صفعة جديدة للجزائر.. بنما تقرر سحب الاعتراف بالبوليساريو    استئنافية طنجة توزع 12 سنة على القاصرين المتهمين في قضية "فتاة الكورنيش"    لَنْ أقْتَلِعَ حُنْجُرَتِي وَلَوْ لِلْغِناءْ !    لقجع يؤكد "واقعية" الفرضيات التي يرتكز عليها مشروع قانون المالية الجديد    تجدد الغارات الإسرائيلية على ضاحية بيروت الجنوبية عقب إنذارات للسكان بالإخلاء        تنسيق أمني مغربي إسباني يطيح بخلية إرهابية موالية ل"داعش"    كيوسك الجمعة | إيطاليا تبسط إجراءات استقدام العمالة من المغرب        البحرين تشيد بالدور الرئيسي للمغرب في تعزيز حقوق الإنسان    أنفوغرافيك | صناعة محلية أو مستوردة.. المغرب جنة الأسعار الباهضة للأدوية    السلطات الجزائرية توقف الكاتب بوعلام صنصال إثر تصريحات تمس بالوحدة الترابية لبلده    توقعات أحوال الطقس لليوم الجمعة    بنما تعلق الاعتراف ب "الجمهورية الوهمية"    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني بالدار البيضاء    تفكيك خلية إرهابية لتنظيم "داعش" بالساحل في عملية مشتركة بين المغرب وإسبانيا    الولايات المتحدة.. ترامب يعين بام بوندي وزيرة للعدل بعد انسحاب مات غيتز    ولي العهد الأمير مولاي الحسن يستقبل الرئيس الصيني    جامعة عبد الملك السعدي تبرم اتفاقية تعاون مع جامعة جيانغشي للعلوم والتكنولوجيا    وفاة شخصين وأضرار مادية جسيمة إثر مرور عاصفة شمال غرب الولايات المتحدة    سفير ألمانيا في الرباط يبسُط أمام طلبة مغاربة فرصا واعدة للاندماج المهني    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجليات الرؤى بين الانشطار والانتظار في ديوان (وجع النخيل) للشاعر إدريس زايدي
نشر في تطوان نيوز يوم 08 - 01 - 2016

سَعيداً بِانْشِطاري/ سَاهِراً أخْتالُ وَجْها لِلْيَقينِ/ وَالْمَدَى عَيْنُ اخْتياري/ عَجَبا لا يَسْتَكينْ…
تمهيد:
تتفاعل داخل كل قراءة نقدية، في المجال الأدبي والفني عموما، عوامل ذاتية وموضوعية، تتجاذب القارئ بطرق مختلفة، وتسعى كل قراءة علمية ومنهجية إلى التخلص من الذاتية وتحقيق الموضوعية ما استطاعت إلى ذلك سبيلا، وهو رهان صعب لا يتحقق بسهولة مع كل القراءات، ومن ثمة كان الاعتماد على المناهج النقدية صمام الأمان، لأنها تحكم القراءة، وتضمن لها الانسجام، وتعميم شبكة التأويل.
وإذا كانت كل قراءة ملزمة بالانطلاق من النص والعودة إليه، باعتباره يمثل الرسالة والوسيلة والجسر الذي يربط حبل التواصل بين القارئ والمتلقي، فإنها تأخذ طابعا خاصا مع قراءة الأعمال والدواوين الشعرية التي تستوعب نصوصا كثيرة، قد تأتلف وقد تختلف، وهو ما يطرح إشكالية قراءة الديوان الشعري غير الموحد في موضوعه الذي يتطلب من القارئ مجهودا مضاعفا، لأنه يفرض عليه أن يحيط علما بكل النصوص، وهو مطلب عسير.
في هذا السياق نستضيف الديوان الشعري (وجع النخيل) للشاعر إدريس زايدي منطلقين من فرضية كون النصوص الشعرية المؤثثة للديوان ترسم وتشكل وتنسج عبر مسالكها رؤى شعرية مختلفة ومؤتلفة ومتجادلة، تصدر عنها قصائد الديوان، ويتفاعل فيها الذاتي والشعري تفاعلا قويا، استنادا إلى طبيعة مكوناتها الفكرية والفنية والجمالية.
1 نسيجُ قصائدِ الديوان وعتباتُه:
عنوان الديوان تركيب إضافي يتألف من مركبين اسميين (وَجَعٌ)؛ من وَجِعَ يُوجَعُ وَجَعًا ، فهو وَجِعٌ، ووَجِعَ الشَّخصُ مَرِض وتألّم. والمركب الثاني (النخيل) مفره نخلة، أي شجرة التمر، والجمع نخْلٌ ونخِيل، ويُقال: نخْلات، وقد أتت التسمية من المصدر نَخَلَ، أي غَرْبَلَ، والنخل اسمٌ يُذَكَّر ويُؤنَّث فنقول: هو النخل، وهي النخل. والنخلة أمنٌ وأمانٌ، وسيِّدةُ الشجر ، وشجرة مِعطاءة كريمة ورمز للعطاء الإلهي، ممجّدة في كل الديانات السماوية، يقول الله تعالى ﴿وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ ﴾.
وقد واكَبَ النخل مسيرةَ الإبداع الشعري، منذ العصور القديمة حتى الآن؛ ففي الجاهليَّة وصف الشاعر مرؤ القيس شَعْرَ المرأة مثل قنو النخيل، قائلا:
وَفَرْعٍ يَزينُ الْمَتْنَ أسْودَ فاحِمٍ *** أثِيثٍ كَقِنْوِ النَّخْلةِ المُتَعَثْكِلِ
ولا شك في أن العلاقة بين المركبين (الوجع/النخيل) تنافرية على المستوى الدلالي تخلق انزياحا عميقا يستفز القارئ، ذلك أن نسبة الوجع إلى النخيل تطرح تساؤلا أساسيا، كيف بإمكان النخيل أن يُوجَعَ، ورغبة في تحقيق الفهم وخلق الانسجام يفترض القارئ أن النخيل يرمز إلى الكائن العاقل، إلى الشاعر أو الإنسان بوجه عام.
ونظرا لأهمية النخيل نالت هذه الشجرة حظوة عند الشاعر إدريس زايدي ونسج منها عنوان ديوانه كما تواتر حضورها في مختلف نصوصه الشعرية، وتنفتح في معناها على مدلولاتها تأويلية متعددة، تعمقها السياقات التي توظف فيها، وتجعلها تخرج عن الدلالة المتعارف عليها، لتؤسس لدلالات جديدة مختلفة ومتناقضة أحيانا، انسجاما مع منطوق الشاعر حين يقول؛
أهَيٍّئُ فصلا جَديدَ الرُّؤى/ لشُموخِ الشَّجرْ.
فكيف لوجع النخيل أن ينسج رؤى تعكس فنيا شموخ الشجر؟
تمتد قصائد الديوان الثمانية والثلاثين عبر فضاء يُغطي مائةً وأربعَ وعشرين صفحةً، مختلفةَ الحجم والشكل؛ سبعة منها تشغل صفحة واحدة، إذ جاءت على شكل شذرات شعرية. ومنها ما يشغل صفحتين وهي إحدى عشرة قصيدة. ومنها ما يشغل ثلاث صفحات وهي ثمان قصائد. ومنها ما يشغل أربع صفحات وهي أربع قصائد. ومنها ما يشغل خمس صفحات وهي قصيدتان. ومنها ما يشغل ست صفحات وهي قصيدتان. ومنها ما يشغل سبع صفحات وهي قصيدتان.
إن اختلاف الشكل ينم عن اختلاف المضمون؛ يتبين ذلك بقراءة عناوين قصائد الديوان؛ (حساءْ/ صهيلُ نخلةٍ/ شموخٌ/ تقمصت الصمتَ/ يحدث في حلب/ نار الآلهة/ ابتسامة مهملة/ قفص/ ذَروه في سنبله/ شطحاتُ/ تقاسيم على وتر الخراب/ تحدثني الشمسُ/ وشْمٌ عل هام الأطلس/ مساءات عربي/ كبرياء/ كف الريح/ هُبّي بصَحْنِكِ مكناس/ أصيلا/ وأنتِ هناكْ/ سقوط الذاكرة/ وجه بابل/ ألِف الشعراء/ بيني والبحر مرمى نظرْ/ كمْ/ من أعالي طنجيس/ ألملم فيك الرؤى/ إلى صاحب سيدة الإشراقِ/ نافخ النظرْ/ أرْتجلُ انتظاري/ غدق التمر/ في جوْف العتمةِ/ ودعت أفراسك/ صوت القاهرة/ أرتب ألحاني/ دم كذب/ وحكت لنا الأرضُ/ غريبٌ/خصام/ شوقٌ).
وعلى الرغم من هذا التعدد يمكن للقارئ أن يُؤطِّر نصوص الديوان ضمن ثلاثة محاور أساسية لا تنفي غيرها، وتشكل مسالك وامتدادات مركزية تستقطب جل قصائد الديوان وتنسج رؤاها وتجلياتها المختلفة والمؤتلفة.
2 نسيج القصيد/ الحروف أوالرؤى:
يجعل الشاعر إدريس زايدي شعره في بعض نماذجه يعيد النظر في ذاته، ويبدو ذلك واضحا من خلال عناوين بعض القصائد،(ألف الشعراء)، (ألملم فيك الرؤى)، (أرتب ألحاني)، وفي بعض الملفوظات التي تستحضر بعض مكونات الشعر، كالكلمة والحرف والقافية وكغيرها من المركبات الإسمية التي تنتمي إلى الحقل الدلالي الدال على الشعر كفن أدبي له مقوماته، ويتجلى ذلك في كثير من النصوص الشعرية التي تنفتح على هذا المنحى في سياقات مختلفة.
وتأثيثا لمنسوجه الشعري يصور الشاعر لحظة الكتابة الشعرية وانكتابها، وبداية انبثاق ميلاد القصيدة، وحيرته أمام حضورها المنفلت، والذي يتشكل وفق رؤى نافرة، إذ وعلى الرغم من جمال الفضاء البهي الذي تشكله عدة عناصر (الموج/ الأفْق/ السماء/ الضوء…)، لكنه بالمقابل يعيش حيرة وهو ينتظر نضج الرؤى، ويقضم أنامله، مما يدل على المكابدة وعسر ولادة القصيدة التي قد تأتي أو لا تأتي؛
شاعر يُداعِبُهُ الْمَوْج/ يَصْحو بحرفٍ/ تعَلَّق بالْأفْقِ/ يَلْهو بِضَوْء السّماء/ ويَقْضِمُ أَنْمُلَه حائراً/ أيْن تَسْقط نَجْمَتهُ فرحاً/ والمكان بهاءٌ/ بلا لعبةٍ أوغطاءْ.
وهكذا ورغبة في القبض على الرؤى النافرة يأبى الشاعر إلا أن يقيم رحلة الكشف إلى عالم النور ومنتجع الروح، رغبة في العودة من الرحلة مظفرا وغانما مزودا بالضوء والحلم والشوق. وهي رحلة رمزية وأسطورية ضد الظلام الكائن والواقع المادي الماثل، ورغبة في اعتناق النور الممكن نور التوق والشوق والانعتاق والحرية. إنها رحلة يقيمها الشاعر خارج الزمان المتعارف عليه، يقيمها بينه وبينه، ولا هدف من ورائها إلا معرفة حقيقة الذات للكشف عن رؤاها وعن أسرار النفس الإنسانية عبر التخيل والتأمل والتفكر؛
بَيْني وبَيْني،/ تَمْشِي أشْواقِي/ لا عَقْرَبَ يَنْسُج خَطْوي.
وتحضر لفظة رؤى بقوة في الديوان وتأتي دالة على الجمع ولا يستعملها الشاعر مفردة لأن صيغة الجمع تتلاءم مع تجربة الشاعر التي تصدر عن وعي نقدي يتتصور القصيدة نصا شعريا مفتوحا على تأويلات عدة يتفاعل في تشكيلها الغياب والحضور، البعد والقرب، الأسر والإنعتاق، الذات والآخر، القِدم والجِدَّةُ، الصمت والبوح…
3 نسيج الذات/ الانْشطار أوالوجع:
لا شك في أن قارئ الديوان، واستنادا إلى ما سبق، يدرك منذ عتباته الأولى وبدءً من العنوان أن الذات الشاعرة تعيش انشطارا مضاعفا، وتأرجحا بين امتدادين، امتداد الشموخ والعلو، وامتداد الوجع والألم. ويتجلى ذلك واضحا في طريقة توظيف المقومات الفنية المؤثثة لعوالم النصوص الشعرية، ومن الأمثلة الواضحة في هذا السياق المكون اللفظي الرمزي (نخيل) الذي يعضد هذه الفرضية. إذ نرى هذه اللفظة، التي تشكل بؤرة دلالية في ديوان (وجع النخيل) تارة تقترن في سياقات تركيبة بالقيم البانية: وتناقضها في سياقات أخرى فتأتي دالة على القيم السلبية، لتوشر عليها كلمات من قبيل (شموخ/ امتداد/ الطريق/ سبحة)؛
لِكيْ أمتطي موجها في شموخ. / في جَوْفِها كُنْتُ امْتِدَاداً للنخيلْ./ إذا النَّخيلُ يَحْضُنُ شِعْري./ أيْنَ الطَّريقُ إلى نَخْلَتِي./ بِاسْمِ منْ رَكِبُوا سُبْحَةً مِنْ نَخِيلٍ./ جُمَّارَةَ النَّخْلِ اِنْزِلِي لِتُعانِقي بَوْحَ التُّرَابِ.
وتناقضها في سياقات أخرى فتأتي دالة على القيم السلبية تؤشر عليها الألفاظ المعجمية الدالة على هذا المعنى (الرتابة/ الرياح/ الدم/ الغراب):
إلى نَخْلَةٍ تَشْتَهيها الرَّتابَةُ. / تَذَكَّرِي يا شَجَرَةَ النَّخْلِ الرِّياحَ. / وَحْدَهُ كَانَ الدَّمُ في النَّخيلِ.
ولفرضية انشطار الذات تجليات على المستوى الشعري، يمكن للقارئ أن يقف عند تمظهرين أساسيين، الأول صريح ومباشر، والثاني ضمني ومضمر؛ فأما الأول فيعبر عنه باللفظ الدال على الانشطار؛ كأن يشبه الشاعر نفسه بالحرف على سبيل الاستعارة، وكأن تَمَلَّ الرُّوحُ انشطار َالجسد، وتعْيى الذات الشاعرة عن صد رياح الوجع، في صراع داخلي بين الجنوح والثبات. وعلى الرغم من ذلك تسعى الذات الشاعرة بكل السبل والوسائل إلى اقتناص اللحظة الواعدة عشقا وشوقا وتوقا، من قبيل قول الشاعر؛
وأنَا على صَفَحاتها حرْفٌ تَكَسّر/ بالنُّعوت الْكاذبهْ.
كَمْ مَلَّت الرّوح انشطاري/ كلما قُلْتُ اجْمَعوا/ هَبَّتْ رياحُ الْآهِ.
أهُشُّ انْشطاري/ عساي أرى الْواجهاتِ تَغامَزْنَ عِشْقاً.
وأما الثاني فيستفاد من الحوار البيني، الذي يجعل من الذات الشاعرة منشطرة ضمنيا بين متكلم ومخاطب. إنه صراع مديد امتداد العمر، صراع وجودي يرنو نحو تحقيق التوحد الحلولي بين ثنائية ضدية، تسكن كل ذات إنسانية، وتحول دونها عدة عوامل وعوائق، يرمز إليها الشاعر بما هو حسي كالريح والشوق والضوء والرؤيا، يقول الشاعر تعبيرا عن هذا الانشطار البيني؛
بَيْني وبيْني ريحُهُ أمرُ/ وتاريخ طويل شابَهُ نَبْضي.
بيْني وبيْني،/ تمْشي أشواقي.
أمْشي بعيْني كَيْ أراني/ خلف أسْواري.
ألبس بَعْضي تراتيلَ ضوْء يَحارُ/ ويومٍ يغارُ.
ويتضح من خلال هذه الأمثلة أن بينية الذات تجلي من تجليات الانشطار، إذ يجعل الشاعر بينه وبين ذاته مسافة تفصل فكريا وفنيا بين عالمين متعارضين وتارة متناقضين، عالم متخيل ومنتظر مرغوب فيه، وعالم واقعي مُوجِعٌ لا مرغوب فيه. ويدل على العالمين نسيج لغوي خاص، وشبكة من الرموز تصب جميعها إن في عالم الروح المنسجمة و امتدادته الشامخة والمتألقة بمختلف تجلياتها، أوفي عالم الجسد بمختلف تشعباته الدالة على التشظي والانشطار.
وعلى النقيض من رمزية النخيل يأتي الشاعر بالمعادل الرمزي الريح بما تدل عليه من قيم سلبية ويوجه الشاعر تحذيرا مباشرا إلى النخيل: تذكري يا شجرة النخل الرياح. ويكتسب هذا الرمزُ أهميتَه ويَطَّرِدُ استعمالُه في جل قصائد الديوان وفي سياقات تركيبية باعتباره عاملا مفارقا ومعاكسا في أغلب الحالات، يستلهم منه صوره الفنية الدالة على الثورة والتغيير والزوال:
مثل عاصف ريح رمى مجمعَه…/ منصتا للريح على أرْبَعَهْ…/ سيعود بالريح إذا ضيعَهْ.
وعلى هذا الأساس وليعمق الشاعر هذه الثنائية المطردة في مختلف قصائد الديوان يتم تنويع وتلوين توظيف الأساليب والصور والرموز وكل العناصر الفنية، ويستلهم من الطبيعة رؤاه الرمزية استنادا إلى قابلية استيعابها لمدلولات تأويلية تقتضيها السياقات النصية والتركيبية المميزة للمقول الشعري.
4 نسيج الفضاء/ الزمن والانتظار:
يشكل الفضاء ببعده المكاني والزماني عنصرا بنائيا أساسيا في هندسة النص الشعري عند الشاعر إدريس زايدي ومكونا مركزيا في تشكيل الرؤى التي تصدر عنها نصوص الديوان على مستويات متعددة؛ وقد استهل الشاعر ديوانه بقصيدة (حَسَاءٌ)عمودية البناء وختمه بقصيدة عمودية (شوق)، مما يجعل خاتمة الديوان تحيل على بدايته، لا من حيث التشابه على مستوى البناء فحسب، بل باعتمادهما معا على حرف العَيْن كروي مشترك مردوف بحرف الهاء الساكن في الأولى والمتحرك بالرفع في الثانية، مما يوشر على أن فضاء الديوان دائري من حيث زمانُه التشكيلي والقرائي. فنصوص الديوان تقع إذن بين قصيدتين عموديتين ترمزان إلى نخلتين تحجبان باقي النصوص المبثوثة في المسافة الفاصلة بينهما ظرفيا.
وهكذا يحضر الفضاء كعنصر مركزي مؤثث للنص الشعري عند إدريس زايدي ويلقي بظلاله على المتخيل الشعري، ويتجلى هذا الحضور على مستويين مختلفين ومتفاعلين يكسبان الفضاء ببعديه الداخلي والخارجي شاعريته وشعريته؛ ذلك أن استحضار الأمكنة، بتحديد الأسماء الدالة عليها، لا يعني حضورَها كما هي في الواقع بقدر ما تخضع لعملية انصهار فني وفق الرؤيا الفكرية الصادرة عن تراكمات وترسبات الذاكرة، مما يكشف عن نوع من الإحساسات والمواقف والمنظورات الخاصة بالشاعر نحوها؛ فبابل وأصيلا ومكناس والقاهرة في نصوص ديوان (وجع النخل) هي على خلافها في الواقع المتعارف عليه.
وعلى قدر أهمية حضور عنصر الفضاء في نصوص الديوان يحضر عنصر الزمان باعتباره مقوما فنيا أساسيا من مقومات النص الشعري الحديث استنادا إلى كون النص، ككتابة خطية، امتدادا لغويا. ذلك أن حجم النصوص مقياس ومعيار زماني، ولو تتبع القارئ حضور هذا العنصر في (وجع النخيل) لوجده متشعبا، مما يتطلب قراءة خاصة، ويكفي في هذا السياق، وتأكيدا على أهمية فرضية الانشطار فكريا وفنيا، أن نتبين كيف أن نصوص الديوان بقدر ما تشرئب إلى المستقبل، تسكنها نبرة الحنين إلى الماضي عبر التذكر كامتداد للذات التي ترفض حاضرها وتتوزع بين ماض ومستقبل. ومن أمثلة هذا الامتدادات، تذكر الشاعر لعالم الطفولة، وعوالمه المفعمة بالحيوية والصدق والبراءة؛
أكْتُبُ أوْزاري كَطفْلٍ/ في بقايا دَفْتَرٍ للذِّكْرَياتْ.
كَطِفْلٍ تَمَهَّلَ دَهْشَتَهُ في حُروفِ الْهِجاءِ.
وأنا الطِّفْلُ/ لا أعْرِفُ الدَّمْعَ في بَسْمَةٍ/ قاهِرَهْ.
ليس من اليسير على القارئ اختراق نصوص ديوان (وجع النخيل) وفهم مضامينها لأن الشاعر أحكم نسج مختلف مقوماتها التعبيرية حروفا وكلمات، معجما ولغة، تركيبا وصورة، وزنا وإيقاعا. ولأن نصوص الديوان لا تعكس واقعا خارجا عنها بقدر ما تشكل رؤاها المتفردة، وترسم عوالمها الخاصة، وآفاقها الفكرية الرحبة، ومستوياتها الفنية الرفيعة، وقيمها الجمالية الراقية، وهي عوالم يقتحمها القارئ عندما يصبح عنصرا متمما لفراغات النصوص ومتفاعلا معها فهما وتأويلا.
وبعد فإن نصوص ديوان (وجع النخيل) للشاعر إدريس زايدي قصائد موجعة، تصدر عن ذات متشظية، وعن وعي شقي، ذات ترنو نحو تأثيث رؤى فكرية عميقة، وتسبر أغوار اللحظة الشعرية، وتجليات عوالمها المتوهجة، وآفاق تمثلاتها الواعدة، ومباهج قصائدها المتألقة، عوالم الشوق والتوق والحنين. وهي ولا ريب نصوص تكشف من خلال جل مكوناتها الفنية ومستوياتها التعبيرية عن شاعر متمكن من أدوات الكتابة الشعرية، ومتشبع بمقومات القصيدة العربية في أبهى تجلياتها ونماذجها الراقية، بشكلها العمودي أوالتفعيلي، ومكتسب لذخيرة شعرية واسعة مكنته وتمكنه من إحكام لجام القصيدة، وإذا ما فرت كمهرة جامحة يناديها فتطاوعه وتستجيب له، وهو في سبيل ذلك يشقى شقاء جميلا.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.