اعتقد كثيرون أن الشباب التونسي، الذي ثار ذات يوم على من حكموا لعقود بقبضة من حديد، قد فقد الأمل وخاب ظنه في السياسة والسياسيين، وسيغيب عن الاستحقاق الرئاسي، الذي عاشت تونس على وقعه، في 15 سبتمبر الجاري. خشي الجميع أن تتكرر مشاهد الانتخابات البلدية لسنة 2018، حين كانت مراكز الاقتراع شبه خالية، حيث توجه إليها كبار السن في ساعات الصباح الأولى، وغاب عنها الشباب والطلاب، على عكس ما عرفته انتخابات 2011 من إقبال عكس حماسة ورغبة في التغيير. وأقيمت انتخابات 2011 عقب ثورة شعبية أطاحت بالرئيس آنذاك، زين العابدين بن علي (1987: 2011). لكن فئة الشباب أثبتت عكس ذلك في الاستحقاق الرئاسي، ويرى متابعون للشأن التونسي أن النتائج التي أفرزتها الانتخابات ما هي إلا مرآة تعكس هبة واندفاعًا شبابيًا نحو تغيير ما هو سائد. بمجرد إعلان النتائج الأولية للانتخابات، تشكلت سريعًا حملات شبابية عبر موقع “فايسبوك”، رافقتها تدوينات ومقاطع فيديو بعضها ساخر والآخر جاد، لكن فحواها واحد، وهو رغبة هؤلاء الشباب في تغيير منظومة الحكم الراهنة، وإضفاء روح جديدة على الحكم، لعل مطالبهم ترى النور يومًا. وفق نتائج تقديرية أعلنتها مؤسسة “سيغما كونساي” (خاصة) لاستطلاع الرأي، مساء يوم الانتخابات، صوت أكثر من 37 بالمائة من الشباب، بين 18 و25 سنة، لصالح المرشح المستقل، قيس سعيد، فيما صوت 11 بالمائة للمرشح المستقل، الصافي سعيد، و8.7 بالمائة لمرشح حزب “قلب تونس”، نبيل القروي، و5.4 بالمائة لرئيس الحكومة، مرشح حركة “تحيا تونس”، يوسف الشاهد. وبحسب النتائج نفسها، فإن أكثر من 20 بالمائة من الشباب، بين 26 و45 سنة، صوتوا لصالح سعيد، فيما صوت 13.3 بالمائة من أجل القروي، و10 بالمائة لمرشح حركة “النهضة”، عبد الفتاح مورو. وبحسب استطلاعات رأي في تونس فإن نسبة الشباب، بين 18 و25 سنة، الذين شاركوا في الانتخابات الرئاسية لسنة 2014، لم تتجاوز 25 بالمائة. عراك عبر الصندوق رأى الأمين البوعزيز، باحث جامعي ومحلل سياسي، أن “ما ميز الثورة التونسية هو أنها سميت بثورة الشباب، الذي يعتبر الفاعل الرئيس فيها، كما كان اليوم الفاعل الرئيس في التصدي لحكومات ما بعد 14 جانفي (يناير تاريخ الإطاحة بزين العابدين بن علي عام 2011)”. وتابع البوعزيز لوكالة الأناضول أن “أهم محور يرفعه الشباب، ويطالب به هو الملف الاجتماعي؛ فهو كان مقاطعًا لكل المحافل الانتخابية السابقة (2011- 2014)؛ لأنها كانت بعيدة عن كل جوهر اجتماعي، وغارقة في السياسوية والديمقراطية (مطالب الحرية والديمقراطية)”. وعن سر هذه الاستفاقة الشبابية، اعتبر أن “أشكال الاحتجاج لدى الشباب تغيرت منذ الثورة وإلى غاية الآن، فالشباب الذي كان يحتج بعدم المشاركة في الاستحقاقات الكبرى أثبت اليوم احتجاجه عبر صوته في صندوق الاقتراع”. وفسر البوعزيزي ذلك بأنه “تبين لتلك الفئة الشبابية اليوم أن المقاطعة لم تقدم نتائج، بل كرست وأبدت السيايات الكارثية السائدة.. وقيس سعيد نفسه كان من الذين قاطعوا وحرضوا على مقاطعة انتخابات 2011 و2014”. وأضاف أن “الشباب أصبح واعيًا، وعلى ثقة بأن المُقاطعة لا تؤدي إلى نتيجة، وأن المشاركة، وبقوة، هي الحل.. وأنه لا بد من دخول العراك من خلال الصندوق، وليس عبر مقاطعته.. بذلك أثبت الشباب ثورتهم على من لهم الماكيناتو على من يمتلكون المال والأجهزة”. وفي مفاجأة، عبر إلى الدور الثاني من الانتخابات (لم يتحدد موعده بعد) كل من قيس سعيد (61 عامًا)، أستاذ قانون دستوري محسوب على تيار الثورة، بنسبة 18.4 بالمائة من الأصوات، ونبيل القروي (56 عامًا)، رجل أعمال وإعلام محسوب على “المنظومة القديمة”، ب15.58 بالمائة. وقال البوعزيز إن “هناك عوامل تقف وراء توجه الشباب نحو صناديق الاقتراع، وهي درجة الوعي الذي لديه بضرورة تغيير شكل الاحتجاج على المنظومة السائدة والإطاحة بها.” ولفت إلى أن “منطق الثورة على الحكومات سقط؛ لأنها (الآن) حكومات ديمقراطية لا يمكن الإطاحة بها هكذا.. لكن يمكن إسقاطها بمنطق الديمقراطية وعبر صندوق الاقتراع.” ورأى أنه: “لم يتم الالتفات إلى أدوار الشباب في الدور الأول (من الاقتراع).. وهاهم اليوم يواصلون حملاتهم الافتراضية لتثمين ما يتعبرونه منجزًا (انتخاب قيس سعيد).” ووصف الشباب التونسي اليوم ب”الواعي الذي خرج من تصويت عقابي للمنظومة القائمة إلى مرحلة تصويت تثميني، عبر التعبئة أكثر وأكثر من الدور الأول (لصالح سعيد) “. تأثير على الانتخابات التشريعية أقر نبيل بالعم، رئيس الغرفة الوطنية النقابية لاستطلاعات الرأي، مدير “مرود كونسيلتنغ” (خاصة)، بوجود اندفاع شبابي في هذه الانتخابات. وأضاف “بالعم” لوكالة الأناضول أن “شباب سنة 2019 ليس هو نفسه شباب 2014، ولعل عدم حل مشكلة البطالة، والإحباط الذي أصابهم جراء عدم توفر تنمية ومشاريع في المناطق الداخلية من الأسباب التي أدت إلى نتائج الانتخابات الرئاسية”. ورأى أن “نتائج الانتخابات تعتبر ثورة شباب أعطى كلمته وعبر عن موقفه ضد الفشل الحكومي على مستويات عديدة اجتماعية واقتصادية، وبالتالي فهو اليوم يريد التغيير، وهو ما جعله يقوم بتصويت عقابي لكل الطبقة السياسية على اختلافها معارضة وحكومة.” وأوضح أن “وسائل التواصل الاجتماعي قامت بدور كبير وقد لا حظنا ديناميكية قوية اقتربت أكثر إلى فئة الشباب بشكل فاق كل التصورات.” ورأى “بالعم” أن “ما شهدته الانتخابات الرئاسية من اندفاع شبابي سينعكس بدوره على الانتخابات التشريعية (في 6 أكتوبر المقبل)؛ فالشباب لن يتراجع، وسيواصل على الوتيرة نفسها”.