هناك شواهد كثيرة على تلك الريبة التى أصبحت تكتنف العلاقة بين الجمهور العادى والكتب والكتًاب، على أننا يجب أن نتروى قليلاً قبل أن نقرر إن كانت القراءة فى طريقها للانحسار كما قد يبدو على السطح فالقراءة تزداد انتشاراً وتضم إلي ممارسيها فئات جديدة كل يوم، ولاسيما بعد انتشار ظاهرة استخدام شبكة الانترنت فى المدارس والأندية والمصانع والبنوك والشركات الخاصة، فهل يمكن أن نقول أن ما انحسر هو شكل القراءة التقليدية فقط؟ هل يتعلق الأمر بتدنى عدد قراء الكتب الورقية فى مقابل ما أصبح معروفاً بالقراءة الالكترونية؟ يبدو لي أن الأمر كذلك ولذا نلاحظ هذا الزخم الهائل والمتنوع للمواقع والمنتديات الأدبية والعلمية التى ابتكرت أساليب غير تقليدية للتواصل بين الناس من شتى بقاع الأرض وساهمت إلى حد كبير فى كسر طوق العزلة التى فرضها الواقع السياسى والاجتماعى على بعض الكتاب والمفكرين، بل وشكلت بعض المواقع قلقا للنظم السياسية إذ استخدمها الجيل الجديد من الطلاب والشباب فى الدعوة إلى الاعتصامات والاضرابات فى بعض البلاد العربية كموقع ""facebook بل ساهمت شبكة الانترنت في نشر الكثير من الكتب الممنوعة التي كان يصعب على الجمهور الحصول عليها كونها مصادرة من قبل السلطات، أعنى ما لم يكن متاحاً من النصوص أصبح متاحاً فما هى المشكلات التى تعترض سبيل القراءة الالكترونية إذن؟ فى اعتقادى أن أخطر ما في الأمر هو أن القارىء لا يستطيع أن يقضى ساعات أمام شاشة الكمبيوتر لقراءة الأعمال الروائية مثلاً دون أن يؤثر ذلك على بصره وعموده الفقرى وبالتالى ربما يصلح النشر الاكترونى للقصائد أو للأخبار والمقالات السياسية القصيرة، هنا لا يمكن للحاسوب أن يعوض عن تلك الحميمية التى تشكل علاقتنا بالكتاب الورقى الذى يمكن حمله معنا أينما ذهبنا، الأمر الآخر أن هناك فوضى فى النشر الاكترونى تجعل عملية تقييم الأعمال بالغة الصعوبة وهنا لا أحب أن أبدو انتقائياً لأن التدوين من حق كل الناس باختلاف مواهبهم وقدراتهم ولكن حينما نتحدث عن المعايير الفنية يصبح الأمر مختلفاً لأننا نكتشف كماً من الترهات لا حدود لها وكماً من التعليقات التى تعبر إما عن الجهل بتلك المعايير أو عن المجاملة، والخطورة هنا أن ذلك ينظر إليه من قبل المستخدمين الجدد للمواقع الأدبية على أنه نموذج وبالتالي يتم إفساد أجيال بأكملها من الموهوبين ناهيك عن إفساد ذائقة القراء أنفسهم إشكالية التعليم وقراءة الأدب من المؤكد أن النمط الاستهلاكى الجديد للحياة فرض على الجمهور قراءة استهلاكية أيضاً وبالتالى لم تحظ المواقع التى تنشر الأعمال الأدبية والفكرية الجادة بنفس اهتمام المواطن الذى يبحث عن تسلية خفيفة تريحه من جهامة يومه قبل أن يأوى إلى فراشه، ولكن لم يصر المواطن الأوربى على القراءة الأدبية وعلى كتابة مذكراته اليومية رغم أنه ربما يعمل لساعات أكثر من المواطن العربى؟ أعتقد أن الأمر هنا مرجعه للنظام التعليمى فالنصوص الأدبية التى يدرسها الطلاب فى مراحل التعليم فى انجلترا مثلاً تجعل من الصعب على أي منهم أن يتخلى عن متعة القراءة حتى الرمق الأخير فما الذى يحدث هنا؟ أعتقد أن هناك ثمة انفصال بين نظامنا التعليمى وإبداعات كتابنا المرموقين بالإضافة إلى أن النصوص المقررة على المرحلة الابتدائية والتى من شأنها غرس جذور التعلق بالأدب فى وجدان الطفل هى نصوص غاية فى السوء كتبها موجهون لا علاقة لهم بالشعر، وقد كنت أشعر بعذاب ابنى وهو يقرأ رواية "الصقر الجرىء" المقررة عليه فى المرحلة الإعدادية التى كانت بالغة القبح حتى على مستوى صياغة الجمل وقد تنبه بعض المبدعين الذين وجدوا أنفسهم متهمين من قبل أولادهم إلى ذلك الأمر فكتب بعضهم مقالات فى الصحف واستغاثات للمسؤلين عن المناهج حتى تم تغيرها ولكن بقيت طرق تدريس الأدب فى المدارس متخلفة جدا ولا تسعى لتكوين ذائقة ترتقى بوجدان التلاميذ و تحولت الروايات والنصوص إلى تهم يواجهها الطالب عبر أسئلة من نوع "متى فعل فلان كذا؟ وما الذى جعله ينظر للسماء؟ وكم مرة قابل فلان فلاناً؟ وقد أزعجنى أن أحد تلميذاتى وهي ابنة طبيب مثقف تكره "طه حسين" لأن مدرسى اللغة العربية قالوا لها أنه كان علمانياً وضعيف الإيمان هذا بالإضافة إلى صعوبة الأسئلة التى تحول التلميذ إلى شاهد نفى وشاهد إثبات حسب مزاج واضعى الامتحانات، عرفنا كيف يتم تقديم النصوص فى مدارسنا وكيف تساهم تلك النصوص الضعيفة فى توسيع الهوة بين المتعلم وبين الأدب الجاد والحقيقي بالإضافة إلى إفساد ذائقته لأنها تربى داخله قناعة أن الأدب ينبغي أن يكون مثيرا ومسلياً_ رغم أن التسلية تنقلب إلى تهمة عندما نتحدث عن نمط الأسئلة، وهنا يحدث أمران، الأول هو أن بعض الطلاب النابهين ينظرون باحتقار إلى تلك النماذج السيئة ويتعاملون معها على أنها مادة دراسية ينبغى دراستها فقط للحصول على مجموع آخر العام والأمر الثانى أن طلاباً آخرين ممن لديهم الموهبة والرغبة في أن يكونوا مبدعين يرون في تلك الأعمال نماذجا يمكن محاكاتها لكي يكونوا كتاباً مرموقين وكلا الأمرين يشكل عقبة فى الطريق للتواصل بين الأدباء والمبدعين الحقيقيين وبين الجمهور المفترض من الطلاب فى المدارس والجامعات. من ناحية أخرى يتقاعس الإعلام الرسمى والمستقل عن تسويق الأعمال الأدبية الجادة وعن التعريف بالكتاب والشعراء فى مقابل دعمه غير المحدود لكتاب الدراما التلفزيونية والأغانى وربما تتناول الأعمال الدرامية الشعراء بطريقة ساخرة فتقدمهم ككائنات مشوهة ومرضى نفسيين مما يساهم بدوره ف عزلة الأديب وابتعاد الناس عنه واعتباره شخصاً منفراً غير متوافق مع المجتمع، ولكن يبقى أن السبب الأخطر لتراجع القراءة الأدبية يكمن فى المشاكل الاقتصادية الطاحنة التى لا تترك وقتاً لا للآباء ولا للأمهات لكى يقرأو دواوين الشعر والروايات، لأن معظمنا ولا سيما الموظفين من الطبقة الوسطى فشل فى الحصول على عمل واحد يمكنه من مواجهة أعباء المسكن والملبس والعلاج وبالتالى تراجعت المساحة التى كان يمكن أن يمارس فيها الناس قراءة الأعمال الأدبية ولم يعد لدى محدودى الدخل وقت لتأمل حياتهم وأصبحنا نسمع عبارات مثل "ياعم هوه احنا ناقصين شوفلنا حاجة تضحكنا". هذا طبعا بالإضافة إلى انتشار الثقافة الوهابية القادمة مع العائدين من المصريين العاملين بدول الخليج، تلك الثقافة التي تجعل من الحياة تهمة ومن التأمل جريمة والتي أدت إلى اعتداء سماك بمطواة على الأديب الكبير نجيب محفوظ لأن المتأسلمين أفهموه أن الرجل ملحد وأن رواياته هى وسيلته لبث الدعوى إلى العلمانية وبانتشار البث الفضائى وصعود نجم الدعاة الجدد وازدياد الإحساس بالذنب لدى قطاعات كبيرة من المصريين تم استلاب الوجدان لصالح ثقافة الموت وفقه الحيض والنفاس وأصبح الناس عاجزين عن أى مبادرة وتركوا القراءة التى كانت تنطوى على اختيار شخصى إلى قراءة أخرى فى كتب تتحدث عن عذاب القبر والشجاع الأقرع وزواج المتعة والمسيار، ورغم أن الدولة ألغت الرقابة على الكتب إلا أن هناك رقابة أكثر صرامة تستفيد من حقائق الواقع المرير الذى يتمثل فى الآتي: 1- ليس لدى الشرائح الفقيرة من الناس وقتاً للقراءة لأن الحياة تدفعهم للبحث عن أعمال إضافية أو للوقوف ساعات فى طوابير الخبز المدعم 2- من يمتلك الوقت هم فقط من عادوا بثروات من الخليج ومعظم هؤلاء خرجوا من الثقافة المصرية إلى ثقافة البدو التى تعتبر طه حسين ونجيب محفوظ ويوسف إدريس وأحمد بهاء الدين وكل رموز ثقافتنا أعداء للدين كما يفسرونه شيوخ الفضائيات والسيد يهاتCDs 3- الشرائح العليا والأغنياء الجدد مشغولين بالاستهلاك الترفى والمتع الحسية والمادية ولم يرثوا تراث أرستقراطية الماضى تلك التي كانت ترعى الأدباء والفنانين لأنها كانت تمتلك ذائقة فنية راقية وكانت الموسيقى والشعر وحفلات الأوبرا تشكل جوهر المتعة لديها، أما الأغنياء الجدد فهم مهتمون أكثر بامتلاك الشركات الكبرى وأراضى تقاسيم البناء وبالتالي فأنهم قراء للصفحات الاقتصادية ولنشرات المنتجات وكتالوجات الأجهزة الحديثة التي يستخدمونها أو يتاجرون فيها القراءة نشاط إنسانى سيبقى طالما بقى الإنسان يمكن القول إن ما انحسر من القراءة هي القراءة فى الأعمال الأدبية والفكرية أما القراءة كنشاط إنسانى فقد أصبحت سمة يشترك فيها الناس جميعاً بدءاً من السائق الذى يقرأ لافتات وإرشادات المرور مروراً بالباحثين عن وظيفة خالية فى إعلانات الصحف وصعوداً حتى الباحثين الذين يطالعون الكتب في المكتبات العامة ومكتبات الجامعة للإعداد لرسائل الماجستير والدكتوراة، أعنى أن القراءة الوظيفيةFunctional Reading والقراءة لغرض محددReading for specific purpose آخذة فى الانتشار، بينما القراءة للتأمل ولإدراك معان للوجود الإنسانى وللاستمتاع بالعوالم المتخيلة فهى تعانى من هزال واضح وينحصر مستخدميها في فئة الكتاب والنقاد وحدهم رغم أن معظمهم أيضا لا يقرأون إلا أعمال أصدقائهم ربما للمجاملة، وفي اعتقادى أن عودة قراءة الأعمال الأدبية العظيمة في وطننا العربى مرهون بتحقيق أحلام الإنسان فى هذه المنطقة فى الحصول على الحد المعقول من الحياة الكريمة، وأيضاً مرهون بتغيير مناهج الأدب فى المدارس والجامعات من حيث المحتوى والطريقة.