كشف المجلس الأعلى للحسابات منذ أيام عن تقريره لسنة 2009، وتضمن رصدا للواقع في عشرات المؤسسات العمومية والجماعات المحلية، مسجلا العديد من الاختلالات والملاحظات المتعلقة بتدبير المال العام، ما يجعله وثيقة سنوية مهمة حول مستوى الحكامة الجيدة في مؤسساتنا الوطنية. ولئن كان التعاطي مع مضامين التقرير يفرض استحضار الكثير من الحيثيات والشكليات القانونية والمسطرية التي تجنبنا السقوط في الشعبوية وفي كيل الاتهامات وانتهاك قرينة البراءة، فإن تحديات التخليق ومحاربة الفساد وتكريس دولة القانون تفرض أيضا ألا يتم تحويل تقارير المجلس الأعلى للحسابات إلى طقس سنوي يكتفي ببعض الإثارة الإعلامية، وينتهي الأمر مفسحا المجال لاستمرار أخطبوط الفساد. وإن الخروج العمومي للتقرير في هذا التوقيت المتميز بالحراك الشبابي والشعبي وبدينامية النقاش العمومي حول مسلسل الإصلاحات، يفرض إدراجه ضمن تدابير تعزيز الثقة في المستقبل، وبالتالي الانطلاق من خلاصاته لمحاربة الإفلات من العقاب ومحاسبة كل المفسدين ومبذري المال العام، وتسريع وتيرة الحسم القضائي في مختلف الملفات، بما فيها تلك التي كشف عنها تقرير المجلس لسنة 2008، وبعضها قد بدأ التحقيق القضائي بشأنه. إن تقرير المجلس الأعلى للحسابات يفرض إذن المتابعة القانونية والقضائية والإدارية بكل جدية وبسرعة، لأن الأمر يتعلق بشفافية التدبير المالي للمؤسسات العمومية والجماعات المحلية، وأيضا بجودة الإنفاق العمومي، أي الحرص على المال العام بالنسبة لبلد هو في أمس الحاجة إليه لإنجاز أوراشه التنموية وتلبية المطالب الاجتماعية للساكنة. وفي السياق ذاته، فقد كشف التقرير عن اختلالات تهم إبرام وتنفيذ الصفقات العمومية، وتهم الموارد البشرية، وأيضا دور الأجهزة العمومية، خصوصا على صعيد ضعف القدرة على التصور، وضعف المبادرة، وغياب الإشراف داخل هذه الأجهزة، بالإضافة إلى غياب ثقافة تدبيرية داخل هذه المؤسسات، وضعف منظومات الرقابة الداخلية، وكل هذه القضايا تطرح على البلاد اليوم تحديات جوهرية بالنظر إلى الرهانات السياسية والتنموية المطروحة عليها، وبالنظر إلى تحولات المحيط الاقتصادي والسياسي دوليا وإقليميا. اليوم عندما يعلن عن تطوير عمل مجلس المنافسة وهيئة مكافحة الرشوة، فإن الارتقاء بعمل المجلس الأعلى للحسابات يوجد أيضا في عمق الورش المتعلق بآليات الحكامة والتقنين والمراقبة، كما أن تقارير المجلس تفرض التعامل الجدي، وفي نفس الوقت التشبث بالقانون والشفافية، من دون أي سقوط في تصفية الحسابات أو في لعبة تبادل الضرب تحت الحزام بين اللوبيات المصلحية.