هل يصح الرهان على ميتشل لوقف الاستيطان، خاصة بعد أن كشف صائب عريقات، رئيس دائرة المفاوضات في م. ت. ف.، أنه ليس هناك راع أميركي في المفاوضات بل هناك مفاوض ثالث، هو الأميركي، كل جهوده تبذل لصالح الجانب الإسرائيلي، وللضغط على الجانب الفلسطيني ومطالبته بتقديم التنازل تلو التنازل؟ حسنا فعل الرئيس محمود عباس حين قرر وقف المفاوضات إلى أن يتوقف الاستيطان. ورفض بالمقابل أية حلول منقوصة أو جزئية لهذه القضية. علما أن فترة الأشهر العشرة، التي قالت إسرائيل إنها أوقفت فيها الاستيطان، إلا بعض المشاريع الاستثنائية، كانت كافية لتبني فيها باعتراف دوائر إسرائيلية واسعة الاطلاع، حوالي 2500 شقة في أنحاء مختلفة من الضفة الفلسطينية، فضلا عن تواصل واستمرار مشاريع الاستيطان والتهويد في القدسالمحتلة، وهدم المنازل العربية أو مصادرتها، وتشريد أصحابها بعد طردهم منها و إضافتهم، والحال هكذا، إلى أفواج اللاجئين الفلسطينيين، الذين يترقبون ساعة العودة إلى ديارهم. وكان واضحا أن الرئيس عباس كرر قبل اتخاذ القرار موقفه المعلن بعزمه وقف المفاوضات إذا ما استؤنف الاستيطان. وكرره من بعد أركان فريقه المفاوض، حتى أصبح أبو مازن وفريقه أسرى هذا الموقف وما عاد ممكنا التفلت منه أو تجاهله. وكان واضحا أيضا أن التزام عباس بوقف المفاوضات على خلفية الموقف من الاستيطان، كان نتاجا لضغوط فلسطينية واسعة مورست عليه، كان أهمها التحركات الشعبية التي تقدمتها فصائل م. ت. ف. (الديمقراطية والشعبية وحزب الشعب) وقوى أخرى من بينها فعاليات المجتمع الفلسطيني وممثلو القطاع الخاص. ولعلّ عباس كان يطلع بحق على التقارير اليومية حول المزاج الجماهيري (التقارير الصادقة وليس المزورة والمفبركة والتي يكتبها المتزلفون) وكان يدرك أن الرأي العام كان ضد هذه المفاوضات. وأن حجة الفريق المفاوض أنه يريد أن يعطي للسلام فرصة باتت حجة بالية لم تعد تقنع أحدا، فلقد أعطى الشعب الفلسطيني للسلام عشرات الفرص على مدى عشرين عاما من المفاوضات، وقبلها أعطى للسلام فرصة حين طرح برنامجه المرحلي، ثم فرصة جديدة مع مبادرة السلام المرفقة مع إعلان الاستقلال. ثم أعطى العرب في مبادرتهم فرصة أخرى. لكنها كلها فرص تم نحرها بدم بارد ودون تردد على يد حكومات إسرائيل المتعاقبة تحت سمع وبصر «الراعي» الأميركي وتحت أنظار المجتمع الدولي الذي لم يتحمل حتى الآن مسؤولياته السياسية والأخلاقية بالشجاعة المطلوبة نحو الحقوق الفلسطينية. وهو الأمر الذي أشار له بوضوح وجرأة القرار الاستشاري لمحكمة لاهاي حول جدار الفصل والضم العنصري. الطريف في قرار المفاوض الفلسطيني وقف المفاوضات أنه استعار المواقف والعبارات ذاتها التي كانت فصائل م. ت. ف. المعارضة لهذه المفاوضات قد عبرت بها عن موقفها، وقد اتهمت حينها بالجمود السياسي، وها هو الفريق المفاوض يجد نفسه يقف جنبا إلى جنب مع المعارضة الفلسطينية من فصائل م. ت. ف. الأمر الذي يعني أنه أضاع زمنا إضافيا في عملية تفاوضية عبثية كان الكل يدرك أنها ذاهبة إلى الطريق المسدود، وأنها تشكل، كما اعترف المفاوض الفلسطيني في بيانه، كما ألقاه ياسر عبد ربه، غطاء سياسيا للاحتلال الإسرائيلي ليوسع مشاريعه الاستيطانية في الضفة والقدس ما يؤكد والكلام للمفاوض الفلسطيني أن الإسرائيلي غير جاد في مفاوضاته. *** غير أن ما يلفت النظر في موقف الفريق الفلسطيني المفاوض، أنه يراهن على المبعوث الأميركي جورج ميتشل لوقف الاستيطان، واستئناف العملية التفاوضية. مع التنبه إلى أن تجميد العملية التفاوضية لم يعن، ولا للحظة واحدة، أن الاستيطان قد توقف، وبالتالي فإن ثمة قضية لا بد أن تتم إثارتها بصراحة: هل يصح الرهان مرة أخرى على «الراعي» الأميركي لوقف الاستيطان، وهل ثمة اقتراحات أميركية لا تأخذ بالاعتبار المصلحة الإسرائيلية قبل المصالح الفلسطينية. وهل ما زال «الراعي» الأميركي مؤهلا كي يكون موضع رهان الجانب الفلسطيني؟ نحن هنا لن نجيب، بل سنترك الإجابة للدكتور صائب عريقات (أبو علي) ويكنى أبو علي نسبة إلى ولده البكر علي. وهو، كما بات معروفا رئيس دائرة المفاوضات في م. ت. ف. والغرب يصفه بأنه «كبير المفاوضين الفلسطينيين»، في كتابه الشهير «الحياة مفاوضات»، وفي الجزء الخامس من فصله الأخير، يتحدث عريقات بصراحة (وشجاعة) عن دور الراعي الأميركي. حتى أنه يتجاوز صفة «الراعي» ويصفه بأنه «المفاوض الأميركي»، لأن التجربة أكدت أن الطرف الأميركي، شكل، دون أي شك، طرفا ثالثا في المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية. لكنه طرف منحاز، على طول الخط لصالح الإسرائيلي. - يقول عريقات إن المفاوض الأميركي يتحرك على قاعدة «الممكن» و»المطلوب» في التعامل مع إسرائيل. فيعتمد مبدأ «الممكن» أي ما يمكن أن تقدمه إسرائيل ولا يضر بمصالحها. أما مع الجانب الفلسطيني، فيعتمد مبدأ «المطلوب» أي ما هو مطلوب من الفلسطينيين أن يقدموه. - ويقول أيضا: إن المهم عند المفاوض الأميركي أن يصل مع الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي إلى اتفاق على أساس ما حدده هو، بغض النظر عن عدالة الاتفاق، وعن إمكانية صموده أمام امتحان التنفيذ. - ويقول أيضا: إنه يستعمل الوقت بطريقة ذكية. فيتحدث إلى الجانب الفلسطيني عن ضيق الوقت كالقول مثلا أنه لم يتبق على ولاية الرئيس سوى عامين، وخلال أشهر ستبدأ الحملات الانتخابية وبالتالي لن نكون جاهزين للتحرك. عليكم الاستفادة من الوقت. فلا تهدروا الفرصة. - ويقول أيضا: إن المفاوض الأميركي يسعى على الدوام إلى مساومة الجانب الفلسطيني أكثر من الإسرائيلي، لأنه يريد التنازلات من الفلسطيني. - ويضيف: أن الأميركي يلجأ إلى الضغط عند الاستعصاءات. وهو يستخدم الضغط بشكل مكثف على الجانب الفلسطيني، وهو نادرا ما يمارس أي نوع من الضغط على الجانب الإسرائيلي. - ويكشف أيضا أن الجانب الأميركي لا يتوقف عن التكرار أمام الفلسطينيين قائلا «احرصوا على التنفيذ. قوموا بما عليكم كطرف فلسطيني دون الالتفات إلى ما يقوم وما لا يقوم به الطرف الإسرائيلي». بالمقابل ، يقول عريقات، إن الأميركي لا يهتم بضمان التنفيذ من قبل الإسرائيلي. كل ما يبغيه هو أن يلتزم الفلسطيني بالاتفاق. - وعندما يعقد جلسة مع الفلسطينيين يحرص الأميركي على الحصول على نتائج الجلسة قبل انعقادها. - كما يقول عريقات إن الجانب الأميركي يستخدم الأطراف الدولية والإقليمية للضغط على الجانب الفلسطيني، ولا يستخدم هذه الأطراف للضغط على الجانب الإٍسرائيلي، لأنه خارج دائرة الضغط. - ويعترف عريقات أن ما يقوله الجانب الأميركي للفلسطينيين يكون قد اتفق عليه مسبقا مع الإسرائيلي. وأن ما يقوله الفلسطيني للأميركي ينقله هذا فورا للإسرائيلي. لكنه لا ينقل للفلسطيني كل ما يدور بين الأميركي وبين الإسرائيلي. - وأخيرا وليس آخر، يحاول الأميركي، على الدوام، زرع الخلافات والتحالفات بين أعضاء الفريق الفلسطيني، ويستميل بعضهم، وعبر هذه البعض يعمل على تسويق أفكاره في صفوف الفريق الفلسطيني. *** هذا بعض ما ذكره عريقات عن دور «الراعي» الأميركي وكيف يدير المفاوضات، وكيف يرسم مواقفه بين الطرفين الفلسطيني والإسرائيلي. وهي مواقف وأساليب تكررت مع الإدارات الأميركية المتعاقبة. فعريقات، كما هو معروف، واكب المفاوضات منذ لحظتها الأولى في مدريد. وبالتالي يشكل اعتراف عريقات شهادة دامغة لصالح المعارض الفلسطيني، أي لصالح القوى اليسارية والديمقراطية والوطنية الفلسطينية التي مافتئت تحذر من خطورة الدور الأميركي وتصفه بأنه راع غير نزيه، وبالتالي، تأتي شهادة عريقات لتطعن في صحة مواقف المفاوض الفلسطيني الذي دخل المفاوضات هذه المرة، كما قال «لا لشيء سوى لنعطي الجانب الأميركي فرصة». وها هو الأميركي، كما يتضح، مجرد لاعب ثالث ضد الفلسطينيين. فهل يستمر الرئيس عباس في الرهان على أن ميتشل سوف يضغط على نتنياهو لأجل وقف الاستيطان. أم أنه سيعود إلى لعبة «المطلوب» و»الممكن». بحيث يعود لاحقا ليقول لمن هم في المقاطعة «هذا كل ما يمكن أن تقدمه إسرائيل، وعليكم أن تقبلوا به». و»هذا ما هو مطلوب منكم أن تفعلوه، وعليكم أن تنفذوه، بغض النظر عن التزام أو عدم التزام إسرائيل». ما هي إلا أيام. بعدها سنرى.