إذا صح أن الشعر هو سيد الكلام ولغة الأحاسيس، لا يمكن أن يأتي من هواية أو تطفل من أجل حمل لقب « شاعر» كون الشاعر الحقيقي هو من يستطيع أن يشعل لحظة برق قليلة ويترك فيك لحظاتِ رعدٍ طويلة. هو ذاك الشخص الذي بمقدوره أن يبدع الجمال والسمو بالحياة، و في نفس الوقت يمتلك فن صيانة الذات ومواجهة الظلم والمهانة، وباختصار فالشاعر هو كمن يصوغ عقد لؤلؤ و يهديه لمحبوبته، هذا هو سر المتعة المنشودة في الشعر، ترنيمة غنائية صادقة تولدت من شعور المبدع ونفسيته كما أنها تعبر عما يعتمل في خوالجه، فهي بذلك تمثل صورة من صور الاستقرار النفسي الذي يحسه أو يشعره بجماليته، و الأستاذة و المبدعة و الشاعرة فاطمة قيسر واحدة من هذه الفئة التي تمتلك أسرار الشعر ومفاتيحه، وهو اجتذبني من خلال ديوانها «مسرى الأشواق» الذي يمكن اعتباره ثمرة مكابدة و جَلد استطاعت بواسطته أن تضع الشاعرة قدميها في درب الإبداع فهي لا تكتب الشعر فحسب بل ترسم صور شعرية فريدة ورائعة و تعزف ألحان أنوثتها و عفويتها بكلمات رقيقة و شفافة. يعتبر عنوان الديوان مفتاحا لقراءة ما بين دفتيه من قصائد و الإبحار فيها، لما يحمله من دلالة عبر متن رائع يزخر بالمشاعر الفياضة و الصادقة النابعة من أعماق الوجدان الذي لو ترجم لعدة لغات فسيظل محافظا على رونقه و جماله المؤثر في النفوس، كما أننا تلامس من خلاله على تلك الرقة الأنثوية إضافة إلى القوة و العزيمة التي تؤمن و تصر على انتصار الحق وانقشاع ظلمة الليل والحلم بالغد المشرق، و المسرى حسب معجم الرائد هو السير ليلا فيما الأشواق هي نزوع و رغبة النفس إلى الشيء أو تعلقها به، ورغبة الشاعرة هنا هي بحثها و استمراريتها بكل تحدي لبلوغ مقصدها رغم طول الطريق و ظلمتها، بحكم أن نصوصها تعتبر نصوص زمان و ليست نصوص مكان، و هو ما نستشفه من عناوين الديوان السبعة والثلاثين « شوق، سفر في الغياب، دعها تهيم، في مداك أسافر، ليل الشعراء مقمر، طلة نور، … «. ديوان «مسرى الأشواق» يحفل بعذوبة ودفق الحياة والحب و الجمال بكل صدق، محركا في دواخلنا فيضا من المشاعر الإنسانية التي تتداخل في المعاني مكونة حالة وجد وتوق وصور عاطفية بالغة الصدق، رغم الانزياحات القوية التي ترمي لها رمزية المعنى و التي تغوص في الذات الإنسانية والمحملة بالصراعات والآهات، متنقلة من صورة – قصيدة – لأخرى على شكل متواليات، وكأن كل قصيدة لها ارتباط بالقصيدة الموالية أو التي سبقتها، قصائد تجعلنا الشاعرة من خلالها ننغمس بحرارة في الرومانتيكية التي تقوم بمزج العاطفة بالإدراك الجمالي مع السرعة في الإيقاع كما عبر عن ذلك الشاعر الكبير ( وردزوبرث) « كيف يمكن للشاعر أن يعلن عن نفسه؟ و ما هي لغته؟ و يرد بقوله: إنه إنسان حقيقي، شاعر تلقائي عفوي، يمتلك تلك الروح الإنسانية العميقة نحو الجنس البشري) هذا هو شعر «فاطمة قيسر»، قصائد مشحونة بالعواطف والانفعالات تنغرس في دواخلنا بشكل تلقائي وعفوي، فهي تمتلك أرتالا من وجدانيات راقية تجعلها مستنفرة تارة في حب الأنا وتارة أخرى في حب ل (هو)، فهي تتفاعل من خلال قصائدها مع القارئ على أساس وعيه ومعرفته، أكثر من أي شاعر، باعتبار هذا الأخير يجب أن يدرك أنه لا يمتلك المعرفة أكثر من سواه حتى لا تكون هناك فجوات بينه و بين القارئ، و عليه فقد استطاعت « فاطمة قيسر» تقريب الشكل من المضمون و تعطي للقصيدة خصوصيتها التي تشبه العزف على وقع كلمات ذات جرس واحد من خلال القافية التي تستخدمها من حين لآخر على شاكلة القصيدة العمودية، و بلغة سلسة تقرع قلوب المتلقي بعيدا عن التكلف، ممزوجة بموسيقى اللفظ الذي تشي حروفه بصور ممتدة تحمل معناه، وتضيف إليه الحركة. استهلت ديوانها بقصيدة «شوق» فهو شوق ليس للحبيب بالمعنى الدلالي وإنما لكل ما هو جميل في هذه الحياة التي أضحت بؤرة لكل المآسي والأوجاع، جاعلة من الشعر مرفأ لها، ومحطة الرجاء، الذي به تستمر الحياة، مشبهة في صورة بليغة الشعر بشدو الطير الذي تتغذى به الروح الإنسانية. والقلب يخفق شوقا هل هزه في الحب الوفاء مظلة الشعر ملاذي و فيها يكون الرجاء كالطير شدوه تجلى للروح منه ارتواء ليبقى الشعر وتعلق الشاعرة به في كل محطاتها من هذا الديوان، أهم سمة يمكن أن نلاحظها، باعتبار أنه ترياق شاعرتنا ومفتاح مشاعرها، كما قال الشاعر قاسم الحداد «الشعر يمنح الإنسان مشاعر تتراوح بين الأحلام والأوهام بصورة غاية في الخطورة، وأخشى أنه كلما كثرت المزاعم نذرت الأشعار» وهي التي تقول: يا ربة الشعر ما بالك تزورين غبا / أتقطعين وصالا والقلب مليء حبا /… يا ربة الشعر لا تهجريني / فالشعر ملاذي ومنه أنهل شربا. ( ص 55) لقد قدمت لنا فاطمة قيسر من خلال ديوانها باقات نرجسية و جميلة من خلجات النفس و الروح و الذاكرة ونبض الوجدان، ناثرة إياها في قلوبنا التواقة للحب، و التطلع لكل ما هو جميل، بمشاعر خلابة تضخ عبر مفاصل دقيقة لقصائده ، مع أننا نلاحظ أنها محملة أيضا بين طياتها بنبرات الأنين والوجع، و لعل ما يشير إليها اعتماد كلمتي « الفؤاد / القلب» بنحو 26 مرة لدرجة أننا نجدها تتكرر مرتين أو ثلاث في القصيدة الواحدة، فيما لكمة « أحلام « حققت تكرار بنحو 14 مرة و»السفر» عشر مرات فيما «السهام» خمس مرات، مستخدمة مخيلتها الخصبة والفاتنة، بأسلوب شاعري فيه الكثير من الفتنة والحلم، رغم تنكر و هجر الحبيب، الذي يمكن أن نراه في قصائدها هو تلك الذات الحالمة أو البقعة الطاهرة، مع ميلها إلى الكثافة والالتباس الدلاليين فيما يشبه انزلاق العلامة اللغوية عن معانيها المرجعية، بتوظيف لغة البديع و بلاغة البيان، كما جاء في قصيدتها «ماذا يفيد الحلم؟»: ماذا يفيد التعقل المكارم تندب حظها فقدت مكانا، بل تقتل الهروب سبيلنا لا تقل صبرا ذاك أسهل ننادي فيرد الصدى يا فؤادي أسرع الخطى لا تتمهل صور شعرية تفردت بجمالية فريدة و بإيقاع عذب رغم ما يسري بها من آهات وأحاسيس إنسانية مفرطة تشدو لحنا محملا بالأماني، حين تقف الشاعرة مع هذا الحب الذي بسكنها وهي تبحث عن نبع السعادة من خلال ضرورة انتصار وجه الغضب على المرارات بإنهائها وإزالة مسبباتها، فهي صورة شاعرية لم تخلق لذاتها وإنما لتكون جزءا من التجربة و من البنيان العضوي في القصيدة كما يقول (مكليش) «إن الصور في القصائد لا تهدف إلى أن تكون جميلة بل أن عملها هو أن تكون صورا في قصائد، و أن تؤدي ما تؤديه الصور في القصائد « وهو ما نده بقصيدها « ماذا يجدي همسي؟»: ماذا يجدي همسي رايات الغضب حمراء براكين للحزن لا تنسى ما بال الربيع ولى مسرعا فاستفاقت الأزهار من عرس عاود الخريف أسفاره فحط الرحال بالأمس. مشاعر لم يكن لها أن تكون أو تخرج إلا شاعرة تحمل رؤية مشهدية عبرت عنها بنداءات و تساؤلات صارخة وصادمة بذات الوقت، « متى أرى ثغرك لي يبتسم؟ / كم ناجيت نجومك ؟ / من يكبح الجراح؟ / ماذا يجدي صمتي ؟ / ماذا يفيد التعقل؟ …» فجرت المكامن السحرية لقصائدها، باتة الروح فيها، و تجاوب القارئ لمضمونها الدلالي و الجمالي في نفس الآن، كأنها تخلق شهادة ولادة لحياة أجمل، حين نسمعها تقول في قصيدة « تمهلي»: سأقول للأحلام تمهلي آن الأوان أن ترحلي تراءى الخريف مزمجرا يجتث الجمال بمعول حتى النفوس تصحرت قد جف عذب المهنل و القلم تمرد ما عاد طوع الأنامل.- وفي غمرة ثورة الكلمة ولغة القافية المشحونة بالشاعرية والشعرية أبت الشاعرة فاطمة قيسر إلا أن توجه لنا قصيدتها المشفرة «ألوان زائفة» التي تحمل بين سطورها مقاصد ومعاني يسهل تفكيكها وفهمها، لأنها تخاطب العقل البشري على شاكلة الناصح والواعظ حين تقول: تبتسم لك الثغور ضاحكة و تدس السم في العسل تتزلف الأعين ودا تنشده و في النائبات تضن بالوصل فكم من صديق حسبته سندا و رحل عنك في عجل. وككل كائن بشري، يبقى التعلق بالأرض من أبرز سمات ما جاء في ديوان الشاعرة فاطمة قيسر، حين خصصت جزءا منه لمسقط رأسها مدينة مراكش التي تشغل مساحة من كيانها النفسي والوجداني، وكأنها تتحدث عن معشوق يَسكنها في جوف قلبها، ولا يكاد ينتزع منه إلا بانتزاع روحه وخلاصه الأبدي. حب موسوم بالشوق والحنين وهي تقول في «يا موطن العز»: عذرا لا لوم علينا إن تاهت بنا السبل و فرقتنا الأقدار سنينا خملنا حبك في الأحشاء جنينا هو ذا يبلغ أشده يرسم الشوق و الحنين أتيناك نستحث الخطى كقيس يمر بديار ليلى يروي الذكرى و يبكي حبا دفينا. هذا هو شعر فاطمة قيسر، جلباب نسجته بأناملها الحرفية الدقيقة، مختزلة قيم الحب والشوق والحنين والولاء للروح والمكان، ناشرة هويتها بين قلوب الناس بطاقات وشهادات ميلاد جديدة، كزهرة أقحوان فواحة بأريجها ووريقاتها التي لا تنذبل، أو كما قالت عنها الأستاذة خيرة جليل: «ذلك هو شعر فاطمة قيسر التي جعلت منه سبحة أناملها تتعبد بها، كلما ضاق صدرها بإكراهات الحياة، شاعرة تبث الأمل وهي تلتقط الحكمة من أبسط الأشياء بمحيطها بأسلوب شاعري رقيق يشد القارئ ويحمله كمنصت مرهف الإحساس إلى عوالمها الخفية، وبذلك جعلت الشعر كيمياء الحياة المنشودة «.