قراءة في ديوان «أناديك قبل الكلام» للشاعر المغربي إبراهيم قهوايجي لا شك أن لكل نص شعري كما لغيره من النصوص الأدبية حركية داخلية خاصة تميزه وتمنحه شاعريته، وهي دينامية تشمل المعجم والأسلوب والصورة والإيقاع وغيرها من المكونات الفكرية والفنية والجمالية، والتي تتضافر جميعها لتشكل شعريته التي تميز النص الفني وتمنحه القدرة على الانخراط في رتبة الأعمال الراقية التي لا تُستنفد مضامينُها عند القراءة الأولى، كما هو الشأن مع الأعمال التي لا ترقى إلى هذا المستوى، بقدر ما تتجدد بتجدد القراءات التي تتواتر عبر الزمن والتاريخ، ولا غرابة في هذا ما دمنا لازلنا نقرأ لحد الآن نصوصا قديمة وتؤثر فينا ونعجب بها ويزداد طيبها كلما حركناها. تحدونا رغبة الكشف عن دينامية المقروء مع كل قراءة من قراءات النص الشعري الحديث، إلا أنها مع ديوان (أناديك قبل الكلام) للشاعر إبراهيم قهوايجي تطرح بإلحاح أكثر، نظرا لخصوصية المقروء ولاستجابته لهذا الطرح الافتراضي الذي يجعل القارئ يندهش، ويعي من خلال قراءته للديوان، أن القصيدة عند الشاعر تميزها دينامية ملحوظة تثير انتباه القارئ وتثير رغبته في الكشف عنها، ونحن ندرك، تمام الإدراك، أنها عملية صعبة ومعقدة، لذا سنكتفي في هذه المقاربة بالكشف عن بعض تجلياتها الجمالية؛ وذلك بالوقوف عند مدلول عتبات الديوان وتتبع مستويات المدلول الشعري، من خلال ثلاثة محاور: المدلول المثيل/التشابه، المدلول المفارق/التضاد، والمدلول الشارد/الانزياح. مدلول عتبات الديوان عنوان الديوان من طينة العناوين التي تأتي على شكل جمل، وهي تتألف من أربع مركبات تشكل جميعها جملة فعلية، مركب فعلي (أنادي) الذي يتصدر الجملة، ويدل على التلفظ بكلام لإثارة انتباه شخص آخر والالتفات إليه باعتباره المخاطِب َوالمعني بالكلام وبالرسالة التي سيتلفظ بها، والمرسل إليه الذي تحدده كاف الخطاب باعتبارها ضميرا قد يدل على المذكر كما قد يدل على المؤنث، إذ لا وجود لحركة الكسر أو الفتح تحت أو فوق الكاف، تؤشر على أحدهما دون الآخر. أما المرسِل فهو المتكلم الذي يصدر عنه النداء، في حين أن زمن التلفظ يحدده ظرف الزمان (قبل) والذي يشكل مع (الكلام) مركبا إضافيا يربط بين إسمين، ويخلق المركب الإضافي انزياحا لدى القارئ، وتمويها حول طبيعة التلفظ، إذ كيف يمكن للنداء أن يتم ويحدث قبل الكلام؟ وهو ما يجعل القارئ يعيد تأويل محصلته الأولى وفهمه الأول ليقيم دلالة ثانية تلغي الأولى، فيدرك أن نداء الشاعر نداء خاص، إنه نداء أسمى من أن يحدده كلام ما، في زمان ومكان ما، وأرقى من أن تقيده أو تضبطه ألفاظ محددة، لأنه نداء روحي ومناجاة داخلية. وعنوان الديوان في الأصل عنوان لقصيدة من قصائده السبع عشرة والتي تندرج ضمن المجموعة الأولى؛ ذلك أن الشاعر عمد إلى تأطير قصائده ضمن ست مجموعات يحمل كل منها عنوانا (قصائد تكتب ظلالها/ أغنية لأرض حزينة/ لا نبوءة بخراب ضوء القصيد/ عطر ينأى مثل نسائم تزاحمها الريح/ عصفور يلتقط قمح ال غربة/ ركعات في محراب الغياب)، هو تشكيل فني ذو أبعاد جمالية يساعد المتلقي على التفاعل مع النصوص تفاعلا إيجابيا بالكشف عن مدلولاتها الأولية التي تشكل افتراضات قرائية تحفزه عبر القراءة الفعلية إلى تعميقها. وتأتي قصائد الديوان موزعة إلى مجموعات على الشكل التالي:(ذاتُ الأجْنِحَةِ الأرْبَعَة/ النَّسْرُ الْمَلَكِي/ أناديكَ قَبْلَ الْكلام/ حبِيبَةٌ فَوْقَ الْعادَة) (أغْنيةٌ لأرْضٍ حَزينَة)عُيونGALAXY ( خُذْني يَانايُ إليك/ سُكَّرَة) (عِشْرونَ غُبارا تكْفيني/ قاتِلُ حِكْمَةِ الْوَرْدِ مَنْ/ دَمُ الطَّباشِير)(مَقامُ الْميلاد/ مَقامُ الْغَريبِ/ مَقامُ الانْشِطار) (هذا جَناهُ الْحُبُّ عَلَيَّ/ سَهْوُ الْفَجيعَةِ/ إلى مَتى تَغْرُبُ النّايَاتُ) وهكذا يغدو بناء الديوان تشكيلا شجريا يمثل فيه العنوان عمودا مركزيا، وتشكل عناوين المجموعات فروعا تتفرع عنها عناوين القصائد، وهو تشكيل شجري يجعل كل فرع يفرز ما بين ثلاث قصائد إلى أربع قصائد، باستثناء قصيدة (رُدِّي السَّلام) الوحيدة والتي وُضِعَ لها، منفردة، عنوانٌ تأطيريٌ خاص (أغنية لأرض حزينة) والتي خص بها الشاعر أرض فلسطين وغزة تحديدا، وهو تفَرُّدٌ يؤشر تشكيله، في الديوان كما في الواقع، على ما يعانيه هذا البلد العزيز من حصار وإقصاء وغربة. ويلاحظ القارئ أن العناوين التأطيرية التي اتُخذت مدخلا لقراءة كل مجموعة على حدة، تشكل مفتاحا من مفاتيح مغالق النصوص الشعرية، وتوجيها إرشاديا يؤطر موضوعاتها دلاليا وتأويليا، إلا أن هذا التأطير قد لا ينفع القارئ في شيء ما دامت العناوين بدورها من طينة النصوص الشعرية، وتعتمد لغة شعرية تنزاح عن المتداول، وتنفتح على دلالات محتملة متعددة ومختلفة، يجتهد القارئ في استنباط أبعادها التأويلية. وإذا كانت العناوين المختلفة المؤطرة للنصوص الشعرية لا تنفي التداخل والتفاعل والتعالق القائم بينها، على اعتبار أنها نصوص مفتوحة، فإن كل هذا وذاك لا يمنع من إمكانية التعامل مع نصوص الديوان باعتبارها مجموعة منسجمة تنخرط ضمن تجربة شعرية لها خصوصياتها المميزة. وعلى الرغم من جمالية لوحة الغلاف يصعب على القارئ أن يجد لها دلالة تنسجم وتتقاطع مع قصائد الديوان. وهي للفنانة التشكيلية سلمى العلالي وتتألف من ثلاث مكونات أساسية تم التوليف بينها بطريقة فنية جميلة، وهي الشمس التي تبدو ساطعة في كبد السماء الزرقاء، وقد أرسلت أشعتها وأشَعَّتْ بنورها الوهاج في فضاء تغطيه غيوم، مما ينم عن اضطراب الجو. وتم تأطير الفضاء الخلفي للوحة برسم دائرتين متداخلتين، تشكلان خريطة قلب، ينم عن الجوهر والصفاء والصدق. أما المكون التشكيلي الثالث فهو المرأة التي بدت في الواجهة الأمامية للوحة وقد ارتدت ثوبا أبيض غير ناصع تتخلله حمرة، تخلق انسجاما مع لون جسمها الذي بدا ويبدو في حركة راقصة شبه جنونية، والريح العاتية تكاد تنزع ثوبها وقد تطاير شعرها كما تطاير رداؤها، مما ينم عن المعاناة الناتجة عن الرغبة الجامحة في الفعل/الحركة وصعوبة ذلك. ولاشك أن المتأمل لعتبات الديوان، والمتصفح لنصوصه، يستطيع أن يؤسس فرضية أولية كون النص الشعري عند الشاعر إبراهيم قهوايجي يمتلك مقومات فنية تمنح شعره ألقا وانجذابا خاصا، وتشد انتباه القارئ. ذلك أن الذات الشاعرة مهووسة بحب الجمال في كل شيء في الوجود، إلا أنها في العمق وبالمقابل تعاني الألم والجرح والحسرة والألم، ولا غرابة في ذلك مادام حب الجمال ترياق الجراح، جراحات الذات، وجراحات الواقع وتقاطعهما معا في الزمان والمكان، زمان البوح ومكان الجرح. يتأسس المدلول الشعري عند الشاعر إبراهيم قهوايجي على حسن اقتناص الألفاظ المعجمية التي تساعد على تأثيث الرؤيا الفكرية التي يسعى الشاعر إلى بلورتها وتشكيلها والتي تصدر عنها قصائد الديوان في بعدها الفني والجمالي، إذ يشكل المعجم اللغوي المادة الأولية التي تَتَشَكَّل عند الشاعر وفق ما يتولد لديه من رؤى، فيختار الكلمات الدالة الملائمة للسياق لتغدو قويمة مثيرة وجذابة. وعلى الرغم من صعوبة تأطير المعجم الشعري ضمن اتجاه محدد، يكمن أن نميز بين ثلاث مستويات من استعمال المدلول، مع الاعتراف المبدئي بتداخلها: المدلول المثيل/ التشابه هو ذاك الذي تولده الألفاظ المعجمية التي تصب في حقل دلالي موحد، ويخدم اتجاها معينا، وإن كان يصعب أن نؤطر نصوص الديوان في اتجاه خاص، نظرا لانفتاحها على اتجاهات مختلفة، تتفاعل معها النصوص الشعرية على مستويات متعددة. إلا أن هذا لا يمنع القارئ من أن يلاحظ حضور الاتجاه الذاتي بقوة في جل قصائد الديوان في تقاطعه مع ما هو شعري وقومي ووجودي وأسطوري وصوفي. وباستطاعة القارئ أن يهتدي إلى عدة حقول دلالية يؤثثها معجم خاص، أي تلك التي يستقي منها الشاعر معين ألفاظه من خلال انتقاء الكلمات الدالة على جنس المدلول بلفظه أو بمعناه، لغاية تأثيث النص الشعري أو تشكيل صوره ولوحاته الفنية. وتتخذ المدلولات المتماثلة مظاهر متعددة في كل قصيدة من قصائد الديوان، إذ يلاحظ القارئ توارد ملفوظات كثيرة تتكرر وخاصة تلك التي يتخذها الشاعر فاصلا خطابيا، ولازمة تتردد في بداية كل مقطع من مقاطع القصيدة، وتؤشر على بدايتها، لتؤكد مدلولا مركزيا داخل النص، وتشد انتباه القارئ وسمعه، فتحفزه على الإنصات والاستمرار في القراءة إلى آخر النص. وقد تُخلّف في نفسه أثرا فنيا وحنينا جميلا يقوده إلى معاودة القراءة مرات عدة. من هذا القبيل لازمة (يا ذات الأجنحة الأربعة) التي تتكرر خمس مرات في قصيدة شعرية تحمل نفس العنوان، والمدلول التماثلي (قاتل حكمة الورد من؟/ في رماد قلبك سدى من؟) الذي يتكرر في قصيدة تحت عنوان (قاتل حكمة الورد من..؟). كما قد يتكرر المدلول اللفظي الممثل في كلمة دون أن يشكل لازمة، بقدر ما يراد به تأكيد الفعل وتقريره. استنادا إلى أن الشيء إذا تكرر تقرر. من أمثلة ذلك ما نجد في قصيدة (النسر الملكي) حيث يقول الشاعر: لا أزْهارَ في مَدينَتي هَذا الصَّبَاح/ لا..ولا أغَانِي هذا الْمَساء/ سِوَى ذُبُولٍ/ يَكْبُر/ يَكْبُرُ/ ويَكْبُرُ. نلاحظ حضور المدلول المتماثل في تكرار الفعل (يكبر) ليؤكد معنى الذبول، بعد أن يشبه الشاعر المدينة بالحقل ومرافقها بالزهور التي ذبلت لما تعانيه من إهمال نتيجة تفشي الرتابة والإهمال والتهميش، الذي طال المدينة. كما يمكن للتماثل أن يحدث على مستوى الصياغة والأسلوب، باعتماد تقنية التوازي والتوازن، في قصائد كثيرة منها قصيدة (حبيبة فوق العادة..! )، التي يقول فيها: لِلْبَيْتِ الْمَوْسُومِ مِنْ لَوْنِنَا/ لِلسَّيِّدَة الضّاجَّة بِحُبِّنا/ لِلْفَراشة المُلَوَّنَةِ مِنْ لَحْمِنَا/ للْبَطَلِ الْمَعْجُونِ مِنْ دَمِنا/ لِلصَّغيرِ النَّاشِئِ مِنْ ظِلِّنا/ لَكِ أنْتِ/ أُصَلِّي. وهكذا يتبين، أن المدلول المتماثل، على غرار باقي المدلولات، متشعب بدوره لأنه لا يعتمد تقنية كتابية محددة، بقدر ما يتشكل وفق تلوينات وتشكيلات عدة، وهو ما ينم عن خصوبة النص الشعري وعن ثرائه الدلالي والتأويلي كما سوف يتبين مع الأنواع الأخرى من المدلولات. المدلول المفارق/التضاد وهو نوع من المدلول يتحكم في نسج عوالم القصيد بل هو تقنية فنية أساسية تلفت نظر القارئ، ويستند إليها الخطاب الشعري عند الشاعر إبراهيم قهوايجي، وعند كثير من الشعراء المعاصرين. ومن أمثلته قول الشاعر:فَكَمْ مَرَّةً تَسْتَطيعُ أنْ تُولَدَ في حُلْمي/ وَكَمْ مَرَّةً تَسْتَطيعُ أنْ تُوأدَ في حُزْنِيأُنَاديكَ قَبْلَ الْكَلام/ أُنَادِيكَ بَعْدَ الْكَلامبَيْني وَبَيْنَك لا تَنْتَهي الْأفْرَاح/ بَيْني وَبَيْنَك لا تَنْتَهي الْأحْزان كُلِّي لِلشّيْطانِ/ وَبَعْضِي مَلاكٌ.. ولنا أن نلاحظ هذه التقابلات، التي تنهض على تحقيق التوازن بين الجمل، إلا أن التشابه يخفي التناقض الذي يكتشفه القارئ عندما يبحث في العلاقة بين دلالة كل جملة في علاقتها بالتي تليها، ولهذا التوظيف بعده التأويلي؛ إذ يتبين بأن مدلول التضاد وجه من أوجه انشطار الذات الشاعرة على غرار انشطار القصيدة وأجزائها، وتعكسها طبيعة الرؤى التي تستند إليها، وهو انشطار يتجلى في بعده الفكري، أي في مفارقات الواقع، بمختلف مظاهره وظواهره وقضاياه. كما يعكس تفاعل الذات الشاعرة مع الآخر وجها من أوجه انشطارها بين عالمين متناقضين، يتفاعلان بقوة داخل كل قصيدة من قصائد الديوان، عالم الوضوح وعالم الغموض، عالم الحيوية وعالم الرتابة، عالم الأمل وعالم الألم: لا وُضُوحَ في أوَّلِ الطَّريقِ/ إلاّ وَيُشْرِقُ بَريقُ الْغُموضِ/ حَتَّى أحْلامِي سَافَرَتْ للنَّوم طويلاٌ/ وتركتني ألُوكُ الرَّتابَةَ.. / مَجَازاً أقول: فَرِحْتُ/ ويَمْتَدُّ غَيْمٌ حَزينٌ أمَامِي،/ وأمْتَدُّ في ما تَبَقَّى مِنْ أرِيجِ الذِّكْرَيَاتْ.. ومما يدل على أن مدلول التضاد في جل قصائد الديوان ذو طبيعة جدلية، كون الانشطار يعكس طبيعة تفاعل قطبيه المتباعدين، مع بعضهما البعض، ومع الذات الشاعرة تفاعلا قد يصل ذروته عند درجة الانصهار التام والكلي، فتتزود الذات عندئذ بكل المقومات التي تؤهلها للقيام بهذا الدور الجسيم الذي هو من نصيب أبطال الأساطير. يَا وَجْهِي إذَا لَمْ تَكُنْ زُجاجاٌ/ تُطِلُّ على زَنْبَقِ الصَّدى/ في ساقية الْحَنِين،/ فَكُنْ بَوْصَلَةً بِغَريبِ الْجَنُوبِ/ حِينَ هَوَتْ حِبَالُ خَيْمَتِهِ،/ ونَسِيَ النِّسْيانُ/ أنْ يَغتال صَوْتَه.. / أَحبَّتي ارْتَحِلُوا إلى أحْلامِكُمْ/ لا بُدَّ منْ زَنْبَقَةٍ../ أحْلامُكُمْ مائي/ وجُرْحكُمْ ناري.. استنادا إلى هذه الأمثلة يتبين أن المدلول الشارد بدوره ذو طابع تشكيلي، لأنه يستحضر الصورة البلاغية في مختلف تجلياتها البيانية والبديعية ويتقاطع مع باقي المدلولات. المدلول الشارد/ الانزياح وهو السمة والخاصية المميزة للغة الشعرية على خلاف اللغة النثرية أو العلمية التي تتسم بالتقريرية والوصفية. وتشهد كل قصيدة من قصائد الديوان حركية ملحوظة يستشعرها القارئ كلما تقدم في قراءة النص، وهي حركية تشد القارئ وتستند إلى خطة فنية محكمة خفية يسخر لها الشاعر كل الأدوات الفنية ويمررها حسب ما تتطلبه حركية القصيدة، ليجعلها متوالية متواصلة ومسترسلة من الإشارات والرموز والصور والمؤشرات التي تحق انسجام المدلول الشعري بمختلف تمثلاته، وهي تسعى إلى تحقيق الجمال في أبهى تجلياته. وتغدو اللغة مرآة رمزية تتجلى فيها وبها حقائق الحياة والكون والوجود، والقصيدة وجه من الأوجه المرآوية الكاشفة عن الأسرار التي تظل متمنعة وهاربة ومنفلتة لا تستطيع مقومات القصيدة الأسلوبية والنحوية القبض عليها، فلا يملك الشاعر مناصا من التزود بالروحي والحسي والمعنوي: يَا ذَاتَ الْأجْنِحَةِ الْأرْبَعَةِ/ هَلّا تَخَلَّيْتِ عَنِ النَّحْوِ/ وتحَلَّيْتِ بِالْفِقْهِ/ وَحَمَلْتِ لُغَةَ الْمَحْوِ.. اللغة الشعرية كاشفة للمكنون الذاتي وملمة به، إذ يتراءى في مراياها ما لا يتراءى بالعين المجردة، وهي عندما تنظر في مراياها تبوح بالمستور والحقائق. وتعكس الصور الشعرية التي تؤثث قصائد الديوان نوع المدلول المنزاح الذي يحضر بقوة وينم عن احتفاء الشاعر بهذا المدلول، وينم عن جنوحه نحو كتابة شعرية تسعى إلى السمو بالقصيدة إلى مدارج التألق، من خلال العناية الدقيقة بجزئيات وتفاصيل اللوحات الفنية التي تمزج في انسجام متناغم بين العناصر المختلفة بل والمفارقة أحيانا. يصور الشاعر في قصيدة (دم على الطباشير) معاناة المُعلِّم، الذي كاد يوما، في الزمن الجميل، أن يكون رسولا، وفي لوحة شعرية يجمع فيها الشاعر بين عنصرين مختلفين، من حيث دلالتهما الرمزية، الدم الأحمر اللون والطباشير الأبيض. وعلى سبيل المجاز، وبدل أن يتصبب جبين المعلم عرقا، ينزُّ دما كناية عن شدة المعاناة، وعن الجهد الكبير الذي يبذله رجل التعليم، ليؤدي رسالته على الوجه المطلوب، في الزمن العسير. وتُعمق الصورة الشعرية المركبة هذه المحنة أكثر عندما يجعل الشاعر للمدى وجهين كريهين، كلاهما أبشع من الآخر، الأول ينم عن الْغِلِّ والحقد والاغتراب، والثاني ينم عن العجز والفشل والضياع أو ما يدل عليه: دَمٌ يَنِزُّ مِنَ الْجَبينِ/ والْمَدى له وَجْهان:/ وَجْهُ يَراعٍ غريبِ/ يَشِبُّ في حِبْرِهِ الْحَريق/ وَوَجْهُ شاعر مِنْهُ ضاعَ/ عُكَّازُ الْكَلامِ في الطَّريق.. اللغة الشعرية في ديوان (أناديك قبل الكلام) مادة فنية تشكيلية كاشفة للمكنون وللمخبوء والمستور ولخطايا الذات التي سقطت سهوا في غفلة الرقيب، كشف عن عوالم حيث تصبح اللغة وسيلة بوح واعتراف وكشف ومحو من جهة، ووسيلة تَسَتُّرٍ، أي تصبح حجابا وقناعا فنيا، يتوخى درء الأعذار والأخطاء والأخطار التي تحاصر الذات، مما يؤجج الصراع بينهما، استنادا إلى أن اللغة والذات الشاعرة وجهان لعملة واحدة. ولا يملك القارئ إلا أن يتساءل مع الشاعر: هَلْ تَغْفِرُ لي اللغةُ/ سَفْكَ دَمِي/ حِينَ مِنْ مَاءِ النِّسْيانِ يَسيلُ/ وَخَرْبَشَاتي سقطتْ كَدَلْو ماءٍ/ في بئر خطاياي..؟ وعندما تسكن الذات القصيدة تستحضر الآخر، فتصبح مرآة تتراءى فيها حقائق الأشياء في العالم المتخيل، هاهنا تتعالى عن الأنا الفردية وتنخرط في طقوسات روحية وأسطورية، فتصبح القصيدة معبرا يجسر التفاعل ما بين عالمين، عالم الماء وعالم النار، وبذلك تصبح القصيدة سفرا ورحلة مفعمة بالتوق والشوق والحنين نحو حدائق الطهر، نحو الحلم، نحو الآخر المرغوب فيه، نحو الغائب والمنسي، نحو الذكرى، نحو الزمن المنفلت والزمن المرتجى. ويغدو عالم الشعر هو العالم البديل للشاعر، هو العالم التخييلي والافتراضي، المستقبلي والتوقعي وعلاقته بالواقع المعيش علاقة تأويلية يتحمل القارئ مسؤوليتها الجسيمة. وتظل القصيدة عند الشاعر إبراهيم قهوايجي رحلة ممتعة وشاقة، وسفر بالذات عبر اللغة نحو اتجاهين منعكسين نحو الصمت والأمل والنور والخصب والفرح والمرح والحبور من جهة، ونحو الألم والحزن والفجيعة والمعاناة من جهة ثانية، سفر ضد المحو، نحو الذكريات التي يهددها النسيان، سفر بالذات نحو عوالم طهرانية للتخلص من الخطايا والزلات وللكشف عن مرايا الكون وأسرار الوجود ومظاهر الجمال والسمو.هامش: "أناديك قبل الكلام"، إبراهيم قهوايجي، منشورات اتحاد المبدعين المغاربة، الطبعة الأولى2012، مطبعة طوب بريس، الرباط