صاحب الصرخة الهادئة احتفاء بالشاعر المغربي محمد عرش، نظم الصالون الأدبي المغربي يوما شعريا في حق هذا الشاعر الصموت/ الصارخ، الكتوم/ المقنع الذي لم تنصفه أقلام النقد، ولم ينتبه إليه الرأي العام المغربي الثقافي عموما والشعري خصوصا، بالقدر الذي يستحقه وتفرضه تجربته الشعرية الوازنة ،المتسمة بشتى علامات التميز. تجربة محترمة، قد تحاكي في غالب وجهاتها كبار الأعمال: حب الحياة بتحفظ، والاستكان إلى الحزن وعشق الطبيعة، كل الطبيعة، بما فيها الإنسان وتقديس ذلك العنصر الجميل فيه.. المرأة. أغلب نصوصه تسكنها تيمتا الماء والمرأة، لما لهما من علاقة بخوالج الشاعر، وإحساساته الكامنة في الزمن النفسي البعيد. المرأة التي قال عنها: «غواية الكتابة ترتبط بالمرأة» بحث بعد حيرة عن أذكى وأجمل امرأة، ليجدها بعناء في «هيباتيا» شهيدة النور. الفتاة الفيلسوفة الاسكندرانية التي أحبت الفلسفة والمعرفة وعزفت عن الحب، وماتت شر ميتة في سبيل المعرفة نفسها، لذالك أحبها شاعرنا ورثاها حين قال فيها «صمتا». أما الماء فنعمة النعم، مصدر كل حياة ومنبع كل إلهام، انبعاث النضارة والخصوبة والاستمرارية . فالأرض التي يغيب عنها الماء، يشقق وجهها ويظل كشفتي عابر صحراء مقسومة وجافة من شدة لفح الشمس الحارق. المرأة رمز الخصوبة والجمال والماء كذلك، وكليهما رمز للاستمرارية. ويستمر شاعرنا، مرة يقرأ علينا قصيدة ومرة يحكي طرفة، يغزل ذلك بتحليل ومناقشة أليفة حول تجربة الكتابة الشعرية بمعاناتها الحلوة، الشيقة. فيجعل من الإبرة والخيط لازمة ضرورية لرتق البالي والجديد، رتق ما تم تمزيقه، أوترهل، واضطر لإعطائه قياسا يليق به، أو رتق الكساء الذي لم يستعمل بعد. وقد ركز على كلمة «رتق» لما لها عنده من دلالات وأهمية في الصنعة، ويعني رتق الحروف فيما بينها ورتق المعاني بعضها بالبعض، رتق تلك بهاته أو رتق هاته بتلك لتتولد عنده القصيدة تلو القصيدة وتتناسل، فتكون ديوانه الأول «أحوال الطقس اللآتية» فالثاني «أنثى المسافات» ثم الثالث «مغارة هرقل». من خلال هذه المجموعات الشعرية، يجعلك تستشف أن الشعر عند محمد عرش يربط بين لغة الخيال والعواطف وبين لغة الواقع والقسوة ليمنحنا فرصا حميمية متباينة لكنها متكاملة في الوقت نفسه، نتمتع فيها بكل ما يسعد النفس ويمنح البهجة والمتعة السريعة ، كما يعتصرنا فيها الألم العميق والحزن الدفين فيشكل ذلك يقظة وإشراقا للعقل البشري وحيرة روحية تجعلنا نثق في كل شيء ولا نصدق أي شيء. إنها اللغة الراقية التي يتمسك بها القلب طبيعيا مع ما يملكه من إحساس نبيل عميق. يقول الجرجاني: «أنا أقول أيدك الله إن الشعر علم من علوم العرب، يشترك فيه الطبع والرواية والذكاء» وأنا أقول رحمك الله ورد بك أن الطبع يظهر عند محمد عرش في النبرة الشعرية التي تفوح بها قصيدته والسلاسة في نسج خيوطها، والرواية هي لغته المتينة/المتمدنة والذكاء في خبايا الأفكار والمعاني التي يحبل بها نصه الشعري. مر اللقاء في حلة أدبية بهية، فاحت خلالها رائحة الشعر، صحبة حضور أجمل، بفضاء نادي الهمداني الفسيح وعشاق الصالون الأدبي الأوفياء، المولعين بحب رنين الكلمات ورقص المعاني.