وفاة ملاكم بعد أسبوع من فوزه باللقب الذهبي لرابطة الملاكمة العالمية    البطولة... نهضة الزمامرة يرتقي إلى الوصافة واتحاد طنحة يعود لسكة الانتصارات    القضاء يدين محمد أوزال ب3 سنوات ونصف حبسا نافذا    كلميم..توقيف 394 مرشحا للهجرة غير النظامية    الكعبي ينهي سنة 2024 ضمن أفضل 5 هدافين في الدوريات العالمية الكبرى    عملية أمنية تنتهي بإتلاف كمية مخدرات بوزان    الريسوني ل"اليوم 24": تعديلات مدونة الأسرة خالفت الشريعة الإسلامية في مسألة واحدة (حوار)    حملة مراقبة تضيق الخناق على لحوم الدواجن الفاسدة في الدار البيضاء    زياش يضع شرطا للموافقة على رحيله عن غلطة سراي التركي    بوتين يعتذر لرئيس أذربيجان عن حادث تحطم الطائرة    قوات إسرائيلية تقتحم مستشفى بشمال غزة وفقدان الاتصال مع الطاقم الطبي    المغرب داخل الاتحاد الإفريقي... عمل متواصل لصالح السلم والأمن والتنمية في القارة    مرتيل: تجديد المكتب الإقليمي للجامعة الوطنية للصحة    تشديد المراقبة بمحيط سبتة ينقل المهاجرين إلى طنجة    الاحتفاء بالراحل العلامة محمد الفاسي في يوم اللغة العربية: إرث لغوي يتجدد    الداخلة : اجتماع لتتبع تنزيل مشاريع خارطة الطريق السياحية 2023-2026    غزة تحصي 48 قتيلا في 24 ساعة    تأجيل تطبيق معيار "يورو 6" على عدد من أصناف المركبات لسنتين إضافيتين    "العربية لغة جمال وتواصل".. ندوة فكرية بالثانوية التأهيلية المطار    خبراء "نخرجو ليها ديريكت" يناقشون موضوع مراجعة مدونة الأسرة    اليابان.. زلزال بقوة 5.1 درجة يضرب شمال شرق البلاد    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    ارتفاع ليالي المبيت بالرباط وسط استمرار التعافي في القطاع السياحي    مدرب الوداد: بالنسبة للمغرب الفاسي كل مباراة ضدنا بمثابة نهائي الكأس    حصيلة الرياضة المغربية سنة 2024: ترسيخ لمكانة المملكة على الساحتين القارية والدولية    حجم تدخلات بنك المغرب بلغت 147,5 مليار درهم في المتوسط اليومي خلال أسبوع    ترامب يطلب من المحكمة العليا تعليق قانون يهدد بحظر "تيك توك" في الولايات المتحدة    مطالب بإنقاذ مغاربة موزمبيق بعد تدهور الأوضاع الأمنية بالبلاد    فرح الفاسي تتوج بجائزة الإبداع العربي والدكتوراه الفخرية لسنة 2025    مجلس الأمن يوافق على القوة الأفريقية الجديدة لحفظ السلام في الصومال    عائلة أوليفيا هاسي تنعى نجمة فيلم "روميو وجولييت"    دراسة: أمراض القلب تزيد من خطر اضطراب الخلايا العصبية    مباحثات مغربية موريتانية حول تعزيز آفاق التعاون الاقتصادي بين البلدين    مونديال الأندية.. الوداد الرياضي يشارك في ورشة عمل تنظمها "الفيفا" بأمريكا    مبادرة مدنية للترافع على التراث الثقافي في لقاءات مع الفرق والمجموعة النيابية بمجلس النواب    استثناء.. الخزينة العامة للمملكة توفر ديمومة الخدمات السبت والأحد    وفاة زوج الفنانة المصرية نشوى مصطفى وهي تناشد جمهورها "أبوس إيديكم عايزة ناس كتير تيجي للصلاة عليه"    الرئيس الموريتاني يجري تغييرات واسعة على قيادة الجيش والدرك والاستخبارات    كيوسك السبت | الحكومة تلتزم بصياغة مشروع مدونة الأسرة في آجال معقولة    أزولاي يشيد بالإبداعات في الصويرة    حريق يأتي على منزلين في باب برد بإقليم شفشاون    البرازيل: ارتفاع حصيلة ضحايا انهيار جسر شمال البلاد إلى 10 قتلى    يامال يتعهد بالعودة أقوى بعد الإصابة    اقتراب مسبار "باركر" من الشمس يعيد تشكيل فهم البشرية لأسرار الكون    لأداء الضرائب والرسوم.. الخزينة العامة للمملكة تتيح ديمومة الخدمات السبت والأحد المقبلين    المدونة: قريبا من تفاصيل الجوهر!    بورصة البيضاء تغلق التداولات بالأحمر    لقاء تواصلي حول وضعية الفنان والحقوق المجاورة بالناظور    2024.. عام استثنائي من التبادل الثقافي والشراكات الاستراتيجية بين المغرب وقطر    استهلاك اللحوم الحمراء وعلاقته بمرض السكري النوع الثاني: حقائق جديدة تكشفها دراسة حديثة    الثورة السورية والحكم العطائية..    هل نحن أمام كوفيد 19 جديد ؟ .. مرض غامض يقتل 143 شخصاً في أقل من شهر    برلماني يكشف "تفشي" الإصابة بداء بوحمرون في عمالة الفنيدق منتظرا "إجراءات حكومية مستعجلة"    نسخ معدلة من فطائر "مينس باي" الميلادية تخسر الرهان    للطغيان وجه واحد بين الدولة و المدينة و الإدارة …فهل من معتبر …؟!!! (الجزء الأول)    حماية الحياة في الإسلام تحريم الوأد والإجهاض والقتل بجميع أشكاله    عبادي: المغرب ليس بمنأى عن الكوارث التي تعصف بالأمة    توفيق بوعشرين يكتب: "رواية" جديدة لأحمد التوفيق.. المغرب بلد علماني    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



وهج القفلة في مجموعتي «الرقص تحت المطر» و«مثل فيل يبدو عن بعد» للكاتب المغربي حسن البقالي
نشر في بيان اليوم يوم 02 - 10 - 2015

القصة القصيرة جدا تشبه شحنة كهربائية، فقد تكون خفيفة للغاية بحيث لا تحس، وتلك سمة النصوص البسيطة ذات الاستعمال الوحيد، التي تقرأ وتنسى غير مخلفة أي أثر يذكر، وقد تكون قوية بحيث تهز القارئ هزا، وتؤثر فيه تأثيرا بالغا، يدوم لفترة طويلة، يرفع الحجب ويغير النظر، وتلك سمة النصوص الرفيعة..
ونصوص القاص المغربي القدير حسن البقالي، تنتمي للنوع الأخير، فكتاباته ترقى باللغة وتتميز بالعمق والجدية.
حسن البقالي، مبدع حقيقي، يعد من الرواد الذين يحملون المشعل، يسعى إلى إبداع نصوص خالدة تقاوم الزمن، وتبقى قابلة للتأويل دائما، مهما اختلفت المرجعيات باختلاف الأزمنة والأمكنة، وهو ما يؤكده الناقد المصري الدكتور عبدالغفار مكاوي، في الصفحة الأخيرة من أضمومة (مثل فيل يبدو عن بعد)،
تعمد نصوصه في الأضمومتين معا،على كشف خبايا النفس البشرية في نزواتها وميولها، حيث شكل أسلوبه المميز إرساء مدرسة أدبية خاصة به، لتميزه في تقنيات السرد عن غيره.
كما أن تجربته تشكل إرهاصات لمد جديد في فن الكتابة القصصية، ستؤثر حتما في الأجيال القادمة، وهي بلا شك، بصمة لا تزول بعامل الزمن في حقول الآداب العالمية.
إن القاص في نصوصه، يتغلغل إلى أعماق الذات الإنسانية قصد استجلاء هشاشتها، وما تختزنه من شر وكم هائل من الرغبة في التدمير، تدمير الخارج الذي إما يعيق إشباعها، وإما أنه يساهم في عرض غزارة الإشباع لدرجة الحرمان.
ومن بين العناصر الدالة على حضور التدمير تيمة الموت،حيث يحضر الحديث عنه في مختلف تجلياته التي يبقى العنف أحدها،و هو الوجه الثاني للحب.
فالعنف في فريديريش ماور(أنا فريديريش ماور أريد...،ص6_7)،من أضمومة،(الرقص تحت المطر) ما هو إلا شكل من أشكال العبادة وتجل من تجلياتها.
عنف وقسوة من طرف الفاعل يقابله استسلام من قبل الضحايا. فالأول أتى وهو يعرف لماذا أتى، كما أن العرافة، في نص (غروب،ص8)من الأضمومة نفسها، سارت نحو حتفها وقد رأت السكين وتجاهلتها..
كل ذلك في سرد رائع و لغة مقتصدة محكمة السبك. معتمد على الكثافة والمفارقة والشاعرية، مع اعتماد العين الإبداعية اليقظة التي تقتنص اللحظات الرائعة الناطقة بغور الوجدان و أسئلة الذات التي لا تنتهي.
و سنعمل على مقاربة أضمومتي حسن البقالي،(الرقص تحت المطر) ،و( مثل فيل يبدو عن بعد) ، بالتركيز على القفلة بخاصة.
وأول نص يصادفنا في المجموعة الأولى، يحمل عنوانا دالا و معبرا:(دمى روسية،ص5)،حيث كل دمية تخفي صورة مصغرة عنها وهكذا دواليك، إلى أن نصل إلى الدمية الأكثر صغرا، وهي هنا، القصة القصيرة جدا. ونجد الأمر ذاته في نص(عبق عابر،ص66)، الذي سنقوم بتحليله بشكل أوفى، حيث نجد أن الصبية تلعب دور القصة القصيرة جدا، التي ما إن تبدو حتى تغيب، كما نجد في المجموعة الثانية نص (نقطة) الذي يعبر عن الانتصار لهذا الجنس الوليد، بدفعه إلى واجهة الإبداع، وانتزاع الاعتراف به من طرف النقاد..و لا يكتفي القاص بذلك، بل يقدم بيانا في بداية الكتاب يدافع فيه عن اللون الأدبي الجديد وينتصر له ضد كل تهجم غير مسوغ، أو إقصاء غير مبرر، ص5_10
و النصوص القصصية التي تحتفي بالجنس الجديد وتشتغل عليه يمكن وسمها بالميتاقص.
وسنجعل شغلنا و اهتمامنا ينصب على القفلة لما تتميز به من خصائص فنية رفيعة بشكل عام، ومن توهج وادهاش ومتعة بالنسبة لنصوص حسن البقالي، بشكل خاص.
إذ هي دعامات الكتابة القصصية المميزة لنصوصه ضمن عناصر أخرى مهمة، تشكل المعمار العام والبناء المتين لمجموعتيه: (الرقص تحت المطر)، و( مثل فيل يبدو عن بعد).
إن الدخول إلى قصر بديع الكتابة القصصية لحسن البقالي يتطلب اختيار الباب الأنسب من بين الأبواب الكثيرة و المتاحة،و منها باب القفلة،التي وجدنا أنها تتميز بالتنوع و التوهج و الإبهار إضافة إلى الفائدة.
القفلة المنطقية
ونقصد بها تلك القفلة المرتبطة بنص يعتمد في بنائه على التشكيل الدائري، بحيث إن كل جملة أو فعل يكون نتيجة منطقية للذي قبله، وفي الآن ذاته مولدا للذي بعده، أي يكون سببا و نتيجة في الآن نفسه، في وشيجة قوية وسبيكة دائرية تترابط أجزاؤها بصلابة المنطق. فإذا تم حذف جملة واحدة انهار البناء برمته، وتداخلت الأسباب والنتائج بشكل غامض، وفوضوي.
من بين النصوص الدالة على حضور هذه المسألة:(لانهاية،ص17)،(دم السلالة،ص28)،(نبوءة،ص39)،(قطرة،ص42)،من أضمومة،(مثل فيل يبدو عن بعد)،و(حقول الممكن،ص59)،(توهان،ص50)،من أضمومة الرقص تحت المطر.
فنص (توهان) مثلا، ينتقد بقوة التطور الصناعي، حيث تبرز الآثار السلبية للمعالجة الكيماوية على صحة الإنسان وعلى التوازن الطبيعي بشكل عام.
يقدم لنا النص مشهد طيران النحل في البراري، لا بحثا عن الرحيق، ولا لأنها قريبة من خفيرها، ولكن لسبب منطقي مؤثر هو المصنع الكيماوي الذي أثر فيها تأثيرا بليغا، لدرجة جعلها تفقد إحساسها بالمكان. العلاقة وطيدة بين المواد الكيماوية وفقدان النحل لدوره الطبيعي، فهي التي تقف وراء اختلاله بعد أن كان يعيش حالة توازن رائعة وانسجام بليغ. منذ ظهور المصنع فقد النحل حضوره ولم يعد يقوم بما أوكلته به الطبيعة، فتدخل الإنسان كان حاسما في الإخلال بالتوازن الطبيعي،و هو ما سينعكس سلبا عليه.
النحل يقدم العسل،العسل شفاء وصحة.
المواد الكيماوية للزيادة في الإنتاج وتحسين الجودة، المواد الكيماوية تخل بالتوازن،الإخلال بالتوازن يعني الموت.
إذن نحن أمام مقابلة بين الموت و الحياة،و على الإنسان الاختيار.
إن الهدف المطلوب انقلب إلى نتيجة مرفوضة.
قد يبدو الأمر عاديا، ومألوفا للجميع، غير أن البناء كان رائعا. وهنا تبرز قيمة الأدب الذي يحول المألوف إلى مدهش و صادم،لأنه يمنحنا الكشف بما يعنيه من إزالة الغطاء و إبراز الأمور بشكل أوضح،فتسقط الأوهام..
فأين يظهر البناء الدائر؟
الجملة الأولى هي نتيجة لما بعدها، وبالتالي تصح أن تكون في النهاية، غير أن ورودها في البداية كان قصد حث مخيلة القارئ على التوقع وطرح الأسئلة، لم ظلت النحلات تحوم في البراري؟ وقد جاءت نقط الحذف للدفع بالسؤال إلى حدوده القصوى، حيث من المفروض على القارئ أن يملأ البياض ويساهم في فعل الكتابة بخروجه من دائرة القارئ السلبي إلى دائرة القارئ المنتج. تأتي الجمل اللاحقة كنوع من البحث عن الأجوبة للسؤال المطروح، ما السبب؟
تتعدد الأجوبة، بنفيها، لا بحثا ولا قربا من الخفير،وإذن،لم؟
و هنا يأتي الجواب،لأن مصنعا كيماويا بني بالقرب..
إعادة بناء النص بعد القراءة سيكون بالشكل التالي، بناء المصنع أثر في النحل، النحل بفعل التأثير الكيماوي فقد الإحساس بالمكان، النتيجة: لم يعد ينتج العسل.
هكذا نجد أن البداية هي النهاية و أن النهاية هي البداية.
فما جاء في الجملة الأولى هو نفسه الذي جاء بالجملة الأخيرة مع دلالة توضيحية وهي تضييع الجهات، ويكون القارئ على علم بسبب تضييع هذه الجهات.
إن النص استفزازي وصادم في الوقت ذاته، لأنه يدفع المتلقي إلى التساؤل ولا يهادنه بمنحه الأجوبة الجاهزة، توريط لذيذ قصد البحث عن علاج للمسألة قبل استفحال الأمر.
إننا في مواجهة الموت، وعلينا إدامة الحياة، ولا يمكن أن يتحقق الهدف إلا عبر الإبقاء على توازن الطبيعة.
وقد وظف السارد جملة رائعة ومعبرة عن هذا الإحساس بالاختلال (ألهب نومها بالكوابيس وضيع كل الحواس)، وهي جملة دالة على بصمة المبدع حسن البقالي والمعبرة عن خصوصيته وتفرده والحاضرة بمجمل نصوصه.
فالجملة إياها، جمعت بين عنصرين حادين ومؤثرين بقوة، اللهب المرتبطة بالنار، والكوابيس المفقدة للنوم المريح والصحي، والنتيجة المنطقية،هي إفقاد النحل حواسه، بمعنى الضياع..الضياع الخاص و العام.
القفلة الساخرة
وهي قفلة تحضر في نصوص عدة منها:(البطل،ص 34)، (قائد محك،ص 35)، (عقدة ابن المعتز،ص )31)، (استيهام،ص 36)، (جد وحفيد،ص 37)، من(اضمومة: مثل فيل يبدو عن بعد و(على الشاطئ، ص 62)،من( اضمومة:الرقص تحت المطر).
قصة (البطل)مثلا، تتشكل من جملتين فعليتين ماضيتين، وشبه جملة وجملة اسمية،الجملتان الفعليتان تفيدان خوض المعركة و إحراز النصر، مما يحقق للذات الشعور بحلاوة الفوز. لتأتي شبه الجملة فاصلة بين حدين، أي بين الجملتين الفعليتين و الجملة الاسمية، بطريقة مدروسة وذكية تشير بطرف خفي إلى تغير في الحركة والمعنى..إن الاستيقاظ فعل يخبر بالفعل الذي قبله ألا وهو النوم، وبما أن النوم هو المساحة السابقة والمولدة للأفعال المذكورة فإننا نحس أن السارد قد أوحى بالقفلة قبل ورودها، واعتمد على إدراك القارئ للقبض عليها، بمعنى أن الجمليتين الأوليين اللتين تحملان قيما ايجابية،خوض الحرب وتحقيق الانتصار، ما هي إلا أحلام راودت الرجل أثناء نومه، وأن لا علاقة له بالبطولة، لا من قريب ولا من بعيد. وتأتي القفلة الساخرة لجر قطعة الدومينو فينهار البناء و تتبدى السوءة، و تتجلى الحقيقة واضحة. فالبلل الذي أطل من سرواله لا يدل إلا على أنه جبان، وبالتالي يكون العنوان مناقضا بشكل ساخر لخاتمة النص: (بطل=جبان) إنه اللابطل، إذ البلل فعل مرتبط بالمنطقة السفلية للإنسان ودالة على ما هو سلبي، في حين البطولة مرتبطة بالاعلى و دالة على ما هو ايجابي.
إن القفلة الساخرة وردت و كأنها تقوم بإدارة مؤخرتها للاستهزاء بمثل هذا الرجل الذي يمارس بطولته نوما ولا يحققها...
و الأمر نفسه ينطبق على نص(قائد محنك)
إنه القائد الذي يقود إلى الهزيمة، لا إلى النصر.
كما أن نص(استيهام)يحفر المجرى نفسه ويكتب السقوط ذاته، فعبد الودود سيدرك تفاهته في الوجود ويقوم بوضع حد لحياته، وتكون القفلة ساخرة وهي ترسم فعل الانتحار.
أشير إلى خاصية أخرى تحضر في مجمل نصوص المبدع حسن الباقلي، وأقصد بها تلك البصمة الخاصة التي تميزه عن غيره من كتاب القصة، إنها تلك الجمل البلاغية الرائعة في
تشكيلها والقائمة بدور جمالي و دلالي..،تشبه في حضورها حضور المخرج القدير، هيتشكوك في أفلامه بشكل سريع، من نماذج ذلك: (الحرب هي غائط البشرية)،(إنه ورفاقه من حملة السلاح ديدان معوية)،(أرقه..إنه مجرد دودة ضئيلة تستوطن الغائط)،وهي جمل عبثية تشير إلى رفض الحرب والقرف منها،صاغها المبدع بشكل طريف تومئ للقفلة وتوحي بما سيحدث قبلا دون مباشرة أو تقريرية،معتمدا في ذلك على فطنة القارئ و
حدسه،(أن يعفي العالم من وجوده)،و هي جمل تقول إن الرجل يدرك عبثية الحياة القائمة
على الحروب،و يدرك ضآلة وجوده،و بناء عليه تحضره الرغبة بالإنتحار، قصد تخليص نفسه والعالم من الشرور والزوائد.
القفلة المدهشة و المبهرة
وهي القفلة التي تجعل القارئ يشعر بقوتها وروعتها وما تكتنزه من جمال، فرغم أنها تخيب أفق انتظاره إلا أنها تمتعه فيقف وقفة المندهش كتعبير عن حالته الشعورية المنبهرة.
ومن بين النصوص التي تمتلك هذه الشحنة القوية،(هذا المساء،ص 19)،من أضمومة،(مثل فيل يبدو عن بعد)،و(عبق عابر،ص 66)،من أضمومة،(الرقص تحت المطر).
يقدم لنا النص، من خلال جملته الاسمية الأولى، مشهدا يتضمن شخصيتيه المحوريتين،رجل وصبية، بينهما اختلاف حد التنافر من حيث الجنس و السن،صبية صغيرة السن، مقابل، رجل ناضج.
تقوم الصبية بعدد من الأفعال المرتبطة بسنها، التنطط، الترنم، والتحديق بعينين رائعتين، إنها أفعال تدل على البراءة والجمال والإقبال على الحياة بطهارة.
تنطبع الجمال في نفس الرجل،فيعبر عن ذلك بجملة اسمية ناقصة(صبية حلوة)،و نقص الجملة كان بهدف و جيه و بليغ،و ذي دلالة عميقة،إنه النقص الذي يشعر به الرجل من جهة،و الفعل الناقص الذي يمكن أن يرتكبه في حق الصبية من جهة أخرى.
وتكرار الرجل للجملة بشكل أكثر نقصا،(صبية...)، تعبير عن قوة انطباع الفتاة في نفسه ومدى تأثيرها عليه، وفي الآن ذاته تلك الرغبة في التهامها. إننا أمام رجل يشتهي صبية صغيرة السن، حلوة و جميلة، بالنسبة إليه، تشبه حلوى تتطلب الالتهام، مما يعبر عن نفسيته المعقدة و كبته المزمن.
وتظل الكلمة مرتسمة على صفحة نفسه ناقصة،لأن غياب الصبية من مجاله الحيوي مخلفة عطرها فقط،يفيد أحد أمرين،إما أن الغياب كان ماديا و فعليا، وإما كان معنويا فقط، بما يفيد انتهاكها واغتصابها.
القفلة هنا مدهشة وصادمة، وتجعل المتلقي يتساءل عن معنى الغياب، يعود إلى النص يسائله و يبحث في ثناياه عن أجوبة مقنعة،بعد الهزة التي أحدثتها الوقائع و القفلة معا في نفسه.
إنها قفلة ذات شحنة قوية لا تفقد ألقها حتى بعد إدراكها وبلوغ مرماها.
و للنص قراءة أخرى أشرنا إليها في البداية،و نقصد أن الصبية قد تكون القصة القصيرة جدا و بالتالي يكون النص داخلا في ما يمكن تسميته بالميتاقص.
القفلة المراوغة
ونقصد بها تلك القفلة التي تأتي بغير المتوقع، وتجعل القارئ كحارس المرمى يرتمي في الجهة المخالفة لمسار الكرة لحظة قذف ضربة الجزاء.
فالنص المعتمد على مثل هذه القفلة، يزرع في طريق القارئ إشارات ملتبسة تجعله يطمئن إلى النهاية المنتظرة والمتوقعة، لكن القفلة تباغته من حيث لا يحتسب،حيث تسقط كل توقعاته، ويدرك بعدها أنه خدع، وأن النص كان مراوغا،إنه الخداع الجميل الي يمتع ويغني، لا الخداع الذي ينفر .
وهي قفلة تحضر بالعديد من النصوص،منها:(استدراج،ص13)،(علاقة،ص12)،من أضمومة:(الرقص تحت المطر)،و(الفنان،ص21)، من أضمومة،(مثل فيل يبدو عن بعد)
فنص(علاقة)، يمنح علامات طريق زائفة، وملغزة، يسير على هديها، ليجد نفسه في الأخير متورطا في القراءة غير الصائبة، لأن القفلة تأتي بغير الذي وصل إليه اعتمادا على تلك الكلمات الدليلية المورطة. إن النص يزاول مع القارئ لعبة الاستيهام، ينبت كلمات تجعل القارئ يعتمدها لإسقاط رغباته الثاوية في لاشعوره، ليستيقظ على صدمة تعيد إليه وعيه،ليدرك في النهاية مدى تورطه في القراءة الرغبية لا النصية،إنه نوع من المراوغة الجميلة و الصادمة في الوقت عينه..
و الأمر نفسه نجده في النصوص سالفة الكر.
القفلة الجامعة
توضيح قبلي، إن كل النصوص تشتمل على الإبهار والإدهاش الصادم، والسخرية والمراوغة..غير أن مهيمنة ما تطغى على الأخريات، أما هنا، فإننا نجد تكاملا بين كل تلك العناصر السابقة.
ماذا نقصد بالجامعة؟
نقصد بها القفلة التي تجمع كل مواصفات النجاح، من إدهاش وروعة، وجمال، ودقة وبعد خيال.
إنها القفلة التي تأتي في النهاية كتتويج لنص بني بإحكام، ومهارة وإتقان. نص سارت أحداثه بانسيابية كماء نهر عذب، يروي عطش القارئ، فيمتعه بمائه الزلال، وينتزع منه ابتسامة كتعبير عن امتنانه وعن ما تمتلكه تلك القفلة من حدة وجدة وبعد خيال، بالإضافة إلى المهارة و الحذق في الكتابة.
ولعل من أبرز النصوص الممتلكة لهذه الخاصية، دون نزعها عن بقية النصوص الأخرى،(قراءة نوعية،ص 18)،(تحول،ص 49)،(الفراشات،ص 80)،( لقاء،ص20)،من أضمومة (مثل فيل يبدو عن بعد)، و(لقاء،ص32)،(حوار،ص28)،(سقوط،ص29)،من أضمومة،(الرقص تحت المطر).
بالنسبة لنص حوار، يوحي وكأن الأطراف المتحاورة ستنضبط لشروطه، وأنها ستصل إلى نقط اتفاق بعد سلسلة من تبادل الأفكار والبراهين والحجج، إذ بهذه الطريقة يمكن تجسير هوة الاختلاف والوصول إلى نقط مشتركة مقربة. غير أن النص يفاجئنا بقفلته المخيبة للتوقع والتي تقول إن الحوار قد آل إلى الفشل. وقد قدم السارد سلسلة من الأفعال التي تصب في مجرى اللاتفاهم(مصراعيه،جحافل،الشتائم،القبضات،العصي،الكلأب المدربة، وشهوة القتل)، وهي مفردات تقف على النقيض من كل تفاهم أو رغبة خلق حوار منتج و فعال،يذوب الهوة و يقرب الأطراف..إننا في مواجهة مشهد عربي بامتياز،يبين أن القصد منذ البداية هو الوصول إلى كسر الحوار لا بنائه،و قطع أوصاله عن سبق إصرار و قصد.
حوار=اللاحوار
الحوار هو في النهاية هدم لا بناء، منطلقه هو منتهاه.
إن النص يضعنا أمام مشهد كاريكاتوري للمنطق الذي يسود الحوار العربي،فما إن يبدأ حتى يتفكك،أي يسير بالضد من غاية إقامته، أما بالنسبة لنص( لقاء)،فإنه يقدم لنا طبقا من المتعة والإدهاش، فتتبع أحداثه توصل إلى قفلة تتوج النص بالإدهاش والروعة، كل ذلك بانسيابية وبساطة مبهرة. إن النص قصيدة مدح في تمجيد الفن، باعتباره العنصر الأكثر خلودا، مادام يتوفر على كل شروط الفن الرفيع التي تضمن له البقاء. إنه أنشودة حقيقية في تمجيد الفن الحق، واعتباره ما سيبقى حين يموت الإنسان.
إن الفن أبدا، لن تصله يد العدم، لأنه ببساطة، فوق الموت، لا تحت قبضته.
الموت يقابل الحياة، الموت يطلب الحياة، الموت يتغلب على الحياة، الموت يطلب الفن، الفن يتغلب على الموت، الفن هو الحياة.
قد يعيش الإنسان لمدة طويلة، وفي النهاية يتعرض للفناء، وقد يكون خالدا دون أن يحس به الإنسان، لكن الفن يظل صامدا ونافعا وملموسا.
القفلة العالمة
القفلة العالمة، وهي القفلة التي تأتي مدهشة و تبقى جذوتها مشتعلة بعد إعادة القراءة إنها قفلة عالمة لأنها تدعو القارئ إلى تجنيد معارفه لإدراك أبعادها.
أيام العرب، تشير إلى تلك الصفحة من تاريخنا المليء بالصراعات من أجل الحياة، في صحراء البقاء فيها للأقوى ويمتد هذا الصراع ليطبع تاريخنا الحديث حيث عوامل الفرقة و الصراع على أشديهما و تأتي كلمة السكر لإضافء بعد التزييف على هذا التاريخ حتى يمكن استساغته وشربه
إننا أمام تزييف التاريخ و تقديمه بصورة جميلة هي غير صورته الحقيقية القفلة المراوغة يضعنا نصيص حسن البقالي (قصةبوليسية تحدث كل يوم) أمام المعادلتين التاليتين مواطن-شرطي=اللاأمن
مواطن+شرطي=الأمن، لا لإعادة إنتاجهما و لكن لإعادة تركيبهما بطريقة فنية رفيعة تدين غياب الأمن بجمال،حيث نحصل على المعادلة التالية
مواطن+شرطي=اللاأمن نحن أمام مشهد يحدث كل يوم على وزن يحدث في مصر الآن شخصان يعترضان سبيل مواطن بحوزته مال الشخصان يعرفان أنه يحمل النقود الوضعية المتأزمة للمواطن تدعوه للبحث عن مخرج لتحقيق التوازن غير أن برنامج الرجلين السردي يقف بالمرصاد لأية محاولة، يقوم المواطن بمجموعة من التصرفات القصد منها النجاة، وهي في معظمها سلبية تدل على قزميته وعملاقية الرجلين-و كأننا أمام كاميرا تعرف كيف تنقل الحدث بفنية و تعبيرية كبيرتين- يأتي الحديث عن الشرطيين في القفلة لا ليعيدا التوازن المفقود للأمن بل لتأكيد انعدامه
إنهما منشغلان بكيفية صرف ما سيحصلان عليه من مال الجميل أن القفلة ،و هي الفاجعة، جاءت لتعميق الجراح و تنتقد الوضع بانسيابية و هدوء رزين يحضر في حديثهما المتعة و يحضر في أنين المواطن الألم تماثل عدد اللصوص مع عدد الشرطة يؤكد على تداخلهما وانسجامهما النتيجة.
اللصان=الشرطيان
إن القارئ سيظن أن وجود الشرطيين سيقف بالمرصاد لرغبة اللصين،غير أن القفلة ستراوغه وتخيب انتظاره، بجعل النهاية على عكس التوقعات.
هوامش:
*الرقص تحت المطر، حسن البقالي، دار سندباد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى،2009
*مثل فيل يبدو عن بعد، حسن البقالي، دار سندباد للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى،2010


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.