنيويا ودلاليا وفنولوجيا، إذ تميزت على المستوى الصوتي بنغم عفوي، منحها لمسة موسيقية حزينة للبوح بشتى المتناقضات الحياتية، المتشاكلة منها والمتباينة، والتي شخصت بعمق حالات: (قلق… وأرق) (وعشق…).. إذ تمثلت في انفجارصوت (القاف) في آخر كل لفظة خصوصا عند الوقوف عليها بالسكون، حيث تظهر قوة وشدة الانفجار الفونولوجي/ الصوتي المنفلت من مخرج أقصى اللسان مع ما يحاذيه من الحنك اللحمي الأعلى، كما ذهب إلى ذلك اللساني «كرامسي» بأن «الكلمة أصغر وحدة مستقلة للغة، تشير إلى نوع معين من حقيقة فيما وراء اللغة/ أي المعنى وتتميز بخاصيات شكلية (صوتية وصرفية) ودلالية..»(6)وقد جاءت هذه الثلاثية مترجمة بصدق (دلالة البوح بصوت الأنثى الصاخب) والذي خلق مساحات لتردد صوت أنثوي جهوري فالق لكل معتم أو مكتوم.. أشارت إليها بعلامة النقط (….) بين كل لفظة…ولها معناها ودلالتها الخاصة بها في دنيا البوح. هذه النقط (….) التي فصلت بين الكلمات تحيلنا سيميائيا على دلالة التصدّع والانفصال النفسي أثناء ردود أفعال (القلق… والأرق… والعشق…) وهي بالتالي علامات سيميائية لتحول الكتابة عند الساردة.. فقد يحدث حالة (القلق…)من تدفق للكتابة الإبداعية،وتوارد الأفكار والتعبير عن المواقف وغيرها، ما لا يحدث حالة (العشق…) والعكس صحيح…وهذا ما عبرت عنه الساردة في هذا النص بإلحاح مستعملة الفعل المضارع، (سأكتب…)،والذي تكرر للدلالة على فعل الكتابة أكثر من سبع مرات، لتثبيت استمرارية تكرار حالات الكتابة الناجمة عن البوح..»سأكتب… فبالكتابة تتحول الكلمة حجرا….سأكتب.. سأكتب لأنني لا أتحمل وجع السكوت…سأكتب لأن الكتابة بوح للخاطر وصدى للوجدان…سأكتب… لأن الكتابة موقف وقرار واختيار…سأكتب لأن الكتابة كشف لأستار الظلم والظلمة…سأكتب لأهب قيثارتي الحياة لتنطلق أوتارها من جديد..سأكتب لأن الكتابة عشق للإنسان، عناق أبدي مع قضاياه…» (7). إن اعتماد الساردة «سعاد الأمين» في حياكة نصوصها على بنية الجملة الفعلية في زمن المضارع للدلالة على الحدوث والتجددسواء في (زمن الحاضر)إذ يحيل المتلقي على راهنية الحدث، أمفي (زمن المستقبل) المسبوق بحرف (السين)للإحالة على الاستمرار التًّجدُّدِي،أو لما يتوقع حدوثه، كل ذلك لجعل المتلقي في قلب الحدث، ومنحه جواز سفر لاكتشاف عوالمالمعنى الخفية للنص.وبذلك تعتلي الجملة الفعلية منصة تتويج المعنىفينصوص الأديبة «سعاد الأمين» الموسومة ب «بوح بألوان الطيف». وفي نص «بوح الخاطر»، تفتتح الساردة نصها بجملة فعلية في زمن مضارع هي: «أستيقظُ فجرا..» الفعل والفاعل متبوعا بظرف زمان دال على حدث الاستيقاظ المبكر زمن الفجر.. وهي فترة زمنية تستيقظ فيها الذات الكاتبة من سباتها لتناجي الكون بوحا داخليا يسجله قلمها الفضي بصفاء ونقاء.. وليبوح ويعترف في محراب الكتابة المقدسة بكل الأحاسيس والمشاعر فالكاتب في نظرها: «كتلة من أحاسيس.. شعلة من ألم.. الكاتب لا يملك إلا القلم.» (8). في كل نص من نصوصها السردية بوح جديد وعلامات دالة على البوح واستفراغ لمكامن الذات مما يُثقلها من هموم وكروب.. تسافر بالمتلقي عبر مساربها إلى عوالم الذات المتشظية، وتحط بهمن خلال محطات البوح المختلفة،وانشطار الذات بما تعانيه من مفارقات…ولتتحدث بضمير المتكلم.. للدلالة على عمق المعاناة، وجراح الأسرة المكلومة، المتمثلة في فقد الأب..فكان البوح بكاء «بلون الجمر» وهو علامة دالةعلى معنى الاحتراق، احتراق (ذات الساردة) وفناؤها في (ذات الأب) خلافا للبوح بلون الطيف كما في نصها المعنون ب «بكائية بلون الجمر» تقول: «ويأبى ألم الفراق أن يفارقني… يضغط علي بأنيابه… يمزق ضلوعي، ويكتم انفاسي، أتذكر أبي… وأخال صوتك في دمي…» (9) لتخلخل بنية التلقي عند القارئ، وتحفزه على البحث عن شظايا الذات الموزعة بين متناقضات الواقع والحياة من أفراح وأتراح، والتقاء وافتراق، وموت وحياة، وحب وكره…هذا النص الذي تسرد من خلاله الأديبة «سعاد الأمين» فصلا مكثفا من سيرتها الذاتية لترصد ومضات بارقة في علاقتها بأبيها. «بوح بألوان الطيف» مجموعة نصوص سردية تنوعت مواضيعها دلاليا بتعدد ألوان الطيف، تترجم من خلالها الساردة «سعاد الأمين» تجربتها السردية التي تعكس طريقتها التعبيرية في أسلوب الكتابة.. وقد تميزت نصوصها بالحضور القوي للذات المتحدثة ومشاركة الآخر/ المتلقي، في العملية التواصلية لخطابها السردي، ومحاورته ومناوشة أفكاره، وجعله في صميم الحدث، وصلب المشترك الإنساني. هوامش: 1 – ابن هشام الأنصاري «مغني اللبيب عن كتب الأعاريب» دار الفكر/ بيروت/ الطبعة الخامسة 1079 ص: 137 2 – سعاد الأمين «بوح بألوان الطيف» مقاربات للنشر والصناعات الثقافية/ فاس ط/ 2018، ص: 7 https://ontology.birzeit.edu/term/3 – الذات+توحيد (الأنطولوجياالعربية) 4 – سعاد الأمين «بوح بألوان الطيف» مقاربات للنشر والصناعات الثقافية/ فاس ط/ 2018، ص: 8 5 – نفس المصدر السابق/ ص: 85- «6 – معجم السيميائيات» فيصل الأحمر، منشورات الاختلاف/ الجزائر، والدار العربية للعلوم ناشرون/ الطبعة الأولى 2010، ص: 259 7 – سعاد الأمين «بوح بألوان الطيف» مقاربات للنشر والصناعات الثقافية/ فاس ط/ 2018، ص: 11، 12 8 – نفس المصدر السابق/ ص: 14 9 – نفس المصدر السابق/ ص:19