تجليات دلالية وبلاغية شهد الحقل الثقافي الأدبي بالمغرب بروز نصوص مقتضبة تقرأ في دقيقة أو دقيقتين أو قصيصات في الجرائد المغربية منذ سبعينيات القرن الماضي، لكن كان يعوزها الوعي بمقصديةالتجنيس، دون أن ينقص هذا من قيمتها الأدبية والفنية، إذ لم يتبلور مفهوم القصة القصيرة جدا باعتباره مصطلحا نقديا بالمغرب إلا خلال تسعينيات القرن الماضي. ومن الأسماء التي رسخت هذا المنحى الابداعي القاص العتروس وحسن البقالي وعلي بنساعود وحميد ركاطة وحسن برطال وميمون حرش وعز الدين الماعزي وغيرهم..أما نقدا فنقرأ لميمون مسلك ويوسف حطيني وحميد الحميداني وجميل حمداوي ومحمد يوب وسعاد مسكين ونور الدين الفلالي وعبد المالك اشهبون وإسماعيل اعبو وغيرهم.. القصة القصيرة جدا جنس أدبي حكائي منفتح، تنحصر كميا في صفحة واحدة أو أقل من الحجم المتوسط، وكيفيا تشترط نسج حكاية مقتضبة، تنبني على حدث مركزي، وتتمحور حول شخصية أو شخصيتين في بنية سردية متسقة لغويا تتعالق فيها المقدمة بالعرض، انتهاء بالقفلة المغلقة أو المفتوحة، وذلك بحسب ما يستدعيه التخييل الحكائي الذي تشكله مكونات لغوية في سياق سردي كالايجاز و الاقتضاب والحذف والتلخيص والتكثيف المعنوي والمفارقة الدالة و الانزياح، مما يفترض قفلة إدهاش وغرابة أو سؤال وتأمل… في الاقتراب من المجموعة القصصية القصيرة جدا (نجي ليلتي) للكاتب ميمون حرش تتمظهر القصص عبر معيار القصر ، إذ لا تتجاوز صفحة واحدة من الحجم المتوسط، ويؤشر عنوانها على ضمير المتكلم المفرد (ليلتي) وعلى الحوار الداخلي «المناجاة» الذي يستدعي خطابا تخييليا ذاتيا أو سيريا يضيء عتمات الذات وهواجسها وعزلتها. فصيغة فعيل «نجي» قد نعتبرها مجازا مرسلا اشتقاقياللدلالة على اسم فاعل (مناجي ) أو اسم مفعول (مناجى) وهذا التغميض يوجه المتلقي بوظيفته الاغرائية، وكذا الايحائية الى الانفتاح على ممكنات دلالية قد تكون طيفا أو مرآة أو امرأة أو تابعا أو رفيقا أو رمزا وقناعا، وفي كل الحالات هو قرين مقترن بليلة السارد، هذا الفضاء الزمني المعتم الذي تصحو فيه الاشباح وتتفتق فيه مواجع الكينونة بالبوح والحكي. لذا فهاته القصص في تنوعها رجع مرآوي لنداء الأعماق ..لكنها مرآة حية منفتحة على متلق متعدد. ليس المقام هنا تجنيس النصوص وإن كان بعضها ينأى عن نوع القصة القصيرة جدا بالإنجذاب نحو الشاعرية بالتجنيس الصوتي كما في قصة «اعذروني» : (قف..فق..) علموني أجلس، عودوني أصمت ولا أنبس.. فعذرا إن استبحت الممنوع أيها الناس أو التجريد الرومانسي بالاستغراق في التأمل( قصة تضامن ) أو تجاوز الحكاية الحدثية (قصة ثمن الاخلاص )، لكن أغلب النصوص تتشكل من عناصر متواترة في نوع القصة القصيرة جدا وتنتظم في بنيات متفاعلة سأقتصر على بنيتين منها: أولا :بنية المفارقة: تتجلى في بتوظيف تعارض ضدي بين معنيين أو وضعيتين متناقضتين، وكلما اتسعت الهوة بينهما كلما استشعر المتلقي موقفا نفسيا . هذه المرايا السردية المتقابلة تثيرحمولات مأساوية لأن الشخصية تتعثر بمصير غير منتظر وتجرفها الاحداث الى عالم النقصان. ولتقريب المتلقي من هاته المفارقة، أقترح قصيصة (الفيلم) (استهوتنا رقصة «زوربا» في الفيلم رقصنا مثله وجها لوجه وظهرا لظهر… انتهى المشهد، تعبت ونمت… وظلت هي ترقص على روحي بقية الفيلم..) لاشك أن المفارقة بقدر من تبنى على التقابل في المعنى بين كلمتين في تركيب معطى ( وجها لوجه- ظهرا لظهر- انتهى/ استهوتنا» بدأنا» ) بقدر ما تتشكل عبر عناصر أخرى تكون بنية النص مثل الانتقال من متتالية فعلية تدل على» الماضي «: (استهوتنا- رقصنا – انتهى – تعبت- نمت ) الى جملة فعلية في القفلة الدالة على استمرارية الزمن الحاضر، وهذا التحول في الزمن الفعلي يضاعف من وقع المفارقة الدلالية،كما في استعمال اللفظة (فيلم). ففي البداية استعملت استعمالا حقيقيا حيث يرقص زوربا رقصة الحرية ..فيما استعملت نفس اللفظة في آخر النص استعمال تورية المقصود هو المعنى الثاني (الحياة ) لا الأول ..ليجعلنا نستشعر المفارقة بين حياة المتعة وحياة الضنك والمأساة ..إن فيلم زوربا ليس سوى تعلة سردية لوضع التلقي أمام مفارقة بين العالم الخارجي (فاعل العنف ) والكون النفسي الباطني (موضوع العنف) لكن يلزم تمثل بنية المفارقة من حيث وظيفتها التأثيرية (السخرية) من الآخر والذات ومن تبدلات الزمن. إنها سخرية سوداء ونقد لنموذج من النساء وللذهنية الاستبدادية التي تهيمن على المجتمع دون أن يعني هذا موقفا سلبيا من الكاتب ضد المرأة لأننا نجد قصصا تكشف عن العنف الذكوري السائد في أقصى تجلياته كما في قصة ( عيد ميلاد ص13- آهات ص23-). تعتبر السخرية من الأساليب البلاغية الأكثر تداولا في مجموعة «نجي ليلتي» القصصية عبر التورية والكناية والنكتة وغيرها ..لا يستهدف منها الكاتب الفكاهة او مجرد هزل بل لتحقيق موقف نفسي يقظ لدى المتلقي والارتقاء به الى مقام التفكير في الكون والكائنات بالوعي النقدي .وباستقصاء النصوص نكتشف نسقا للمفارقة من علاماته خرق بنية دلالية في سياق سردي بمقارنة عابرة بين عتبة النص قفلته … يمكن التمثيل لذلك بجل النصوص حيث تأتي الجملة الأولى دالة على الايجاب وترد القفلة على نفي الإيجاب. إن اعتماد الكاتب على أسلوب السرد في القفلة لا يعني قطعا مجرد الاخبار، بل يتجاوزه الى التأمل والتساؤل والإدهاش والتغريب . ثانيا: بنية التكثيف الدلالي ينهض السرد بأدوار متعددة منها التلخيص كما في قصة (الزوجة المسلسلاتية)، لكن أهم سمة تطبع الحكي هي الحذف، منها حذف شخصيات ثانوية أو مساعدة والإبقاء على الأساسي منها أو المحوري، وكذلك حذف أسمائها وصفاتها الخارجية الجسمية ولباسها كي يجردها ما أمكن من الزوائد بالإشارة الى محددات كالجنس (هو /هي) والدور الاجتماعي(زوج …الخ)، وبالتالي وضع المتلقي أمام كائن لا يتم إدراكه إلا من خلال مراياه النفسية في بنية اجتماعية مفترضة (كالأسرة والشارع ووو) ..ويتمثل الحذف أيضا في خلق ثغرات في البناء السردي بإغفال أحداث ثانوية أو أساسية أحيانا لتسريع الزمن من جهة، وتحفيز المتلقي على تمثل الوضعية المتخيلة وتشويق لاستشراف الآتي ..ويلعب الإيحاء دورا في الإشارة الى المحذوف كمت في قصة ( الفيلم): ( من عل، كصخرة امرئ القيس، حطت على قدميه حصاة ملفوفة في ورقة..تخطاها دون أن يكترث وبدل أن ينظر فوق أو يقرا الورقة، تفل على يمينه وهو يتمتم: « سنظل مثل حفار القبور همنا تحت وليس فوق»). في هذا النص سرد ملغز كيف أن صخرة عظيمة تحولت الى حصاة صغيرة ؟ وأي إيحاء تشير إليه الورقة ؟ وهل لها مفعول السحر والشعوذة ؟ وهل كان السارد مدركا لسر الورقة والحصاة وهو يقرنها بالكون السفلي المتعارف عليه في الثقافة السائدة، بأنه الجنسي والمادي والدنيوي الفاني في مقابل العالم السماوي عالم النبوءات والتجليات ؟..إن عدم الكشف عن حقيقة الورقة يؤشر على وظيفة سردية إغرائية للمتلقي تستحثه لاستكشاف السر. بالموازاة مع ذلك نجد تقنية الحذف تطول كثيرا الأمكنة والازمنة الجزئية والتفصيلية التي قد نجدها في القصة ولا تحتملها القصة القصيرة جدا ..فاذا تجاوزنا زمن الأفعال في سياقاتها التركيبية ( الماضي والمضارع ) أو الزمن النفسي للشخصية، فإننا لا نجد ما يعين وقتا أو زمنا بمرجع واقعي محدد.إنه زمن عام وقس عليه المكان شبه المبهم لأن السارد لم يذكر الطريق واكتفى بألفاظ (تخطاها- فوق – تحت- يمين-). ومما يضاعف دلالات النص تضمنه لطبقات من الميتانص، سواء بالإحالة على صخرة امرئ القيس «كجلمود صخر حطه السيل من عل» في معرض وصف الفرس أو الإحالة على المثل «مثل حفار القبور» أو الإحالة على الثقافة الشعبية « تفل على يمينه».. فالتفل من طقوس الشعودةللتخلص من التبعات..نخلص الى أن التكثيف الدلالي لا يتأتى إلا بالحذف والتثغير والإيحاء والترميز، وهو ما أغنى القصة وجل القصص بجماليات خلاقة تجعل الشخصيات تعيش وضعا وجوديا متوترا قلقا ومحبطا لولا فسحة المناجاة الليلية. * ميمون حرش: «نجي ليلتي»، قصص قصيرة جدا، منشورات المهرجان العربي الثاني للققج، الناظور .2013