إسبانيا تعلن المناطق الأكثر تضررا بالفيضانات بمناطق "منكوبة"    وسط منافسة كبار الأندية الأوروبية… باريس سان جيرمان يتحرك لتأمين بقاء حكيمي    "أبحث عن أبي" عمل فني جديد لفرقة نادي الحسيمة للمسرح    فيضانات إسبانيا.. الحكومة تستعد لإعلان المناطق المتضررة بشدة "مناطق منكوبة"    ماء العينين: تجربة الإسلام السياسي بالمغرب ناجحة وحزب "العدالة والتنمية" أثبت أنه حالة وطنية    مصرع شاب جراء انقلاب سيارته بضواحي الحسيمة    خلال أسبوع واحد.. تسجيل أزيد من 2700 حالة إصابة و34 وفاة بجدري القردة في إفريقيا    مسؤول سابق في منصة "تويتر" يهزم ماسك أمام القضاء    حزب الله يقصف الاستخبارات الإسرائيلية    زنيبر يقدم التقرير الحقوقي الأممي    حركة النقل الجوي بمطار طنجة ابن بطوطة تسجل نموا قياسيا    المغرب يحبط 49 ألف محاولة للهجرة غير النظامية في ظرف 9 شهور    "سيول فالنسيا" تسلب حياة مغربيين    رئيس منتدى تشويسول إفريقيا للأعمال: المغرب فاعل رئيسي في تطوير الاستثمارات بإفريقيا    رويترز: قوات إسرائيلية تنزل في بلدة ساحلية لبنانية وتعتقل شخصا    أسعار السردين ترتفع من جديد بالأسواق المغربية    تكريم بسيدي قاسم يُسعد نجاة الوافي        توقعات أحوال الطقس ليوم غد الأحد    هيئة: 110 مظاهرة ب 56 مدينة مغربية في جمعة "طوفان الأقصى" ال 56    نقابة إصلاح الإدارة تنضم لرافضي "مشروع قانون الإضراب"    مطار الناظور العروي: أزيد من 815 ألف مسافر عند متم شتنبر    بسبب غرامات الضمان الاجتماعي.. أرباب المقاهي والمطاعم يخرجون للاحتجاج    نيمار يغيب عن مباراتي البرازيل أمام فنزويلا وأوروغواي    الأمم المتحدة: الوضع بشمال غزة "كارثي" والجميع معرض لخطر الموت الوشيك    صدور أحكام بسجن المضاربين في الدقيق المدعم بالناظور    اعتقال عاملان بمستشفى قاما بسرقة ساعة "روليكس" من ضحية حادث سير    بهذه الطريقة سيتم القضاء على شغب الجماهير … حتى اللفظي منه    نظرة على قوة هجوم برشلونة هذا الموسم    هذه مستجدات إصلاح الضريبة على الدخل والضريبة على القيمة المضافة    الجمعية المغربية للنقل الطرقي عبر القارات تعلق إضرابها.. وتعبر عن شكرها للتضامن الكبير للنقابات والجمعيات المهنية وتدخلات عامل إقليم الفحص أنجرة    أنيس بلافريج يكتب: فلسطين.. الخط الفاصل بين النظامين العالميين القديم والجديد    الأكاديمية الجهوية للتربية والتكوين لجهة طنجة تطوان الحسيمة تحصد 6 ميداليات في الجمنزياد العالمي المدرسي    فتح باب الترشيح للاستفادة من دعم الجولات المسرحية الوطنية    فليك يضع شرطا لبيع أراوخو … فما رأي مسؤولي البارصا … !    الأسبوع الوطني التاسع للماء..تسليط الضوء على تجربة المغرب الرائدة في التدبير المندمج للمياه بأبيدجان    "الشجرة التي تخفي الغابة..إلياس سلفاتي يعود لطنجة بمعرض يحاكي الطبيعة والحلم    بدون دبلوم .. الحكومة تعترف بمهارات غير المتعلمين وتقرر إدماجهم بسوق الشغل    الفيضانات تتسبب في إلغاء جائزة فالنسيا الكبرى للموتو جي بي    مركز يديره عبد الله ساعف يوقف الشراكة مع مؤسسة ألمانية بسبب تداعيات الحرب على غزة    قمة متكافئة بين سطاد المغربي ويوسفية برشيد المنبعث    الحكومة تقترح 14 مليار درهم لتنزيل خارطة التشغيل ضمن مشروع قانون المالية    "تسريب وثائق حماس".. الكشف عن مشتبه به و"تورط" محتمل لنتيناهو    مناخ الأعمال في الصناعة يعتبر "عاديا" بالنسبة ل72% من المقاولات (بنك المغرب)    "البذلة السوداء" تغيب عن المحاكم.. التصعيد يشل الجلسات وصناديق الأداء    الأميرة للا حسناء تدشن بقطر الجناح المغربي "دار المغرب"    منْ كَازا لمَرْسَايْ ! (من رواية لم تبدأ ولم تكتمل)    إطلاق الحملة الوطنية للمراجعة واستدراك تلقيح الأطفال الذين تقل أعمارهم عن 18 سنة بإقليم الجديدة    الأشعري يناقش الأدب والتغيير في الدرس الافتتاحي لصالون النبوغ المغربي بطنجة    "ماكدونالدز" تواجه أزمة صحية .. شرائح البصل وراء حالات التسمم    دراسة: الفئران الأفريقية تستخدم في مكافحة تهريب الحيوانات    ثمانية ملايين مصاب بالسل في أعلى عدد منذ بدء الرصد العالمي    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    وهي جنازة رجل ...    أسماء بنات من القران    نداء للمحسنين للمساهمة في استكمال بناء مسجد ثاغزوت جماعة إحدادن    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



ماريو فارغاس يوسا.. 13 .. ماريو فارغاس يوسا: لماذا نقرأ الأدب؟
نشر في الاتحاد الاشتراكي يوم 12 - 08 - 2016

صحيح أن اسمه ورد طويلا كواحد من المرشحين المحتملين للفوز بجائزة نوبل للآداب، إلا أن قطار اللجنة الملكية السويدية، كان يفوته في كلّ عام، لدرجة أن الأمر انتهى بالجميع لأن يعتقدوا أن ماريو بارغاس يوسا، الكاتب البيروفي، سيبقى واقفا على رصيف المحطة ولن يفوز بها، وبخاصة أنه على درجة كبيرة من الشهرة، كما أنه حصل على عدد كبير من الجوائز الأدبية المهمة، في شتّى بقاع العالم.*
وهذا الأمر لا يعني وجود قيد لفظي فقط، ولكن أيضًا وجود قيد في الخيال والتفكير. هو فقر فكري لسبب بسيط، لأن الأفكار والتصورات التي يمكن من خلالها فهم حالاتنا لايمكن لها التكون خارج الكلمات. نحن نتعلم كيف نتحدث بعمق وبدقة وبمهارة من الأدب الجيد. لن يجدي أي انضباط آخر في أي فرع من فروع الفن ماعدا الأدب في صناعة اللغة التي نتواصل بها. أن نتحدث جيدًا، أن يكون تحت تصرفنا لغة ثرية ومنوعة، أن نجد التعبير الملائم لكل فكرة ولكل شعور نود أن نتواصل به، يعني بالضرورة أن تكون جاهزًا للتفكير، أن تُعلم، أن تتعلم، أن تناقش، وأيضًا لأن تتخيل وتحلم وتشعر. بطريقة خفية، تردد الكلمات صداها في جميع أفعالنا، حتى تلك الأفعال التي لايمكن أن نعبر عنها. وكلما تطورت اللغة، وذلك بفضل الأدب، ووصلت لمستويات عالية من الصقل والأخلاق، زادت من مقدرة الإنسان على عيش حياة أفضل.
عمل الأدب حتى على صبغ الحب والرغبة والجنس بصبغة الإبداع الفني. لم يكن الشبق ليوجد بدون الأدب. الحب والمتعة سيكونان أسوأ بحيث ينقصهما الرقة والروعة. سيفشلان في تحقيق الحالة القصوى التي يمنحها الأدب. لذلك فإني لا أبالغ حينما أقول أن الثنائي الذي يقرأ لغارثيلاسو، بترارك، جونجورا أو بودلير يقدران المتعة ويعيشانها بخلاف الثنائي الذي صار أبلهًا بمشاهدة الأوبرا الصابونية2 في التلفاز. في عالمٍ أمي، لن يتعدى الحب والرغبة ماترضى به الحيوانات، كما أنها لن تتجاوز الوفاء بالأساسي من الغرائز.
وبطبيعة الحال، لايمكن لوسائل الإعلام السمعية والبصرية أن تعلم الناس كيف يستخدمون الإمكانيات الهائلة للغة بمهارة وثقة. على النقيض من ذلك، تعمل وسائل الإعلام على الحط من قدر الكلمة إلى منزلة أقل بجانب الصورة، والتي تعد اللغة البدائية لتلك الوسائط، وتعمل أيضًا على تقييد اللغة بالتعبير الشفوي إلى الحد الذي لايمكن الاستغناء عنه بعيدًا عن البُعد الكتابي للغة. أن تصف فيلمًا أو برنامجًا تلفزيونيًا بالأدبي فهذه مجرد طريقة لبقة عوضًا عن وصفه بالممل. لهذا السبب، من النادر أن نرى العامة ينجذبون لمثل هذه البرامج. وحسب ماأعرف، فإن الاستثناء الوحيد لهذه القاعدة هو برنامج بيرنارد بيفوت3 "فواصل عليا" في فرنسا. وهذا يقودني إلى الاعتقاد بأن الأدب ليس فقط متطلَّبًا لمعرفة كاملة باللغة واستخدام أكمل لها، بل أن مصيرها مرتبط بشكل لاينفصل بمصير الكتاب، ذلك المنتج الصناعي الذي يعتبره الكثيرون بأنه قد عفا عليه الزمن.
هذا الحديث يقودني إلى بيل جيتس، كان في مدريد منذ فترة ليست بالطويلة وزار الأكاديمية الملكية الإسبانية، والتي قد عقدت شراكة مع مايكروسوفت.
ضمن أشياء أخرى، طمأن جيتس أعضاء الأكاديمية وأكد بأن الحرف "fl" لن يحذف من برامج الحاسب، كان ذلك الوعد يكفل لأربعمائة مليون متحدث بالإسبانية أن يتنفسوا الصعداء بما أن حذف حرف أساسي مثل هذا سيؤدي إلى مشاكل كبرى. على كل حال، بعد تنازله الودي للغة الإسبانية، أعلن جيتس قبل أن يغادر مقر الأكاديمية في مؤتمر صحفي أنه يتوقع تحقيق حلمه الأكبر قبل أن يموت، وهو وضع حد للورق، ومن ثم للكتب.
يرى جيتس بأن الكتب هي أشياءٌ عفا عليها الزمن. وقال بأن شاشات الكمبيوتر قادرة على القيام بمهمات الورق الذي يستطيع عملها. أصر أيضًا أنه بالإضافة إلى كونها أقل مشقة، فشاشات الكمبيوتر تأخذ مساحة أقل، وهي أسهل للتنقل، وأيضًا بأن نقل الأخبار والآداب إلى هذه الشاشات سيكون له فائدة بيئية لإيقاف تدمير الغابات، وأن صناعة الورق هي أحد أسباب التدمير. أكد أيضًا بأن الناس سيستمرون بالقراءة، لكن على شاشات الكمبيوتر، وبالتالي سيكون هناك المزيد من الكلوروفيل في البيئة.
لم أكن حاضرًا خلال خطاب جيتس، وعلمت بكل هذه التفاصيل عن طريق الصحافة. ولو كنت هناك، لأعلنت استهجاني لجيتس كونه قد أعلن بوقاحة نيته إرسالي أنا وزملائي الكتّاب إلى خط البطالة. ولكنت تنازعت معه بقوة بخصوص تحليله. هل تستطيع الشاشة حقًا استبدال الكتاب من جميع الجوانب؟ أنا لست متأكدًا. أنا واعٍ تمامًا للتطور الهائل الذي سببته التكنولوجيا الجديدة في مجال الاتصالات وتبادل المعلومات، وأعترف بأن الانترنت يؤدي لي مساعدة لا تقدر بثمن كل يوم في عملي؛ لكن امتناني لهذه الراحة لايتضمن اعتقادًا بأنه يمكن للشاشات الإلكترونية أن تستبدل الورق، أو أن القراءة بالكمبيوتر يمكن أن تفي للقراءة الأدبية. هذه فجوة لاأستطيع تخطيها. لاأستطيع قبول فكرة أن تحقق القراءة غير الوظيفية، التي لانبحث بها عن معلومة أو تواصل سريع، توفر نفس تلك الأحلام ومتعة قراءة الكلمات مع نفس الإحساس بالحميمية، ومع نفس التركيز العقلي والعزلة الروحية التي يمنحها الكتاب.
ربما يصدر تحيزي هذا لكوني لم أمارس القراءة الالكترونية، وكوني تعاملت بعلاقة أدبية طويلة مع الكتب والورق. لكني على الرغم من أني أستمتع بتصفح أخبار العالم من خلال الانترنت، لايمكن أن أذهب للشاشة لكي أقرأ شعرًا لجونجورا، رواية لأونيتي أو مقال لباز، لأنني موقن بأن أثر تلك القراءة لن يكون مثل القراءة بالورق. أنا مقتنع، بالرغم من أني لاأستطيع إثبات ذلك، بأن مع اختفاء الورق سيعاني الأدب من ضربة مهولة، وربما مميتة. كلمة "أدب" لن تختفي بالطبع، لكنها ستدل على نصوص هي بعيدة عما نسميه أدبًا هذه الأيام، كبعد الأوبرا الصابونية عن مسرحيات سوفوكليس وشكسبير.
لايزال هناك سببٌ آخر لمنح الأدب منزلته الهامة في حياة الأمم. بدون الأدب، سيعاني العقل النقدي، وهو المحرك الحقيقي للتغيير التاريخي والحامي الأقوى للحرية، من خسارة لاتعوض. هذا بسبب أن الأدب الجيد كله متطرف، ويطرح أسئلة حادة عن العالم الذي نعيشه. في كل النصوص الأدبية العظيمة، وغالبًا دون قصدٍ من الكتّاب، توجد نزعة تحريضية.
الأدب لايقول شيئًا لمن هم راضون بما لديهم، لمن يرون الحياة بما يعيشونها الآن. الأدب هو قوت الروح المتمردة، هو إعلان عدم الانقياد، هو ملجأ لمن لديهم القليل جدًا أو الكثير جدًا في الحياة. الشخص منا يبحث عن ملاذه في الأدب حتى لا يكون هادئًا ومطمئنًا. أن تركب جنبًا إلى جنب مع ذلك السائس الهزيل وذلك الفارس المرتبك في حقول لامانشا، أن تبحر على ظهر حوت مع الكابتن آيهاب، أن تشرب الزرنيخ مع إيما بوفاري، أن تتحول إلى حشرة مع غريغور سامسا، هذه كلها طرقٌ اخترعناها لنجرد أنفسنا من أخطاء وإملاءات هذه الحياة الظالمة، هذه الحياة التي تجبرنا دائمًا أن نكون الشخص نفسه بينما نتمنى أن نكون مختلفين لكي نرضي رغباتنا التي تتملكنا.
يهدئ الأدب هذا الاستياء الحيوي للحظات، لكن في هذه اللحظات الخارقة، في هذا التعليق المؤقت للحياة، هذا التوهيم الأدبي ينقلنا لخارج التاريخ، ونصبح مواطنين لأرض لا تنتمي للزمان، وبالتالي هي أرض خالدة. فنصبح أكثر حساسية، وثراء، وأكثر تعقيدًا وسعادة، وأكثر وضوحًا مما نحن عليه في حياتنا الرتيبة. عندما نغلق الكتاب ونتخلى عن الخيال الأدبي، نعود إلى وجودنا الفعلي ونقارنه بالأرض المذهلة التي غادرناها توًا. وياللخيبة التي تنتظرنا! لكن هناك إدراكًا هائلًا ينتظرنا، وهي أن الحياة المتخيَّلة من الرواية أجمل وأكثر تنوعًا، أكثر فهمًا وأقرب للكمال من الحياة التي نعيشها ونحن واعون، تلك الحياة التي تحدها الظروف وضجر الواقع. بهذه الطريقة، نرى الأدب الجيد الحقيقي دائمًا كهدام، كمتمرد، كمقاوم، هو تحدٍ لما هو موجود.
كيف لايمكن أن نشعر بالخداع بعد قراءة "الحرب والسلام" أو "البحث عن الزمن المفقود" ونعود إلى عالمنا ذو التفاصيل التافهة، عالم مليء بالحدود وبالموانع التي تقف بانتظارنا في كل مكان وفي كل خطوة لتفسد خيالنا؟ فوق مهمته لاستمرارية الثقافة ولإثراء اللغة، أكبر مساهمة للأدب في التقدم البشري (دون قصد، وفي معظم الحالات) هي تذكيرنا بأن العالم جُعل سيئًا، وأن من يدعي العكس من الأقوياء والمحظوظين يكذب، وأن الكلمة يمكن أن تُطوَّر وتكون أقرب للعوالم التي يستطيع خيالنا ولغتنا تشييدها. المجتمع الحر والديمقراطي يجب أن يحتوي مواطنين واعين بالحاجة المستمرة للكلمات التي نعيشها ونحاول – بالرغم من أن المحاولة تكاد تكون مستحيلة – أن نجعلها تشبه العالم الذي نود أن نعيشه. وليس هناك من وسيلة أفضل من قراءة الأدب الجيد لإثارة عدم الرضا عما يوجد، وتكوين مواطنين ناقدين ومستقلين عمن يحكمهم، ويمتلكون روحية دائمة وخيالًا نابضًا.
مع ذلك، أن يُسمى الأدب بالتحريض لأنه يحسس وعي المواطن لعيوب العالم لا يعني بالضرورة – كما يبدو أن الحكومات والكنائس تفكر، ولذلك أنشأت الرقابة – أن النصوص الأدبية ستثير اضطرابات اجتماعية أو تسرع نشوء ثورات. لايمكن التنبؤ بالتأثير الاجتماعي والسياسي لقصيدة أو رواية أو مسرحية، لأنها لم تصنع بشكل جماعي من عدة خبراء. تصنع هذه الأعمال من قِبل أفراد وتُقرأ من قِبل أفراد ممن تختلف استنتاجاتهم بشكل كبير عندما يكتبون أو يقرأون. لذلك من الصعب، بل من المستحيل، أن تنتج أنماطًا وردود أفعال دقيقة. فضلًا عن ذلك، قد تكون القيمة الجمالية لعمل أدبي ما سببًا في حدوث القليل من العواقب الاجتماعية. هناك رواية متواضعة4 لهارييت ستاو يبدو أنها لعبت دورًا حاسمًا في تنبيه الوعي السياسي والاجتماعي لفظاعات العبودية في الولايات المتحدة. إذًا، واقع ندرة تأثيرات الأدب لايعني أنها ليست موجودة. مايجب أن نعرفه هو أنها آثار صنعت من قِبل مواطنين تغيرت شخصياتهم جزئيًا بسبب الكتب.
فلنعد صياغة التاريخ بلعبة رائعة. ولنتخيل عالمًا بدون أدب، إنسانية لم تقرأ الشعر ولا الروايات. في هذا النوع من الحضارات الضامرة، بقواميسها الهزيلة التي تحفل بالآهات وإيماءات القرود على حساب الكلمات، من المؤكد أن بعض الصفات لن توجد. وتشمل تلك: حالم دونكيخوتي، مأساوي كافكاوي، سوداوي أورويلي، ساخر رابيلي، سادي، ماسوشي، وكلها ذات أصول أدبية. وللتأكد من ذلك، سيبقى لدينا مجانين، وضحايا جنون عظمة واضطهاد، وأشخاص بشهوة عادية وتجاوزات فاحشة، وأناس منحطين لدرجة الحيوانات يستمتعون بتلقي الألم وتسليطه. لكننا لن نستطيع أن نرى ماهو خلف هذه السلوكيات المتطرفة المحظورة من قبل قواعد المجتمعات، تلك الخصائص الأساسية في الإنسان، لم نكن لنرى السمات الخاصة بنا؛ لذلك نحن مدينون لمواهب ثيرفانتس، كافكا، أورويل، رايبليه، دو ساد، و ماسوش لأنهم استطاعوا كشفها لنا.
عندما ظهرت رواية "دون كيخوته دي لامانشا"، سخر قراءها الأوائل من هذا الحالم المتطرف كما سخرت منه بقية الشخصيات في تلك الرواية. اليوم، نحن نعرف أن إصرار ذلك الفارس ذو الوجه الحزين على رؤية عمالقة بينما كان هناك طواحين هواء، وعلى التصرف بطريقة تبدو سخيفة، هو الشكل الأعلى للكرم، وهو تعبير عن مظاهرة تجاه بؤس هذا العالم على أمل تغييره. مفاهيمنا عن المثالية والمثاليين تفوح بمعانٍ إيجابية ثانوية، لن تكون ماهي عليه، ولن تُحترم وتكون واضحة، لو لم تجسد في بطل الرواية بتلك القوة المقنعة لثيرفانتس العبقري5. يمكن أن يقال نفس الشيء عن الأثنى الصغيرة الأقرب لدونكيخوته، إيما بوفاري، والتي قاتلت بحماس لتعيش الحياة الرائعة من الفخامة والشغف، والتي عرفتها وقرأت عنها من الروايات، كفراشة اقتربت كثيرًا من ضوء اللهب واحترقت بالنار.
تلك الإبداعات لكل أولئك الأدباء المبتكرين العظماء فتحت أعيننا على آفاقٍ مجهولة لحالاتنا البشرية، جعلتنا نستطيع اكتشاف وتفهم الهوة البشرية المشتركة. عندما نقول "بورخيسي"، فإن تلك الكلمة تستحضر فصل عقولنا عن منطق الواقع وتدخلنا إلى عالمٍ مذهل، إلى عقلية دقيقة وأنيقة، غامضة وأشبه بالمتاهة بكل تلك المراجع والإشارات الأدبية، والتي لانشعر بالغرابة تجاه شخصياتها لأننا نتعرف فيها على رغباتنا الخفية وحقائقنا الحميمة الخاصة بشخصياتنا، والذي أخذت شكلها بفضل الإبداع الأدبي للويس خوسيه بورخيس. عندما نذكر "كافكاوي" يتبادر إلى الذهن كميكانيكية التركيز في الكاميرات القديمة، كل مرة شعرنا بها بأننا مهددون، كل مرة شعرنا بأنا أفراد لانستطيع الدفاع عن أنفسنا، بكل أجهزة السلطة القمعية التي سببت الخراب للعالم الحديث، الأنظمة السلطوية، الأحزاب العمودية، الكنائس المتعصبة، البيروقراطية الخانقة. من دون تلك القصص القصيرة والروايات لذلك اليهودي المعذَّب من براغ، الذي كتب بالألمانية وعاش دائمًا على اطلاع، لم نكن لنستطيع فهم الشعور بالعجز لدى الفرد المعزول، أو رعب الأقليات المضطهدة والتي تعاني التمييز، تلك المتواجهة مع القوة الطاغية التي يمكنها سحقهم والقضاء عليهم من دون أن يظهر الجلادون أوجههم حتى.
صفة الأورويلي، وهي الصفة الأقرب للكافكاوي، تعطي تنبيها لتلك السخافة الرهيبة، تلك السخافة التي صُنعت من قِبل الأنظمة الشمولية في القرن العشرين، الديكتوريات الأكثر توحشًا وتعقيدًا في التاريخ، في تحكمهم بأفعال وأحاسيس المجتمع. في رواية 1984، وصف جورج أورويل في جو بارد موحش تلك الإنسانية المحكومة للأخ الأكبر، الحاكم المُطلق، والذي بواسطة مزيج مخيف من الرعب والتكنولوجيا، محق الحريات والمساواة والعفوية، وحول المجتمع إلى خلية نحل من البشر. في هذا العالم الكابوسي، طوِّعت اللغة لصالح السلطة، وحُولت إلى "خطاب جديد"، خالٍ من أي ابتكار وموضوعية، ممسوخ إلى سلسلة من التفاهات التي تضمن عبودية الفرد للنظام. صحيح أن نبوءة 1984 لم تمر حتى الآن، والشيوعية الشمولية في الاتحاد السوفيتي ذهبت مع الفاشية الشمولية في ألمانيا وأماكن أخرى، وبعد ذلك بوقتٍ قصير بدأت تتداعى في الصين، وفي كوبا وكوريا الشمالية اللتين تنتميان للماضي. لكن الخطر لم يُمْح بعد، وكلمة "أورويلي" ستبقى لتصف الخطر، ولتساعدنا على فهمه. عالم من دون أدب سيبقى أعمى عن هذه الأعماق الخطرة، والتي نحتاج أن نراها في أسرع وقت.
عالم غير حضاري، بربري، يخلو من العاطفة وذو خطاب جلف، جاهل ومأساوي، من دون شغف وجلف في الحب، هذا العالم من دون أدب، هذا الكابوس الذي أحذر منه وأرسم معالمه، سيكون سمته الأساسية الانسياق وتسليم عالمي لبني البشر إلى السلطة. بهذا المنطق، سيكون عالمًا حيوانيًا. الغرائز الأساسية لدى الإنسان ستحدد مشواره اليومي باتجاه سد الجوع والشقاء لكي يبقى، ستحدده بالخوف من المجهول وإشباع الحاجات المادية. لن يكون هناك مكان للروح في هذا العالم. وفوق ذلك، رتابة العيش المسحوق ستولد الإحباط وستلقي بظلال شريرة للتشاؤم، الشعور بأن الحياة البشرية ماكان لها أن توجد، وأنها ستكون هكذا دائمًا، وأن لاأحد يمكنه تغييرها.
عندما يتخيل الواحد منا هذا العالم، تقفز إلى ذهنه تلك المجتمعات الصغيرة التي يختلط فيها الدين بالشعوذة، والتي تعيش على هامش التطور في أمريكا الجنوبية وأفريقيا وأوقيانوسيا. ولكن فشلًا مختلفًا يخطر في بالي. الكابوس الذي أحذركم منه لن يكون نتيجة قلة التطور، بل سيكون نتيجة التحديث والتطوير المفرط. نتيجة للتكنولوجيا وتبعيتنا لها، قد نتصور مجتمعًا في المستقبل وهو ممتلئ بالشاشات والسماعات، ومن دون كتب، أو في مجتمع يعتبر الكتب – وأقصد هنا الأعمال الأدبية – ماكانوا يعتبرون الخيمياء: ذلك الفضول القديم، والشيء الذي يُمارس في سراديب ومقابر حضارة الإعلام من قِبل أقلية عُصابية ومضطربة. وأخشى أن هذا العالم المعرفي، على الرغم من ازدهاره وقوته، وهذا المعيار العالي من المعيشة والإنجاز العلمي، من شأنه أن يكون غير متحضر بعمق وسيكون خالي الروح. ستكون إنسانية آلية تركت تلك الإنسانية التي تخلت عن الأدب.
ليس من المرجح، بالطبع، أن هذه اليوتوبيا المروعة سوف تأتي. نهاية قصتنا ونهاية التاريخ لم تكتب بعد، ماسيأتي لاحقًا مرهون برؤيتنا وبإرادتنا. ولكن إن أردنا أن نتجنب فقر خيالنا، ونتجنب اختفاء ذلك الاستياء الثمين الذي يهذب حساسيتنا ويعلمنا التحدث ببلاغة ودقة، فيجب أن نتصرف. وبعبارة أدق، يجب أن نقرأ.
هوامش
1- هو اسم لأحياء اليهود القديمة في أوروبا، والتي كانت توصف بالعشوائية والضيق.
2- هي مسلسلات كانت تعرض على التلفاز، سميت بالصابونية لكثرة إعلانات الصابون التي كانت تتخللها.
3- هو صحافي وإعلامي فرنسي، متخصص في تقديم البرامج الثقافية في فرنسا. ويشغل حاليًا رئاسة أكاديمية الغونكور، صاحبة أرفع جائزة أدبية فرنسية.
4- رواية "كوخ العم توم"، ترجمت للعربية عن طريق منير البعلبكي.
5- يشير يوسا هنا إلى تغير قراءة الناس للأدب عبر الزمن، فتأمل!


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.