مرة، قرأت خبراً على الإنترنت، أن بعض الدول، توصلت إلى سياسة عظيمة لمعالجة مسألة اكتظاظ سجونها، والمساهمة في إعادة إدماج السجناء بعد انقضاء مدة حبسهم، فكل سجين يستطيع تقليص فترة عقوبته، بقراءة عدد معين من الكتب… إن القراءة أصبحت هنا مهِمةٌ ميكانيكية، على السجين أن يقوم بها، إن هو أراد تخفيف مدة عقوبته. إن السؤال الذي طرحته آنذاك هو هل يحتفظ فعل القراءة بجوهره؟ هل تحقق الكتب غايتها، بمعنى هل يتأثر شخص ما في السجن بكتاب لم يختر أن يقرأه بحرية؟ التجربة تحتاج إلى تتبع عينة من المسجونين، ودراسة سلوكهم داخل السجن وخارجه كي نخرج باستنتاجات دقيقة. أستحضر هذا الكلام، ونحن في وضعية مشابهة من حيث تقييد حرية الحركة والاختيار بيننا وبين السجين، حيث تكون أفعالك رهينة بقانون يتحكم في مكان وزمان عيشك، وفي هذا السياق، أستحضر أمنيتنا التي لن تتحقق أبدا، أن نحظى بأكثر من حياة واحدة، لمشاهدة كل ما نريده من أفلام، ونقرأ كل الكتب التي فوتنا قراءتها! عمليا، وجدنا أنفسنا بسبب فيروس كورونا، أمام فائض في الوقت، فنحن لأسباب خارجة عن إرادتنا خلف جدران منازلنا بعدما كنا أغلب الأوقات خارجها، وحتى عندما كنا نتواجد داخل البيت فلأننا اخترنا ذلك، هل تحقق شيء من هذه الأمنية المستحيلة عن حياة ثانية؟ هل تحقق شيء من مشروعنا المؤجل؟ بمعنى هل قرأنا كتبا كثيرة؟ وهل شاهدنا قوائم الأفلام المتراكمة. الأكيد أن أغلب الناس حاولوا استغلال هذه الفرصة، وتحقيق هدف مؤجل بتعلم شيء جديد، أو إتقان مهارة. وكانت الأفلام والكتب وجهتان مفضلتان بالنسبة للكثير من البشر، فملايين الكتب قُرئت وملايين الأفلام شُوهدت، واجتهدنا في تعويض الجانب الثقافي الواقعي بجانب آخر افتراضي، وهذا أمر جيد بدون شك. أعود هنا لحالة السجين المشابهة لحالتنا، هل يظل فعل المشاهدة هو نفسه؟ باستحضار عنصر الإجبار! هل كانت مشاهدة الفيلم تحتاج فقط إلى وقت فراغ وإنسان مستعد لملئه؟ السينما أو الأفلام – خصوصا التي تُغَلب جانب الفن- تحتاج أكثر من ذلك. هل كان الكتاب يحتاج فقط إلى شخص يمرّ بعينيه على صفحاته لملء فجوة زمنية في يوم كثير الملل؟ لنعد إلى مقارنة طقس المشاهدة هذا، بطقس المشاهدة في الحياة العادية. في حياتك العادية أنت حر في الخروج من بيتك في ساعة تختارها، وأحيانا بدون تفكير مسبق في نشاطك اليومي، هكذا تجعل الصدفة، تقرر نيابة عنك بين أن تتمشى على الشاطئ أو أن تجلس في مقهى تراقب الناس، أو أن تحتك بهم أكثر في الأسواق.. يفترض أن تمدك الأنشطة التي مررت بها خلال يومك بمشاعر كثيرة ومختلطة، فتتولد لديك حالة نفسية تحفزك وتدفعك نحو نشاطك الثقافي، سواء كان قراءة أو كتابة أو مشاهدة. إن خلافك مع مديرك في العمل قد يدفعك إلى نسيان اليوم بفيلم كوميدي، بينما قد يدفعك خلافك مع زوجتك إلى مشاهدة فيلم لوودي آلان. أفلام تاركوفسكي مثلا، قد تكون اختيارا أنسب نهارا، بخلاف أفلام سيرجيو ليون. جلوسك في المقهى نهاية أسبوع مشمس قد يكون بصحبة رواية «قصة مدينتين» لديكينز وليس بصحبة «البحث عن الزمن المفقود» لبروست، بينما إذا بدأت يومك في المنزل بكسل قد تحب أن تقرا بروست بدون مشكلة!» إن الحياة التي نحياها خارج البيت في حالتي الفرح أو الحزن تكون مسؤولة بطريقة أو بأخرى عن تحديد الحياة داخله.. هنا يكتسب فعل المشاهدة والقراءة لذته، ويصير جزءا من الحياة وتجربة فردية. وحسب عالم النفس سيمينوفيتش فيجوتسكي: «يجب النظر في المقام الأول إلى المجتمع كعامل محدد لسلوك الإنسان». هذا يعني أن شخصية الفرد تتشكل في علاقتها بالآخر وليس اعتمادا على تجربة ذاتية صرفة. يرفض الكثير من الناس الوصول إلى الأفلام والكتب عبر القوائم المختارة، التي تضيع معها متعة الاكتشاف، والتي هي جزء من متعة القراءة، القوائم التي تشكل آراء متقاربة مكررة ونمطية، وهي سمة خاصة بجماهير التلفزيون. إن حالتنا في زمن الحجر ساهمت في توحيد صفاتنا وحاجاتنا، وأخفت الفوارق الفردية، فانتقلنا إلى نمط تفكير الجماعة، التي تتولد فيها حسب غوستاف لوبون «صفات تخالف كثيرا صفات الأفراد، حيث تختفي الذات الشاعرة وتتوجه مشاعر جميع الأفراد نحو صوب واحد، فتتولد من ذلك روح عامة وقتية بالضراوة، إلا أنها ذات صفات مميزة واضحة تمام الوضوح. فكأن ذلك اللفيف ذات واحدة، وبذلك يصير خاضعا لناموس الوحدة الفكرية الذي تخضع الجماعة لفكره». إن الفوارق هي التي تقود في أغلب الأحيان إلى الأذواق المختلفة والمتمنعة على المشاع، لذلك يرفض الكثير من الناس الوصول إلى الأفلام والكتب عبر القوائم المختارة، التي تضيع معها متعة الاكتشاف، والتي هي جزء من متعة القراءة، القوائم التي تشكل آراء متقاربة مكررة ونمطية، وهي سمة خاصة بجماهير التلفزيون. هنا تسلب من بعض الأعمال الفنية قيمتها، وتبرز أعمال أقل قيمة فتفقد مقولة نيكولاس روباكين: «للكتاب الواحد أو الكلام الواحد مضامين مختلفة بقدر اختلاف قرائه» جماليتها وتصبح لدينا أنماط محدودة من القراء، وهو أمر يسرع في انتشاره التطور التكنولوجي، وتحول الثقافة إلى مجال اقتصادي يفوق هدفه الربحي جوانبه الأخرى. وهذا الجانب هو الأكثر نشاطا بسبب العزلة. ليس من المفترض أن يكون القراء، إن تحدثنا عن الكتب، ولا المشاهدون في حالة السينما صنفا واحدا، وهذه إحدى منازعات السينما والفن مع التلفزيون، فكلما حضرت الفوارق الفردية اكتسب النص حيوات مختلفة بسبب تعدد القراءات، وكلما طغى فكر الجماعة عاش النص حياة صاخبة، لكنها عمودية وغير ممتدة. هل يعني هذا الكلام أننا نعيش فكر الجماعة؟ ثم ما الجديد في الأمر؟ للإجابة علينا أن نذكر أن علم النفس القرائي، يصنف القراء حسب مجموعة من السمات، منها؛ القدرات والمزاج والطباع، فإذا استحضرنا جانب التراكم في القدرات، والجانب النفسي في الطباع، وجانب الذوق في المزاج فسنخلص إلى تداخل مكونات الخبرة الحياتية، وارتكازها على المختلف وليس المؤتلف، ولهذا الاختلاف دور كبير على مستوى تذوقنا للعمل. لكن ما نعيشه اليوم من تشابه، بسبب اتحاد عناصر البيئة التي نحيى داخلها، بسبب فيروس كورونا جعل مشاعر الخوف والانتظار والهواجس والتطلعات هي نفسها في العالم، فأصبح الفرد يسبح داخل زمن متدفق بنمط موحد. لن تظل معه مشاهدة الفيلم هي نفسها، ولن تنعكس بالتبعية على المتلقي كما هي العادة، كما أن الحالة النفسية التي يعيشها الإنسان اليوم لن تمده بمحفزات ملائمة للإقبال على العمل الأدبي أو الفني باستعداد يليق به. لأننا صرنا متشابهين تقريبا في الحالة النفسية التي – لا يفترض أنها تسعد شخصا – على مدى الثلاثة أشهر الأخيرة، فالعالم يتشارك الأخبار والهواجس والمخاوف نفسها، ويتوجس من المصير نفسه. هذا يدفع إلى التقليل من قيمة تفكير الفرد وتغليب تفكير الجماعة، تفكير كان سمة من سمات العصر، لكن أزمة كورونا جعلته أكثر سوداوية وبؤسا. إن مشاهدة العمل نفسه في ظروف مختلفة، قد تؤدي إلى نتائج تلقٍ مختلفة أيضا. فجزء كبير من الحالة النفسية يتشكل عبر التجربة الحياتية التي يحياها الإنسان خارج بيته بالتأثير والتأثر بمحيطه. هذا يعني أننا نشاهد الكثير من الأفلام ونقرأ الكثير من الكتب، بدون يقين إن كنا نقوم بذلك فعلا. سليمان الحقيوي