كما كنا نتمنى لو أن التظاهرات التي سارت ضد مكتب «الجزيرة» في رام الله، بما فيها من حدة الهتافات ومن غضب بات واضحا على القسمات، سارت، وعلى رأسها الأشخاص أنفسهم، ضد حواجز الاحتلال، وجدار الفصل، والمشاريع الاستيطانية في الضفة الفلسطينية المحتلة. لم يتوقف ليبرمان عن التحرك السياسي باتجاه محاولة فرض رؤيته للحل الدائم مع الفريق الفلسطيني المفاوض. فبعد أن وصف إمكانية الوصول إلى هذا الحل في مفاوضات تحت رعاية المبعوث الأميركي جورج ميتشل، بأنها مجرد وهم، وبعد أن دعا إلى تأجيل هذا الحل إلى فترة زمنية لاحقة لا تقل عن عشر سنوات، ريثما، حسب وجهة نظره، تتوفر الظروف المناسبة لذلك، كشفت مصادره ومصادر صحافية إسرائيلية أنه بصدد «بلورة خريطة لدولة فلسطينية في حدود مؤقتة» وأضافت المصادر أن الهدف من تحرك ليبرمان هو التصدي لأية محاولة قد يقوم بها الفلسطينيون للحصول على اعتراف دولي بدولة فلسطينية في شتنبر القادم، وبما يباغت الجانب الإسرائيلي ويحشره في الزاوية. إذن، تحركات ليبرمان بصفته وزيرا لخارجية إسرائيل هي بمثابة «ضربة وقائية» لتطويق أية محاولة فلسطينية للالتفاف على المفاوضات بتحركات دبلوماسية مدعومة عربيا ودوليا. وتقول مصادر إسرائيل أن مشروع ليبرمان سيكون بمثابة «مبادرة» سياسية، بما يمكنه من تخفيف الضغط الدولي على إسرائيل، وبحيث لا تكون المبادرة الفلسطينية هي وحدها من يملأ الفضاء السياسي الدولي، وبما يضع هذا الفضاء أمام مبادرتين، وبحيث يتوزع الضغط الدولي على الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي، ويعتقد ليبرمان أن إسرائيل ستكون على الدوام في الموقع الرابح، هي الطرف الرابح إذا ما فازت مبادرتها بالتأييد الدولي، وهي الرابح أيضا إذا ما نجحت مبادرتها في الضغط على المجتمع الدولي لإدخال تعديلات على المبادرة الفلسطينية، تعيد صياغتها، وبحيث يخسر الفلسطينيون فرصة الاعتراف بدولة مستقلة خاصة بهم. أما مبادرة ليبرمان فتنص على «تجميد الوضع القائم على الأرض» مع تعديلات طفيفة، تشكل عامل إغراء للفلسطينيين وللمجتمع الدولي لقبول هذه المبادرة والقبول بعرضها للنقاش. وبحيث تقود إلى قيام «دولة ذات حدود مؤقتة». بعد ذلك سيكون ممكنا استئناف المفاوضات الفلسطينية - الإسرائيلية للبحث في الحدود النهائية لهذه الدولة، دون الارتباط بسقف زمني معين. وتضم «دولة ليبرمان الفلسطينية» المناطق (أ) و(ب) والتي تساوي 42% من مساحة الضفة الفلسطينية، تضاف لها (كعامل إغراء) مساحات إضافية من المنطقة (ج)، (التي تساوي أقل بقليل من 60% من الضفة. وهي واقعة تحت السيطرة الإسرائيلية الكاملة)، وبحيث ترتفع مساحة «الدولة» إلى ما نسبته 45% من مساحة الضفة. ويقول ليبرمان لإطاراته السياسية والفنية إن مبادرته تستمد «مشروعيتها» من كونها تشكل المرحلة الثانية لخطة خارطة الطريق، والتي تشكل أساسا للعملية التفاوضية وأساسا «لحل الدولتين» المقترح من قبل الأميركيين والموافق عليه من قبل الجانب الفلسطيني. **-*--*-** مبادرة ليبرمان الوقائية تلتقي، كما يبدو، مع مبادرة كان قد أطلقها منذ فترة رئيس لجنة الشؤون الخارجية والأمن في الكنيست الإسرائيلي الجنرال شاؤول موفاز من حزب كاديما. وهي تتحدث كذلك عن دولة ذات حدود مؤقتة تمتد على ما لا يقل عن 60% من مساحة الضفة الفلسطينية. على أن يشكل قبول الفلسطينيين بهذه المبادرة، فرصة للدخول في مفاوضات مديدة زمنيا، يعلن خلالها الوصول إلى اتفاق (أو معاهدة) سلام بين الإسرائيليين والعرب. ويتعهد موفاز في مبادرته أن تصل مساحة الدولة الفلسطينية إلى 92% من مساحة الضفة على الأقل، على أن تكون القدس، في الوقت نفسه، خارج المفاوضات باعتبارها عاصمة الدولة الإسرائيلية، وعلى أن يوافق الفلسطينيون كذلك على إسقاط حق العودة للاجئين الفلسطينيين، باعتباره يتناقض مع يهودية الدولة الإسرائيلية. وإذا كانت «خطة» ليبرمان، (زعيم حزب إسرائيل بيتنا) تلتقي مع «خطة» موفاز، (أحد قادة حزب كاديما البارزين)، فإن الاثنين يلتقيان مع الليكود من مدخلين. المدخل الأول هو النائب الأول لرئيس الوزراء ووزير الشؤون الإستراتيجية موشيه بوغي يعلون الذي يتبنى آراء مشابهة لآراء ليبرمان، والذي يؤيد الرأي القائل بأن على إسرائيل أن تبلور مشروعا متكاملا لدولة فلسطينية ذات حدود مؤقتة، وبما يعزز دور السلطة الفلسطينية من جهة، في مواجهة خصومها السياسيين، وبما يقدم إسرائيل للعالم بأنها دولة «لا ترغب في أن تمارس السيطرة على الفلسطينيين، وأنها تبحث عن السلام وتعمل لأجله». المدخل الثاني، في الليكود، هو رئيس الوزراء نفسه، بنيامين نتنياهو، الذي تؤكد المصادر الصحفية الإسرائيلية أنه مطل على تفاصيل خطة ليبرمان، وأنه موافق، من حيث المبدأ عليها، وأنه تابع بشكل دائم، نتائج أعمال الفريق الخاص بذلك في وزارة الخارجية، بانتظار اللحظة المناسبة لإطلاق هذا المشروع، باعتباره أساسا للحل، بديلا لذهاب الفلسطينيين إلى مجلس الأمن الدولي، أو الجمعية العامة للحصول على اعتراف دولي بدولتهم خارج السياق العام للعملية التفاوضية. ويقول المراقبون أن التقاء الثلاثي: الليكود وإسرائيل بيتنا وكاديما، على مشروع سياسي بملامح مشتركة بينهم، من شأنه أن يشكل رافعة قوية لموقف إجماع إسرائيلي سينجر له حزب الاستقلال بقيادة الزعيم السابق للعمل إيهود باراك، وسيلقى ترحيب حزب شاس المتدين، وبالتالي سيقف من تبقى من حزب العمل، ومعهم حركة ميرتس في زاوية معزولة، باعتبارهم يشكلون انتهاكا للإجماع الإسرائيلي الهادف للحفاظ على يهودية إسرائيل وأمنها. **-*--*-** إذن الماكينة الإسرائيلية، وبقيادة ليبرمان شخصيا، ناشطة في فبركة الخطط السياسية الاعتراضية لأي تحرك دبلوماسي فلسطيني. الملاحظ في هذا السياق أن ليبرمان، الموصوف بأنه يشكل اليمين المتطرف، هو الذي يقود هذه الماكينة ويشرف على إنتاجها السياسي ويمهد للتحرك الدبلوماسي. والملاحظ كذلك أن الخطط الإسرائيلية الاعتراضية تكاد تكون جاهزة، بأفكارها وأدواتها، حتى قبل أن يبلور الفريق الفلسطيني المفاوض خطته لخوض المعركة الدبلوماسية. إذ ما زال هذا الفريق يراهن على إمكانية استئناف المفاوضات مع الجانب الإسرائيلي. دون أن نسقط من حسابنا أنه بصدد خوض مفاوضات «محجوبة» عن الأعين، تدور في واشنطن, بإشراف من ميتشل ومساعديه، في الزيارات الدورية التي يقوم بها الفريق الفلسطيني المفاوض إلى العاصمة الأميركية, خاصة أثناء وجود الفريق الإسرائيلي المفاوض برئاسة المحامي اسحق مولخو. هذا على الجانب الإسرائيلي. فماذا عن الجانب الفلسطيني؟ من الواضح أن الجانب الفلسطيني غارق حتى أذنيه في مقاومة تداعيات ما نشرته فضائية «الجزيرة» من وثائق. ومن الواضح أيضا أنه بصدد تجنيد كل طاقاته من أجل اكتشاف الجهة التي سربت هذه الوثائق إلى «الجزيرة» لأن خطر تسريب وثائق إضافية يبقى قائما إذا لم يتم سد الثغرة. ولأن عدم سد هذه الثغرة سيعني أن «أسرار» العملية التفاوضية التي يحرص الفريق المفاوض على التستر عليها، ومنع أطراف الحالة الفلسطينية، والرأي العام من الإطلاع عليها، ستبقى في متناول الجميع. الفريق الفلسطيني المفاوض، كما هو واضح، في حالة إرباك. فهو أعلن من عزمه اللجوء إلى مجلس الأمن للشكوى ضد الاستيطان الإسرائيلي. وهو من جهة أخرى يتردد في التصادم مع الفيتو الأميركي الذي شهرته وزيرة الخارجية هيلاري كلينتون حتى قبل انعقاد جلسة مجلس الأمن وطرح القضية على التصديق. وزاده إرباكا ما نشرته فضائية «الجزيرة» من وثائق، يوضح إلى أي مدى بات الفريق المفاوض على استعداد للتنازل. وبدلا من أن يشكل هذا الفريق غرف عمليات سياسية للتصدي لمشاريع ليبرمان وموفاز وغيرهما، تراه ينزل إلى الشارع ليترأس تظاهرة في هتافات حادة ضد «الجزيرة» باتت حدتها واضحة على سمات الوجوه «الغاضبة». كم كنا نتمنى لو أن مثل هذه التظاهرة، بهذه الحدة، وبهذا الغضب، سارت ضد الحواجز الإسرائيلية وضد جدار الفصل وضد المستوطنات، بدلا من أن تكون ضد مكتب «الجزيرة» في رام الله.