ثمة تساؤل هام لابد أن يطرح نفسه على كل من يقرأ / يشاهد كتاب المخرج "ماجد المهدي" – يوميات مخرج سينمائي مهاجر- وهو، هل نحن بإزاء خديعة/ لعبة ما يمارسها هذا الكاتب/ المخرج تجاهنا، ومن ثم فهو يحاول اختبار مدى قدرتنا على استيعاب التجربة من عدمها؟ أظن أن الكاتب/ المخرج إذا كان هذا هو هدفه الرئيس فهو بالتأكيد يفترض الغباء ومن ثم عدم الثقافة السينمائية في القارئ العربي لاسيما المصري- ونحن بالطبع لا نستطيع لومه في ذلك؛ لأن هذا الغباء الناتج عن الجهل السينمائي متحقق فعليا بشكل كبير ولافت للنظر- . ولكن ثمة تساؤلات أخرى كثيرة لم تلبث أن انسالت على ذهني ومن ثم لم أستطع إيقاف سيل تدفقها فتركتها تُترى كيفما اتفق ومنها، هل هذا بالفعل كتاب يوميات/ مذكرات لهذا المخرج ومن ثم فنحن نرى من خلاله جزءا من حياته في ايطاليا؟ ولكن إذا افترضنا بالفعل أنه كذلك فثمة لغة إبداعية غير خافية تظهر في ثنايا النص وبالتالي تجعلنا نفكر- إذا ما قمنا بدور الeditor – بإعادة ترتيب وصياغة وحذف بعض الجمل ومن ثم سينشأ في النهاية نص روائي جميل من خلال هذه اليوميات، هل هو إذن نص روائي في حاجة إلى القليل من الاهتمام؟ أعتقد أن القراءة الواعية- بالتأكيد- ستقوم بإعادة تشكيل التساؤل ومن ثم إلغاء ما سبق أن توصلنا إليه، وبالتالي سنتساءل بشكل واع أقرب إلى اليقينية، أليس هذا سيناريو فيلم سينمائي بديع نشاهد من خلاله- بالرغم من أنه مكون بصري بالكلمات- الكثير من السينما البديعة والعديد من التقنيات السينمائية التي أخذتنا بعيدا بعيدا مندمجين مع عالم المخرج الخاص ومن ثم تركتنا في نهاية الأمر لنسقط في وجود عدمي لا معنى له؛ نتيجة لعدم تحقق أي شيء مما كان يأمله في نهاية الأمر؟ انه بالفعل عالم سينمائي متكامل استطعنا من خلاله رؤية الكثير من الكادرات السينمائية التي لم تبرح مخيلتي حتى بعد انقضاء عدة أيام طويلة على قراءة الكتاب/ السيناريو، وبالتالي لم أنس الكادر الرئيس والهام على طول هذا الفيلم والذي نرى فيه المخرج/ ماجد المهدي- وهو هنا بمثابة البطل الرئيس في الفيلم- يدخن سيجارته الأثيرة في غرفة الطعام صباحا ومن ثم تدور في رأسه الكثير من الأمور الحياتية التي نرى منها ظروفه المادية المتعثرة، وعمله، وشعوره الدائم بآلامه الجسدية نتيجة العمل اليدوي المجهد، هذا بالإضافة إلى هاجسه وهمه ومحركه الأساس في حياته- وكأنه السبب الذي يتواجد ويعيش من أجله- وهو إنجاز وتحقيق فيلمه "زهرة عباد الشمس" الذي يحتاج إلى تمويل من أجل خروجه إلى النور، فهو بالرغم من تخصيص ميزانية/ منحة إنتاج له من قبل وزارة الثقافة الإيطالية (وزارة المشاهدة) إلا أن هذه المنحة الإنتاجية لا يمكن لها أن تتم كما يقول له منتجه الإيطالي "بيير جورج بيللوكيو" إلا إذا شارك في الإنتاج أحد المنتجين المصريين- الحريصين على عدم الموافقة دائما؛ لأنهم لا يرغبون المغامرة بأموالهم إلا في كل ما هو تافه مما يطلقون عليه أفلاما سينمائية لا علاقة لها بالسينما- .
ولكن يبدو أن الظروف السيئة تتكاتف على هذا المخرج السيئ الحظ، ومن ثم نرى أن هذا الحلم الوجودي بالنسبة له لا يمكن أن يتحقق طوال وجود حكومة يمين الوسط برئاسة "بيرلوسكوني" في الحكم، وأن الأمل الوحيد بالنسبة له هو تولي حكومة اليسار المدافعة عن حقوق المهاجرين؛ ولذلك نراه يكاد أن يُجن حينما يرى في شوارع وسط المدينة ذات مرة "كاميرا ديجيتال"؛ ومن ثم تتمحور حياته وتفكيره بالكامل حول هذه الكاميرا التي لا تبرح صورتها مخيلته والتي ستخرجه من مأزقه- الوجودي- في عدم تحقق الفيلم الخاص به، والذي نراه يعيش ويتحرك من أجله فقط، ولعل الدليل على ذلك ما قاله له صديقه "فرانكو" المخرج السينمائي حينما سأله "ماجد المهدي" عن كيفية التخلص من مشكلة بطالته التي تؤرقه، فنراه يشير عليه أن يذهب إلى "كولوسويو" Colosseo وفي أعلاه يصيح هاتفا لحد الصراخ.. يا أهل روما.. يا.. رومان،.. أريد فرصة عمل سينما.. والا سألقي بنفسي منتحرا. إن هذه الحالة بالفعل تسيطر على "ماجد المهدي"؛ ومن ثم تحول فيلمه المتوقف إلى حالة وجودية حقيقية لا يتحرك إلا من أجلها، وبدونها لا داعي لأي شيء آخر؛ ولذلك فهو حينما يرى سعر "كاميرا الديجيتال"- 2190 يورو- يمسى في دوامة هائلة من التفكير ( كيف يتحصل عليها وهو لا يمتلك ثمنها، وممن يمكن الاستدانة، ومن من أصدقائه يمكن له أن يضمنه؟) إلا انه حينما يتذكر ديونه يكف عن التفكير في سعرها بقنوط وان كانت صورتها لم تزل تتضخم في رأسه؛ لأنها المخلص الحقيقي لفيلمه السجين. إلا أنه بالرغم من تكاتف كل هذه الأمور السيئة لإعاقة تحقيق فيلمه لا ييأس، فنراه ذات مرة يحاول الاتصال بالفنان "عمر الشريف"- بعد أن أخذ هاتفه من صديقه "هشام سليم"- لأنه يتمنى موافقة "عمر" على الاشتراك في فيلمه، إلا أن "عمر" يرد عليه ( اسمعني عزيزي/... في هذه الحالة أفضل الحديث مع المنتج.. وبعدها سيتضح كل شيء.. بالنسبة لي ليس عندي مانع.. أوكي) وبالتالي تضيع عليه فرصة اشتراك "عمر الشريف" في الفيلم؛ نظرا لأن المنحة المخصصة لفيلمه معلقة على شرط، وهو اشتراك منتج مصري- لا يجيء أبدا- . ولكن الأمل في تحقيق حلمه لا يموت داخله وكأنه كلما لاقى هزيمة وفشلا جديدا كلما زاده ذلك إصرارا على تحقيق ما يرغبه، فنراه يذهب إلى المخرج المصري "يوسف شاهين" في مكتبه بمصر عملا بكلام "يوسف شاهين" نفسه حينما تقابلا في الأكاديمية الفرنسية بروما ذات مرة- حيث كان يتم تكريم "يوسف شاهين" في ذات الوقت الذي كان "ماجد المهدي" مشتركا بفيلمه التسجيلي الروائي الثاني "سلام فيتربو" 40 دقيقة/ ناطق بالإيطالية- أقول أنه عملا بكلام "يوسف شاهين" له (لما تنزل مصر تعالى زورني) فهو يتوجه إليه ومعه القصة السينمائية لفيلمه "زهرة عباد الشمس" في 7 صفحات لقراءتها، إلا أن "يوسف شاهين" يطلب منه أن يمهله أسبوعا، وهنا نرى "ماجد المهدي" يكتب في كتابه عن هذا الموقف ( وجدتني أقول له: ألا يمكن أن تقرأ الآن ولو فقط صفحتين مقدرا كفاءته العالية في تكوين رأي نهائي فني. واعتذر واشراقته تخفت بشكل ملحوظ.. قبل أن أودعه.. وأخرج من مكتبه..) ولذلك كان- ومازال- "ماجد المهدي" يشعر بمرارة طعم القهوة في فمه، وربما الرغبة في القيء كلما تذكر هذا الموقف، ولهذا أيضا أثار هذا الموقف داخلي عاصفة من التساؤلات عن السبب الذي يجعل "يوسف شاهين" يفعل ذلك؟ ولم يرفض حتى مجرد إلقاء نظرة على صفحة أو صفحتين من القصة السينمائية؟ ولماذا لم يقرأ أي شيء حتى الآن بعد مرور عدة سنوات؟ هل لأنه وصل إلى درجة من إيثار الذات على الآخرين تجعله يبخل، بل ويشعر بالسقم إذا ما قام بمساعدة أو نصح غيره؟ أم لأنه هو "يوسف شاهين" صاحب المنظومة السينمائية العظمى- سواء كانت أفراد أو مؤسسات أو أفلام- الذي يرفض ويتجاهل ومن الممكن أيضا أن يدمر ويفني كل ما يدور، ومن يدور بعيدا عن فلك تلك المنظومة الخاصة به وحده، والتي يحقق من خلالها مصالحه السينمائية التي لا ينبغي لغيره أن يفعل مثلها أو يحرز نجاحا مماثلا إلا إذا كان ذلك عائدا بالنفع على "يوسف شاهين"؟ أم لأن "يوسف" له مجموعته الخاصة من المقربين إلى قلبه والذين ينفون بالنسبة له أي كائن سينمائي آخر؟ ودعنا نطرح تساؤلا أخيرا ولنترك كل هذه الأسئلة معلقة في الفراغ، هل إذا كان "ليوسف شاهين" مصلحة ما أو علاقة انتفاعية مع المخرج "ماجد المهدي"، هل كان سيسلك ذات السلوك مع الرجل أم كانت الأمور ستكون مختلفة؟ يبدأ المخرج "ماجد المهدي" فيلمه/ يومياته بتعريفنا على نفسه، وعشقه للسينما ومن ثم ذهابه شبه اليومي لمشاهدة الجديد من الأفلام السينمائية في قاعة سينما "بارباريني" ومن ثم نرى من خلال "الفلاش باك" flash back ، والعديد من الكادرات، بل واستخدام درجات الإضاءة وغيرها من التقنيات السينمائية التي نجح "ماجد المهدي" في توظيفها، أقول أننا نرى من خلال ذلك الكثير من مواقف المخرج، وطريقة حياته، وكيف أنها توقفت تماما على السينما وضرورة خروج فيلمه السينمائي "زهرة عباد الشمس" إلى النور، وبالتالي فهو في حالة انتظار دائمة وأبدية منذ بداية فيلمه/ يومياته حتى نهايته، انه في انتظار تحقق الفيلم، وموافقة منتج مصري بالاشتراك في الإنتاج، وصرف المنحة المقدمة من وزارة الثقافة الإيطالية، ومحاولة القيام بالفيلم من خلال تصويره "ديجيتال" ولكن المال دائما ما يقف عائقا، إنها بالفعل حالة انتظار أكثر تعبيرا وتعقيدا وعبثية من تلك الحالة التي صورها لنا الكاتب الأيرلندي الأصل "صمويل بيكيت" في مسرحيته "في انتظار جودو" الذي لا يأتي أبدا ولن يأتي بالفعل . ربما كان الكتاب/ الفيلم مليء بالعديد من الأحداث الأخرى الهامة، منها معاملة الشرطة الإيطالية له بشكل سيء والادعاء بأنه قد أساء إليهم؛ ومن ثم لم يستطع الحصول على الجنسية الإيطالية لاتهامه بالإساءة إلى الشرطة، ومنها نظرة الغرب للعرب والمسلمين والتعامل معهم بشكل فاشي، والكثير من التأملات في الحياة الغربية، وما فعلته معه زوجته الإيطالية السابقة، والحديث عن ظروفه المالية الصعبة والتي تدفعه أحيانا للعمل كمترجم أو معلما للغة العربية للأجانب أو العمل كمضيف وغير ذلك، إلا أن الموضوع الرئيس وهو السينما وحالة الانتظار الدائمة، والسعي لتحقيق فيلمه كان هو الأهم والحدث الأكثر إشراقا في فيلمه/ يومياته. ولكن هل وصل "جودو" الذي ينتظره "ماجد المهدي" أم سيظل في حالة انتظار دائم؟