العالم متخم بالبشر لكن علينا ألا ننسى أن الحيوانات والطيور والأسماك والحشرات تقاسمنا العيش على هذا الكوكب من يقرأ أعمال غونتر غراس، ويتابع سيرة حياته الشيقة والشقية، يدرك أنه أمام ظاهرة استثنائية في عالم الفن والأدب المعاصر، وأنه في حضرة فنان شامل استطاع أن يكتسب احترام النقّاد، وأن يحصد نجاحاً جماهيرياً وتجارياً في كافة الأوساط الفنية. لم يترك غراس مجالاً إبداعياً إلا وأفرغ فيه جزءاً من موهبته، فهو الروائي والشاعر والكاتب الصحفي والمسرحي والنحّات والرسّام. وقد سجل حضوره على الساحة الأدبية العالمية مع إصدار روايته الأولى التي حققت أعلى نسب المبيعات في العام 1958، «الطبل الصفيح»، وهي الرواية التي عُرفت مع ما تلاها من أعمال، أقصوصة «القط والفأر» 1961، ورواية «سنوات الكلاب» 1963، ب»ثلاثية دانتسيغ». أما الكتب العديدة الأخرى التي أغنى بها مكتبة الأدب العالمي فتضم أعمالاً مثل «من يوميات حلزون» (1972)، و»السمكة المفلطحة» (1977)، و»اللقاء في تيلكتي» (1979)، و»هيدسبيرث»، أو «الألمان ينقرضون» (1980)، و»الجرذ» (1986)، و»مدّ لسانك» (1989). وكما اشتهر بأعماله الأدبية، عُرف بالقدر نفسه بآرائه السياسية الجدلية في ألمانيا. وقد عمل لعشر سنوات كمحرر أول لخطابات ويلي براندت، وكان من مؤيدي الحزب الديمقراطي الاجتماعي لردح طويل من الزمن. وكان في الآونة الأخيرة من بين قلة من المثقفين الألمان الذين عارضوا بشكل علني المسار السريع الذي اتخذته عملية توحيد الألمانيتين. في العام 1990 وحده أصدر غراس كتابين ضما محاضرات وخُطباً ونقاشات تركزت على الموضوع نفسه. بمناسبة رحيله، نورد جزءا من الحوار الطويل الذي أجرته معه المجلة الإلكترونية النصف الشهرية «أوكسجين». كيف أصبحت كاتباً؟ أعتقد أن لهذا الأمر علاقة بالوضع الاجتماعي الذي نشأت في ظله. كانت عائلتي من العائلات التي تنتمي إلى الطبقة المتوسطة الدنيا، وكنا نمتلك شقة صغيرة مكوّنة من غرفتين. لم يكن لدي أنا وشقيقتي غرفاً خاصة بنا، أو حتى مكاناً لنا وحدنا. في غرفة المعيشة، على مسافة من النافذتين، يوجد ركن صغير اعتدت أن احتفظ فيه بكتبي مع غيرها من الأشياء، كألواني المائية وغيرها من مفردات طفولتي. كان علي في كثير من الأحيان أن أتخيل الأشياء التي أحتاجها ولا أستطيع الحصول عليها. تعلمت في وقت مبكر جداً أن أقرأ في قلب الضجة، وفي قلب الضجة أيضاً بدأت أكتب وأرسم. من النتائج الأخرى لهذه البداية هوسي الدائم بامتلاك المزيد من الغرف. لدي مكاتب في أربعة أماكن مختلفة. يسكنني خوف من العودة من جديد إلى الوضع الذي كنت عليه في شبابي، حيث لم يكن لي من مكان في هذا العالم سوى ركن وجيز من غرفة صغيرة! ما الذي جعلك تتجه إلى القراءة والكتابة في ظل هذه الظروف بدلاً من اللجوء إلى الرياضة مثلاً، أو غيرها من ضروب اللهو والتسلية الحسية؟ كنت في طفولتي كذاباً كبيراً، ولحسن الحظ أحبت أمي أكاذيبي. كنت أقدم لها الوعد تلو الآخر، وكلها وعود بأفعال عجيبة غريبة. عندما كنت في العاشرة من عمري اعتادت أن تناديني "بير جيينت، بير جيينت"! وكانت تقول لي: ها أنت تقص علي هذه الحكايا الرائعة عن الرحلات التي سنقوم بها إلى نابولي وغيرها... وهكذا بدأت بكتابة هذه الأكاذيب وتحويلها إلى قصص منذ نعومة أظفاري. وما زلت إلى الآن أقوم بذلك، أكذب وأكتب ما أكذبه! بدأت بكتابة روايتي الأولى عندما كنت في الثانية عشرة من العمر، وكانت عن الكاشوبيانيين. وهي ما أصبح بعد عدة سنوات "الطبل الصفيح"، حيث كانت آنا، جدة أوسكار، كاشوبيانية مثل جدتي. ولكني ارتكبت خطأً أثناء كتابة روايتي الأولى، إذ كانت كل الشخصيات التي قدمتها في الرواية ميتة في نهاية الفصل الأول منها، ولم أتمكن من متابعة العمل بعد ذلك! كان هذا أول درس تعلمته في الكتابة: أن أكون حذراً في خلق الشخصيات ورسم مسارها. ما هي الأكاذيب التي منحتك المتعة الأكبر؟ غونتر غراس: تلك الأكاذيب التي لا تتسبب بضرر لأحد، والتي لا يحمي المرء نفسه بها، أو يرتكبها لأذية شخص آخر. أكاذيب كهذه ليس لي شأن بها. غالباً ما تكون الحقيقة مملة للغاية، وفقط من خلال بعض الأكاذيب البريئة يمكن لنا أن نضفي بعض الإثارة على هذه الحقيقة المضجرة. هذا أمر لن يضر أحداً. لقد تعلمت أن تلك الأكاذيب الفظيعة التي أرتكبها لا تغيّر شيئاً مما يحدث في العالم. لو أنني كتبت منذ عدة سنوات عملاً أستبق فيه التطورات السياسية التي تشهدها ألمانيا مؤخراً، لكان الناس قالوا: ياله من كاذب! ماذا كانت محاولتك التالية بعد فشل أولى رواياتك؟ كان كتابي الأول عبارة عن ديوان شعر ورسم. الثابت في محاولاتي الشعرية الأولى هو دمج الصورة بالقصيدة. أحياناً تنبع الفكرة فيها من صورة، وفي أحيان أخرى تنبثق من كلمة أو عبارة. بعد ذلك، وعندما أصبحت في الخامسة والعشرين من العمر، وبت قادراً على شراء آلة كاتبة، فضّلت أن أطبع أعمالي بإصبعي الاثنين. النسخة الأولى من "الطبل الصفيح" تم إنجازها بالكامل باستخدام الآلة الكاتبة فقط. أما الآن فإنني أتقدم في العمر، وبالرغم من أنني أسمع أن العديد من زملائي الأدباء يكتبون باستخدام الحاسوب، إلا أنني عدت من جديد إلى تدوين أعمالي بيدي! النسخة الأولى من رواية "الجرذ" كانت في كتاب ضخم صفحاته غير مسطّرة، وقد حصلت على هذه الصفحات من ناشري. عندما يكون أحد كتبي في طريقه إلى النشر، أطلب دائماً نسخة عمياء بصفحات فارغة لاستخدمها في تدوين مخطوطتي التالية. وهكذا تكون النسخة الأولى من أعمالي في هذه الأيام مكتوبة باليد ومزوّدة بالرسومات، والنسخة الثانية والثالثة مطبوعة على الآلة الكاتبة. لم أنهِ يوماً كتاباً دون كتابة ثلاث نسخ منه. وعادة ما يكون هناك نسخة رابعة تأتي مليئة بالتعديلات. هل تكون كل نسخة مرتبة بشكل صحيح، ولها بداية ووسط ونهاية؟ لا. أكتب النسخة الأولى دائماً بسرعة. وفي حال كان هناك فجوة، فليكن! عادةً ما تكون النسخة الثانية طويلة جداً، ومفصّلة، ومكتملة. ولا تحتوي على فجوات، لكنها تكون جافة بعض الشيء. أحاول دائماً في النسخة الثالثة أن أستعيد عفوية النسخة الأولى، والمكونات التي تخدم العمل من النسخة الثانية. وهذا بالمناسبة عمل شاق للغاية. ما هو برنامجك اليومي عندما تعمل؟ أثناء العمل على النسخة الأولى، أكتب ما يتراوح بين خمس وسبع صفحات يومياً. ويتضاءل هذا العدد ليصل إلى ثلاث صفحات عندما أعمل على النسخة الثالثة، إذ تصبح وتيرة العمل بطيئة جداً في هذه المرحلة. وهل تقوم بذلك في الصباح أم في فترة ما بعد الظهر، أم أنك تفضل العمل في الليل؟ لا أعمل في الليل بتاتاً. لا أؤمن بالكتابة في الليل لأن الأمر يتم بسهولة بالغة، وغالباً ما تبدو الأشياء في الليل أجمل مما هي في الواقع. وعندما أعود في النهار لقراءة ما كتبته، لا يكون بالمستوى المطلوب. أحتاج إلى ضوء النهار لأنطلق. أتناول إفطاراً مطولاً بين التاسعة والعاشرة، أقرأ خلاله وأستمع إلى الموسيقى. بعد الإفطار أبدأ بالعمل، وبعد الظهر آخذ استراحة القهوة. ومن ثم أبدأ مجدداً، وأستمر في العمل حتى السابعة مساءً. كيف تعلم أن الكتاب الذي بين يديك قد أُنجز؟ عندما أكون في خضم كتابة عمل من قياس ملحمي، تأخذ عملية الكتابة وقتاً طويلاً نسبياً. قد يستغرق الأمر ما يترواح بين خمس وأربع سنوات للانتهاء من كل مسودات العمل. يُنجز الكتاب عندما يستنزف كل طاقتي. كان بريخت مدفوعاً لإعادة كتابة أعماله مرة بعد أخرى. حتى بعد نشرها، لم يكن ينظر إليها أبداً على أنها مكتملة. لا أعتقد أنني قادر على القيام بذلك. بإمكاني فقط أن أكتب أعمالاً مثل "الطبل الصفيح" أو "من يوميات حلزون" في فترة معينة من حياتي. تولد الكتب نتيجة لما أشعر به وأفكر فيه في وقت معين. أنا على ثقة من أنه لو فُرض علي إعادة كتابة "الطبل الصفيح" أو "سنوات الكلاب" أو "من يوميات حلزون"، لكنت أسأت لهذه الأعمال بالتأكيد. كيف تفرّق بين أعمالك الخيالية والواقعية؟ الفكرة القائلة إن "الخيال في جهة، والواقع في الجهة المقابلة" هي محض هراء. قد تكون مفيدة لباعة الكتب ليتمكنوا من تصنيف الكتب حسب النوع، لكني لا أحبذ أن تُصنّف كتبي بهذه الطريقة. لطالما تخيلت وجود لجنة من باعة الكتب تقوم بعقد اجتماعات لتقرر أي الكتب هي خيالية وأيها واقعي. بالنسبة إلي، ما يقوم به باعة الكتب هو بحد ذاته ضربٌ من الخيال! حسناً، هل يختلف الأسلوب والشكل اللذان تتبعهما عند كتابة المقالات والخُطب عما تتبعه عند تأليف الروايات واختلاق القصص؟ نعم، يكون الأمر مختلفاً لأنني أكون في مواجهة حقائق لا أستطيع تغييرها. ليس من عادتي أن أدون يومياتي بشكل دوري، لكني قمت بذلك عند التحضير لكتابة "من يوميات حلزون". كان ينتابني شعور أن العام 1969 سيكون عاماً مهماً سيشهد تحولاً حقيقياً على الصعيد السياسي يتجاوز مجرد الإعلان عن حكومة جديدة. لذا، وأثناء عملي في الحملة الانتخابية بين مارس وسبتمبر من العام 1969 – لقد استغرقت وقتاً طويلاً – كنت أدون يومياتي واحتفظ بها. الأمر نفسه حدث لي في كالكوتا. اليوميات التي كتبتها حينها تحولت في ما بعد إلى رواية "مدّ لسانك". كيف توفّق بين نشاطك السياسي وعملك الفني والأدبي؟ لا يُعنى الكتّاب بعالمهم الداخلي والفكري وحسب، بل هم جزء أيضاً من الحياة اليومية بكل تفاصيلها. بالنسبة إلي، الكتابة والرسم والنشاط السياسي هي عبارة عن ممارسات منفصلة عن بعضها البعض، فلكل منها كثافة خاصة به. لكن شاءت الظروف أن أكون متناغماً مع المجتمع الذي أعيش فيه ومرتبطاً به بشكل وثيق. الثابت في كتاباتي ولوحاتي هو أنها معجونة بالسياسة، سواء كان ذلك بإرادتي أم رغماً عني. لا تطفو السياسة على سطح ما أكتبه عن سابق إصرار أو تصميم. جل ما يحدث هو أنني عندما أغوص في موضوع ما للمرة الثالثة أو الرابعة، أكتشف جوانب أهملها التاريخ ولم يأتِ على ذكرها. صحيح أنني ما كنت لأكتب قصة تدور أحداثها فقط حول واقع سياسي ما، إلا أنني لا أرى سبباً لإلغاء الجانب السياسي من أي عمل أدبي، وذلك بحكم ما للسياسة من تأثير صميمي على المجتمعات. فهي في النهاية مبثوثة في كل جانب من جوانب حياتنا بطريقة أو بأخرى. تدمج بين العديد من المواضيع والأشكال الفنية في ما تكتبه، التاريخ، والوصفات، والشعر الغنائي... والرسم، والقصائد، والحواريات، والاقتباسات، والخُطب، والرسائل! فعند تناوُل مفاهيم ملحمية، أرى من الضروري استخدام كافة الأسلحة المتاحة في اللغة، وأكثر أشكال التواصل اللغوي تنوعاً. لكن لنتذكر أيضاً، أن بعضاً من كتبي جاءت صافية من ناحية الشكل – مثل "القط والفأر"، واللقاء في تيلكتي". التداخل بين الكلمة والصورة يأتي فريداً في أعمالك. الرسم والكتابة هي المفردات الرئيسية في عملي، لكنها ليست الوحيدة، فأنا أمارس النحت عندما أجد وقتاً لذلك. بالنسبة إلي، توجد علاقة أخذٍ وردّ شديدة الوضوح بين الفن والكتابة، علاقةٌ تشتد أحياناً، وتضعف في أحيان أخرى. كانت هذه العلاقة متينة جداً على مدى السنوات القليلة الماضية. رواية "مدّ لسانك"، التي تدور أحداثها في كالكوتا، هي مثال عن ذلك. ما كان لهذا الكتاب أن يبصر النور لو لم ألجأ إلى الرسم. الفقر المدقع في كالكوتا يلفت انتباه الزوار إلى مواقف تعجز عن وصفها الكلمات، وتضيق عليها المعاني. الرسم هو ما ساعدني على إيجاد الكلمات والتوصيفات المناسبة لما رأيته هناك. لا تظهر الأشعار في كتابك هذا مطبوعة وحسب، بل منها ما هو مكتوب باليد ومتداخل مع الرسومات. هل تُعتبر الكلمات في هذه الحالة أداةً تصويرية وجزء من الصورة المرسومة؟ صيغت بعض المفردات الموجودة في الأشعار أو أوحي بها من خلال الرسومات. عندما تبدأ الكلمات بالتزاحم في رأسي، أبدأ بكتابتها فوق ما قمت برسمه، هكذا يتداخل النص والصورة في أعمالي. إذا كان بالإمكان فهم الكلمات المحتواة في الرسومات، فلا بأس، إذ أن الكلمات كُتبت لتُقرأ. لكن عادة ما تكون هذه الكلمات عبارة عن نص أولي يحتوي على ما أكتبه باليد بمجرد أن تخطر لي الفكرة قبل أن أجلس إلى الآلة الكاتبة. لم تكن كتابة هذه الرواية أمراً سهلاً أبداً، ولا أعرف حتى الآن لماذا كان الأمر بهذه الصعوبة. ربما كان السبب هو موضوع الرواية، كالكوتا. زرت كالكوتا مرتين. قمت بالزيارة الأولى منذ 11 عاماً قبل أن أبدأ بكتاب "مدّ لسانك". وكانت تلك أول مرة أزور فيها الهند. وقد لبثت فيها بضعة أيام فقط. صُدمت لما رأيت. تشكلّت لدي منذ البداية رغبة في العودة والبقاء لوقت أطول لأتمكن من رؤية المزيد مما يُكتب عنه. كنت قد ذهبت في رحلات أخرى إلى آسيا وإفريقيا، لكن كلما دخلت أحد الأحياء الفقيرة في هونغ كونغ أو مانيلا أو جاكارتا، كنت أتذكر حال الناس في كالكوتا. ما من مكان آخر تختلط فيه مشاكل العالم الأول بمآسي العالم الثالث بهذا الشكل المكشوف، وفي وضح النهار. عدتُ إذاً لزيارة كالكوتا مرة أخرى، وحدث حينها أن فقدت قدرتي على استخدام اللغة. لم أستطع أن أكتب كلمة واحدة. هذه هي النقطة التي أصبح الرسم عندها حاجة ملحّة. كان الرسم طريقة أخرى لمحاولة تصوير واقع كالكوتا. وبمساعدة الرسم تمكنت في النهاية من كتابة النثر من جديد. كان هذا القسم الأول من الكتاب، وجاء قريباً من شكل المقال الصحفي. بدأت بعد ذلك بالعمل على القسم الثالث، وهو عبارة عن قصيدة طويلة مكوّنة من إثني عشر جزءاً. إنها قصيدة عن المدينة، مدينة كالكوتا. إذا ما نظرنا إلى النثر، والرسومات والقصيدة معاً، نلاحظ أنها كلها تتحدث عن كالكوتا بطرق مترابطة لكن مستقلة عن بعضها البعض في الوقت نفسه. هناك نوع من التحاور بينها، على الرغم من أن بنية كل من أساليب التعبير الثلاثة هذه مختلفة جداً عن الأخرى. هل يوجد من بين أساليب التعبير تلك أسلوب أهم من الآخر؟ أستطيع الإجابة عن هذا السؤال، في ما يخصني أنا وحدي، بالقول أن الشعر هو الأهم بينها. تأتي ولادة أي رواية من رحم قصيدة. لن أقول أنه الأكثر أهمية بالمطلق، لكني لا أستطيع الكتابة من دونه، فأنا أحتاجه قبل كل شيء كنقطة انطلاق. هل تعتبر أحد أساليب التعبير تلك أكثر فخامة من الأساليب الأخرى؟ لا، لا أبداً! يأتي النثر، والشعر، والرسم في مرتبة واحدة بالنسبة إلي، وتتساوى من حيث القيمة في كل أعمالي. هل يتوفر في الرسم تلك الفعالية الحسية والجسدية التي تكون غائبة في فعل الكتابة؟ أجل هذا صحيح، فالكتابة هي في الأصل فعل تجريدي مضنٍ. وعندما تكون الكتابة ممتعة، تأتي متعتها مختلفة تماماً عن متعة الرسم. مع الرسم، أصاب بهذا الإدراك الحاد بأنني أخلق شيئاً ما على صفحة من الورق. إنه فعل حسي، وهو أمر لا ينطبق على الكتابة. في الواقع، غالباً ما ألجأ إلى الرسم لأتعافى من آثار الكتابة. وهل الكتابة مجهدة وبغيضة إلى هذا الحد؟ يشبه الأمر إلى حدٍ ما فعل النحت. في النحت، علينا العمل على المنحوتة من كل الزوايا والجوانب. إذا غير شيء من هذا الجانب، علينا أن نقوم بالمثل على الجانب المقابل. سحجة واحدة قد تغيّر كل شيء، وتضع اللمسة النهائية على المنحوتة. هناك نوع من التآلف الموسيقي في فن النحت. الأمر نفسه قد يحدث عند الكتابة. قد أعمل لأيام على النسخة الأولى أو الثانية أو الثالثة، أو على جملة طويلة ما، أو حتى على نقطة واحدة! فأنا، أحب النقاط. أعمل وأعمل وكل شيء على ما يرام. كل ما أريد قوله موجود هنا، لكن أشعر أن بعض العبارات تحتاج إلى إعادة صياغة، فأجري بعض التعديلات التي لا أنظر إليها على أنها ذات أهمية، فيتبين أن هذا بالضبط ما يحتاجه النص ليكتمل! هذه هي السعادة بالنسبة إلي، أو شيء أقرب ما يكون إلى السعادة. يستمر هذا الشعور لثلاث أو أربع ثوانٍ، ومن ثم أبدأ التفكير بالنقطة التالية، وإذا بالسعادة تختفي. لنعد إلى الشعر قليلاً. هل تختلف الأشعار التي تكتبها كجزء من رواياتك بطريقة أو بأخرى عن أشعارك المستقلة؟ في ما مضى كنت تقليدياً جداً في ما يتعلق بكتابة الشعر. كنت أظن أنه إذا كان لدي ما يكفي من القصائد، فيجب أن أبحث عن ناشر لها، وأن أرسم بعض الصور وأبدأ بطباعة ديوان شعر. وبعدها سيصبح لدي كتاب شعر بديع، قائم بحد ذاته، وموجّه فقط لعشاق الشعر والقصيدة. بدأت بعد ذلك، منذ كتابة "من يوميات حلزون"، بدمج الشعر بالنثر على صفحات كتبي. لهذا الشعر أسلوب يختلف عن غيره. لا أرى سبباً لعزل الشعر عن النثر، خاصة عندما يكون لدينا في تراث الأدب الألماني هذا الأسلوب الرائع الذي يدمج الشعر بالنثر في إطار واحد. وقد أصبحت معنياً بشكل متزايد بإدخال الشعر بين فصول الرواية، واستخدامه لتحديد البنية النثرية. بالإضافة إلى ذلك، يتيح هذا لقرّاء النثر الذين ينظرون إلى الشعر على أنه أسلوب تعبير صعب و"ثقيل الدم" أن يروا بأنفسهم أنه يمكن للشعر أن يكون في بعض الأحيان أبسط وأسهل فهماً من النثر إلى حد بعيد. ما حجم ما يفقده القرّاء الناطقون باللغة الإنجليزية من جوهر نصوصك وأعمالك عند قراءتها بلغتهم الأم؟ من الصعب علي الإجابة عن هذا السؤال، فأنا لست قارئاً إنجليزياً. لكنني أحاول أن أساعد قدر المستطاع في ترجمة نصوصي وكتبي. عندما راجعت مخطوطة رواية "السمكة المفلطحة" مع ناشري الألماني، طلبت توقيع عقد جديد. ينص هذا العقد على أنه بمجرّد انتهائي من كتابة المخطوطة الأولية، وانتهاء المترجم من دراستها، على الناشر أن ينظم اجتماع بيننا وأن يتحمل تكاليفه. بدأنا بذلك مع "السمكة المفلطحة"، ومن ثم تابعنا النهج نفسه مع "اللقاء في تيلكتي" و"الجرذ". أظن أن في هذا مساعدة كبيرة لهم. المترجمون يعرفون كل شيء عن كتبي، ويطرحون علي أسئلة هامة جداً. بل أنهم يعرفون كتبي أكثر مني شخصياً. قد يكون هذا أمراً مزعجاً في بعض الأحيان، ذلك أنهم يكتشفون بعض السقطات في كتبي، ويخبرونني عنها أحياناً. يقوم كل من المترجم الفرنسي، والإيطالي، والإسباني بمقارنة الملاحظات وتبادل الآراء خلال هذه الاجتماعات. وقد اكتشفوا أن هذا النوع من التعاون يمنحهم عوناً كبيراً في نقل الكتب إلى لغاتهم. أنا بالتأكيد أفضّل الأعمال المترجمة التي يمكنني قراءتها بسلاسة دون أن أشعر بأنني أقرأ أعمالاً مترجمة من لغة أخرى ومنقولة من ثقافة مختلفة. نحن محظوظون لأنه لدينا تلك الأعمال الرائعة المترجمة من الأدب الروسي إلى اللغة الألمانية. الأعمال المترجمة لكتب تولستوي ودويستوفسكي مثلاً، إنها رائعة بحق. وقد أصبحت الآن جزءاً لا يتجزأ من الأدب الألماني. الأعمال المترجمة لشكسبير، وكتّاب العصر الرومنطيقي مليئة بالأخطاء، إلا أنها رائعة أيضاً. تحتوي الأعمال المترجمة الأحدث عهداً لهذه الكتب على أخطاء أقل. ربما لا تحتوي على أي أخطاء، لكنها لا تُقارن أبداً بجمالية الأعمال التي ترجمها فريدريش فون شليغل لودفيج تيك. العمل الأدبي، سواء كان شعراً أم رواية، يحتاج إلى مترجم قادر على إعادة خلقه بلغته. أحاول دائماً أن أدفع من يترجمون أعمالي إلى القيام بذلك. هل تعتقد أن روايتك التي أسميتها باللغة الألمانيةDie Rättin أو "الجرذة"" قد تأثرت بعض الشيء عند نقلها إلى اللغة الإنجليزية، إذ أصبح اسمها "الجرذ"، ولهذا لم يعد في العنوان دلالة على أنثى الجرذ؟ التسمية لن يكون وقعها جيداً على آذان القراء الأمريكان. أما تسميتها ب" Rattessa" فهو أمر غير وارد على الإطلاق. تأنيث عنوان الرواية منحه بعداً جمالياً خاصاً، وأضفى عليه سحراً معيناً، إلا أن الكلمة الإنجليزية غير محددة الجنس، تستحضر في الذهن صوراً يومية لتلك المخلوقات المتوحشة الصغيرة التي تجتاح أنفاق المدينة. هذه الكلمة لم تكن موجودة في لغتنا الألمانية أيضاً. أنا ابتدعتها. أحاول دائماً أن أشجّع من يترجم أعمالي على الابتكار. أقول لهم دائماً: إذا كانت هذه الكلمة غير موجودة في لغاتكم، أوجدوها أنتم! في الواقع يعجبني وقع كلمة sherat! لماذا كان الجرذ في كتابك مؤنثاً؟ هل يعود هذا إلى دوافع شهوانية، أم أسباب تتعلق بالأنوثة، أم لأسباب سياسية؟ في "السمكة المفلطحة" كان الاسم مذكراً. لكن مع تقدمي في العمر لاحظت أنني قد سلمت أمري للمرأة. ولن أغير ذلك. سواء كان ذلك لأنثى بشرية، أم لأنثى الجرذ، لا فرق. أترين كيف تأتيني الأفكار؟ هنّ يدفعنني للقفز والرقص لأجد بعد ذلك الكلمات والقصص وأبدأ بسرد الأكاذيب. الكذب مهم جداً. أن أكذب على رجل مثلي فهذا أمر لا معنى له. أما مع المرأة، فللكذب طعم آخر. في الكثير من كتبك، مثل "الجرذ" و"السمكة المفلطحة" و"من يوميات حلزون" و"سنوات الكلاب"، تدور القصة حول حيوان ما. هل من سبب معين لهذا؟ ربما. أظن أننا قد تحدثنا عن المخلوقات البشرية بما فيه الكفاية. صحيح أن العالم متخم بالبشر، لكن علينا ألا ننسى أن الحيوانات والطيور والأسماك والحشرات تقاسمنا العيش على هذا الكوكب. لقد سكنت هذه المخلوقات الأرض قبلنا بزمن طويل، وسيأتي اليوم الذي يختفي فيه البشر، ولن يبقى على الكوكب سواها. لا فرق بيننا وبينهم. في متاحفنا تجدين عظام الديناصورات، تلك المخلوقات الهائلة التي كانت تحتل الأرض منذ ملايين السنين، والتي عندما ماتت، اختفت من الوجود بهدوء وسلام. رحلت دون أن تخلّف أي سموم! انظري إلى عظامها كم هي نظيفة! هذا لن يحدث عندما يبدأ البشر بالزوال. يوماً ما سيختفي معشر البشر من هذا الوجود مخلّفاً إرثاً من السموم والشرور. يجب أن نتعلّم أننا لسنا وحدنا على هذا الكوكب. يقدم لنا الإنجيل مثالاً سيئاً عندما يرد فيه أن للإنسان سلطان على الأسماك والطيور والمواشي وعلى كل ما يزحف ويسير على سطح الأرض. لقد حاولنا أن نغزو الأرض ونتسيّد الكوكب، لكننا حصدنا أسوأ النتائج.