للعراق في ذاكرتي وفي وجداني مكان جميل وغني بالأحداث وبالتحولات يستعصي على النسيان. أرسلني والدي الشيخ أحمد في أواخر عام 1947 إلى بغداد لمتابعة دراستي الثانوية في مدارسها برعاية ابن عمه المفكر والأديب حسين مروة. كنت يومها في السابعة عشر من عمري قومياً عربياً رومانسياً شغوفاً بالثقافة ومنفتحاً على أفكار العصر. وهي الشروط التي جعلتني أدخل، بسرعة غير مسبوقة لشاب في عمري، في كل ما يتصل بتاريخ العراق القديم وبتاريخه الحديث على وجه الخصوص فضلاً عن تاريخ العالم العربي وتاريخ العالم. شهدت في العام الأول من وجودي في العراق أحداثاً كبيرة هزت العراق من أقصاه إلى أقصاه. وشاركت مع رفاقي الطلاب في تلك الأحداث التي اتخذت صفة وسمة انتفاضة شعبية حقيقية ضد معاهدة بورتسماوث التي كان قد وقعها رئيس الحكومة آنذاك صالح جبر. وانتهت تلك الانتفاضة بإسقاط تلك المعاهدة وإسقاط الحكومة التي وقعتها. لكن من أهم ما ارتبط في حياتي خلال ذينك العامين من وجودي في بغداد، وهو الأهم، تعرّفي إلى العديد من كبار أدباء وشعراء ذلك الزمان. وتعرّفت في الآن ذاته إلى عدد من الشخصيات السياسية من قادة الحزب الشيوعي والحزب الوطني الديمقراطي وحزب الاستقلال. ولم تلبث أن قادتني علاقتي الصميمة والوثيقة بجملة من الأحداث في العراق وفي العالم العربي وفي العالم في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وبالأخص هزيمة الجيوش العربية في فلسطين في عام 1948، إلى الانتماء رومانسياً للاشتراكية. زرت العراق مرات عديدة بعد ذلك التاريخ من الموقع الذي صرت فيه قيادياً في الحزب الشيوعي اللبناني وصولا إلى آخر زيارة في عام 1978 في ظلّ حكم الطاغية صدام حسين. كنت في تلك الزيارة أمثل حزبنا في وفد الحركة الوطنية اللبنانية الذي كان يزور العراق بدعوة من حزب البعث العربي الاشتراكي الحاكم الذي كانت قيادته تقدم للحركة الوطنية ولحزبنا الشيوعي في الحرب الأهلية مساعدات مالية وعسكرية كبيرة. ومن دون الدخول في تفاصيل تلك الزيارة وما قبلها وما بعدها فإنني أشير إلى أن العلاقة التي كانت تربط الحركة الوطنية وحزبنا بالنظام العراقي لم تتأخر في الانتهاء إلى القطيعة. إذ كان قد بدأ النظام يمارس مزيداً من القمع والقتل والإقصاء ليس ضد الشيوعيين والديمقراطيين وحسب، بل حتى ضد العديد من كبار قادة حزب البعث بالذات، بعد إقصاء الرئيس السابق للعراق أحمد حسن البكر من موقعه في الرئاسة وتولي صدام حسين بديلاً منه حاكما مطلقاً والاستيلاء على مقاليد السلطة وعلى مصائر البلاد. وهي المرحلة التي دخل فيها صدام في حروب مدمرة بدأها بالحرب ضد إيران، وتلاها غزو الكويت. وكان يترافق ذلك مع حرب داخلية ضد الشعب الكردي وضد الشعب العراقي برمته خلفت مئات الألوف من القتلى والجرحى وملايين المهجرين إلى الخارج. وهي السياسة التي أدت إلى جريمة الاحتلال الأميركي للعراق في عام 2003 التي ساهمت في تدمير مؤسسات الدولة العراقية وفي مقدمتها المؤسسة العسكرية، ودمرت ثروات البلاد، ومارست نهبها، ووضعت العراق في حالة غير مسبوقة من الانقسامات والصراعات والاضطرابات والفوضى. وهي بمجملها صراعات وانقسامات بعضها طائفي وبعضها قومي وبعضها سياسي ما يزال العراق يعاني من نتائجها الكارثية حتى بعد خروج قوات الاحتلال الأميركية من البلاد. وكان من نتائج حكم صدام الاستبدادي ومن نتائج حروبه العبثية ومن نتائج الاحتلال الأميركي والوقائع التي أدت إليها أن توفرت الشروط لدخول إيران بقوة بتلك الصراعات. وهو ما نشهده ونشهد تأثيراته السلبية على العراق. توقفت عند تلك الأحداث قديمها وحديثها على وجه الخصوص كمدخل إلى ما رأيته في العراق خلال زيارتي الأخيرة، بعد أربعين عاماً من آخر زيارة لي إلى بغداد، بدعوة كريمة من مجلس السلم والتضامن بشخص رئيسه الدكتور علي الربيعي ونائبه العلامة السيد رحيم أبو رغيف الموسوي. كان الهدف من الدعوة إقامة ندوات وإلقاء محاضرات حول آخر كتابين صدرا لي. وهما "التجديد في الإسلام كالتجديد في الاشتراكية ضرورة تاريخية في شروط العصر"، و"فصول من حواراتي وكتاباتي في الفكر وفي السياسة وفي العلاقات الإنسانية". وقد أقيمت تلك الندوات والمحاضرات في كل من العاصمة بغداد ومدينة النجف ومدينة الحلة في الجنوب ومدينة أربيل في إقليم كردستان. وقد شارك بدعوتي إلى تلك الندوات إلى جانب مجلس السلم والتضامن كل من الحزب الشيوعي العراقي والحزب الديمقراطي الكردستاني والحزب الشيوعي الكردستاني وجمعية "أمل" التي تقودها الرائدة الرائعة هناء إدوار. لكن ما هو ربما الأهم من تلك الندوات والمحاضرات وعددها سبعة، تلك اللقاءات والنقاشات التي أجريتها فيها مع عدد كبير من الشخصيات السياسية والثقافية المرموقة. وأخص من تلك الشخصيات قيادة الحزب الشيوعي العراقي بشخص أمينه العام الرفيق رائد فهمي وعدد من أعضاء قيادة الحزب وحزب الاتحاد الوطني الكردستاني بشخص أحد قادته الكبار الصديق ملّا بختيار والصديق الكبير الأستاذ عدنان المفتي والحزب الديمقراطي الكردستاني بشخص كل من الأخ علي حسين مسؤول العلاقات الوطنية في الحزب والدكتور شوان محمد طه ممثل الحزب في بغداد وصديقي الرفيق كاوا محمود الأمين العام للحزب الشيوعي الكردستاني والدكتور علي الربيعي رئيس مجلس السلم والتضامن وصديقي العلامة السيد رحيم أبو رغيف الموسوي الذي كان حاضراً في كل اللقاءات. وكان إلى جانب هؤلاء الذين التقيت بهم وأجريت النقاشات معهم عدد كبير من المثقفين العراقيين خلال الندوات وبعضهم من أصدقائي القدامى الذين أعتز بصداقتهم. إلا أنني أود أن أشير إلى الدور الذي لعبه في كل من بغداد والنجف والحلة صديقي الرائع عارف الماضي ابن مدينة النجف الذي رافقني ومعي صديقي اللبناني نبيل ناصيف في بغداد إلى شارع المتنبي العريق في التاريخ وإلى مقام الإمام علي بن أبي طالب في النجف وإلى مدينة بابل التاريخية وآثارها التي تذكّر بحمورابي أبو الشرائع. ما شاهدته خلال هذه الزيارة من وقائع على الأرض من خراب يطال مؤسسات الدولة ومرافق الحياة وثروات العراق وانقطاع الكهرباء والمياه والبطالة التي تطال الشباب وسوى ذلك من المآسي قد خلق عندي شعوراً بالأسى والحزن على هذا البلد العربي العريق بتاريخه والغني بثرواته الطبيعية والبشرية. فضلاً عما ازددت معرفة به من الصراعات والانقسامات وتفاقم عمليات النهب للمال العام والفساد المستشري التي ولدت جميعها تنظيم داعش وما خلفه القضاء عليه من آثار مدمرة. تضاف إلى ما أشرت إليه من وقائع التدخلات الإيرانية الفظة في العراق على وجه الخصوص وفي بلدان عربية أخرى، التدخلات السياسية والعسكرية من أجل تصدير الثورة الإسلامية الإيرانية في المحيط شرقاً وغرباً. وهو الأمر الذي جعل العراق على وجه الخصوص على مفترق طرق صعب غير واضحة آفاقه. لكن المهم في ما رأيته قبل أن أقوم بتلك الزيارة وخلالها عبر النقاشات مع من ذكرت من الشخصيات السياسية والثقافية، ما صار يعرف بالحراك المدني الذي يجتاح العراق من أقصاه إلى أقصاه منذ بضع سنوات بمشاركة الملايين تحت شعارات واضحة تعبّر عن الرغبة الجامحة عند الشعب العراقي للخلاص مما هو فيه على يد حكامه القدامى والجدد. ويتميّز ذلك الحراك كما نشهده في هذه الأيام في المظاهرات التي تستكمل المظاهرات السابقة التي تعم البلاد لا سيما في المدن الجنوبية ومعها العاصمة بغداد التي صارت ساحة التحرير فيها ملتقى المتظاهرين تحت منحوتات الفنان العراقي الكبير جواد سليم. جميع هذه المظاهرات السابقة والراهنة تحمل شعارات واضحة تطالب بالإصلاح وتدعو إلى محاسبة الفاسدين وتلبية المطالب الملحة للمواطنين. وهي حركة تؤسس من حيث المبدأ لخلق الشروط التي تساهم في إخراج العراق من واقعه الكارثي القديم والراهن. وأود هنا، وأنا أستعرض هذه الوقائع وأشير إلى دلالاتها وإلى المصاعب التي تقف في وجه التغيير الذي ينشده العراقيون من كل المواقع، أود أن أتوقف عند حدث يتصل بالانتخابات الأخيرة، يتمثل بذلك التحالف الفريد من نوعه ربما بين الحزب الشيوعي والشخصية الدينية المرموقة السيد مقتضى الصدر، التحالف الذي يحمل اسم "سائرون" والذي حاز على الموقع الأول بين الكتل النيابية في البرلمان. ورغم أن هذا التحالف قد ترافق وما يزال يترافق مع نقاشات بين المع والضد حتى داخل الحزب الشيوعي وداخل الحراك المدني فإن برنامجه الإصلاحي يشير بذاته إلى أهميته. فإذا استطاع هذا التحالف أن يستمر وأن يتمكن من جمع أكبر عدد ممكن من الكتل النيابية وأن يلتقي مع حركة المظاهرات ويتبنى شعاراتها القريبة من برنامجه الإصلاحي، إذا استطاع النجاح في مهمته على قاعدة الواقعية السياسية وفن الممكن، فإنه سيكون قد فتح الباب الضيق على خروج العراق التدريجي مما هو غارق ومغرق فيه. وإذ أشير إلى الواقعية السياسية وفن الممكن في السياسة فلأنني أرى أن العراق بعد أن تحرر من داعش والداعشيين ما يزال أمام خطر من نوعين رأيتهما وما زلت أراهما في العين المجردة. الخطر الأول هو الأقل أهمية، خطر وجود بقايا لتنظيم داعش، وخطر مرتبط به مما خلفته الحرب ضد داعش في الموصل ونينوى وكركوك وسنجار ومناطق أخرى لن أدخل في تفاصيلها رغم أهميتها. أما الخطر الأكبر فهو ما يتمثل، من خلال قراءتي للوقائع الراهنة ولما قبلها ولما هو محتمل بعدها، الخطر الذي يتمثل بإصرار إيران على فرض هيمنتها على العراق حتى ولو قادها ذلك إما إلى تدخل عسكري رغم نتائجه الخطيرة عليها وعلى العراق وإما إلى إشعال حرب أهلية في البلاد وهو الأشد خطراً على الجميع من دون استثناء، إيرانياً وعراقياً وعربياً. قد يبدو مما أشرت إليه أنني أبالغ في الاتجاهين، الاتجاه الذي يخلص العراق مما هو فيه سلمياً، والاتجاه الآخر النقيض الذي يشير إلى المخاطر الآنف ذكرها. غير أنني أقف بين هذين الحدين وأتساءل عما إذا كان من الممكن أن تتوصل القيادة الإيرانية بعد كل ما واجهها ويواجهها من محاولات تصدير ثورتها الإسلامية بالقوة شرقاً وغرباً وبعد ما سيواجهها من عقوبات تفرضها عليها أميركا ومعها أوروبا برغم أنفها ومع بعض الدول الأخرى في أعقاب إلغاء الاتفاق النووي من الجانب الأميركي. أتساءل مع ميل عندي أعطيه صفة الرومانسية بأن يتحكم العقل عند القادة الإيرانيين، لا سيما في ظلّ الأوضاع المضطربة المتزايدة داخل إيران اقتصادياً واجتماعياً، ويعيدون قراءة ما قادته إليه سياساتهم ويستخلصون منها الدروس. وإذا ما استطاع القادة الإيرانيون على قاعدة الحكمة والعقل والسياسة الواقعية فإنهم عندئذ سيعيدون لإيران في المنطقة كدولة كبرى دوراً يذكّر بتاريخها العريق. وهو أمر مشروط بالضرورة بأن يستعيض حكام إيران عن مشروعهم بتصدير الثورة بالقوة بسياسة حكيمة، سياسة دولة كبرى في المنطقة تقيم علاقات ودية مع الجوار العربي. تلك هي شذرات متنوعة مما خلفته عندي تلك الزيارة للعراق جنوبه وشماله ووسطه. وهي زيارة أعطيها بالنسبة إليّ صفة الزيارة التاريخية بما رافقها من حفاوة استثنائية من قبل المئات من العراقيين في تلك الندوات وفي مقدمتهم من أشرت إليهم من الشخصيات الثقافية والسياسية. وهي حفاوة أسعدتني وعمّقت علاقتي بالعراق وطني الثاني. ما شاهدته خلال هذه الزيارة من وقائع على الأرض من خراب يطال مؤسسات الدولة ومرافق الحياة وثروات العراق وانقطاع الكهرباء والمياه والبطالة التي تطال الشباب وسوى ذلك من المآسي قد خلق عندي شعوراً بالأسى والحزن على هذا البلد العربي العريق بتاريخه والغني بثرواته الطبيعية والبشرية. فضلاً عما ازددت معرفة به من الصراعات والانقسامات وتفاقم عمليات النهب للمال العام والفساد المستشري التي ولدت جميعها تنظيم داعش وما خلفه القضاء عليه من آثار مدمرة. وأود هنا، وأنا أستعرض هذه الوقائع وأشير إلى دلالاتها وإلى المصاعب التي تقف في وجه التغيير الذي ينشده العراقيون من كل المواقع، أود أن أتوقف عند حدث يتصل بالانتخابات الأخيرة، يتمثل بذلك التحالف الفريد من نوعه ربما بين الحزب الشيوعي والشخصية الدينية المرموقة السيد مقتضى الصدر، التحالف الذي يحمل اسم «سائرون» والذي حاز على الموقع الأول بين الكتل النيابية في البرلمان. ورغم أن هذا التحالف قد ترافق وما يزال يترافق مع نقاشات بين المع والضد حتى داخل الحزب الشيوعي وداخل الحراك المدني فإن برنامجه الإصلاحي يشير بذاته إلى أهميته. فإذا استطاع هذا التحالف أن يستمر وأن يتمكن من جمع أكبر عدد ممكن من الكتل النيابية وأن يلتقي مع حركة المظاهرات ويتبنى شعاراتها القريبة من برنامجه الإصلاحي، إذا استطاع النجاح في مهمته على قاعدة الواقعية السياسية وفن الممكن، فإنه سيكون قد فتح الباب الضيق على خروج العراق التدريجي مما هو غارق ومغرق فيه.