رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'        أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء        الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    "دور الشباب في مناصرة حقوق الإنسان" موضوع الحلقة الأولى من سلسلة حوار القيادة الشبابية        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    واشنطن ترفض توقيف نتانياهو وغالانت    وفاة ضابطين اثر تحطم طائرة تابعة للقوات الجوية الملكية اثناء مهمة تدريب    أمن البيضاء يوقف شخصا يشتبه في إلحاقه خسائر مادية بممتلكات خاصة    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    توقيف الكاتب الفرنسي الجزائري بوعلام صنصال في مطار الجزائر بعد انتقاده لنظام الكابرانات    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    يخص حماية التراث.. مجلس الحكومة يصادق على مشروع قانون جديد    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    إتحاد طنجة يستقبل المغرب التطواني بالملعب البلدي بالقنيطرة    برقية تهنئة إلى الملك محمد السادس من رئيسة مقدونيا الشمالية بمناسبة عيد الاستقلال    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن    رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



قريع يستعرض تجربة المفاوضات الفلسطينية الإسرائيلية من عهد شامير وصولا إلى نتنياهو 4/1
نشر في بيان اليوم يوم 27 - 10 - 2010

مسيرة المفاوضات تبدو بلا نهاية وكانت مجرد لعبة علاقات عامة لدى الجانب الإسرائيلي لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ برنامجه على الأرض ولعدم إغضاب الإدارة الأميركية
أكد رئيس طاقم المفاوضات النهائية السابق مع إسرائيل أحمد قريع وأحد مهندسي اتفاقية أوسلو الشهيرة بان المفاوضات تبدو بلا نهاية، مشيرا إلى أن 8 حكومات إسرائيلية تفاوضت مع الفلسطينيين وكان القاسم المشترك بينها الإصرار على الاستيطان الذي دفع القيادة الفلسطينية برئاسة محمود عباس إلى اتخاذ قرارها مؤخرا بوقف المفاوضات المباشرة مع حكومة بنيامين نتنياهو لحين وقف الاستيطان في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967
وأوضح قريع في محاضرة ألقاها الأحد الماضي في مركز الأهرام للدراسات السياسية والإستراتيجية بأن المفاوضات مع إسرائيل باتت مجرد لعبة علاقات عامة لكسب المزيد من الوقت لتنفيذ برنامجها على الأرض ولعدم إغضاب الإدارة الأميركية.
وأضاف قريع: وقبل أن أمضي في عرض بعض من جوانب هذه التجربة التي عايشتها على طول الطريق الممتد من أوسلو عام 1993 إلى أنابوليس عام 2007، وما تخلله من محطات عديدة، في القدس وواشنطن واستوكهلم وروما وطابا ورام الله وغيرها، أود أن أتوقف قليلاً عند واحد من أحد أهم المعطيات الثابتة في هذه التجربة التفاوضية المديدة، وأعني بذلك الخيط الناظم لسياسة إسرائيل عبر سائر حكوماتها المتتالية منذ بدء عملية المفاوضات، التي تعاقب عليها ثمانية رؤساء حكومات، كان لكل واحد منهم تكتيكياً خاصاً به، وأسلوباً إخراجياً مختلفاً عن سابقه، إلا أنهم كانوا في المحصلة الأخيرة يعزفون ذات الأوركسترا الاستيطانية التوسعية المناهضة لحقوق الشعب الفلسطيني المشروعة في العودة وتقرير المصير وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.
وتابع قريع: فمنذ انطلاقة المفاوضات الفلسطينيّة - الإسرائيليّة في مؤتمر مدريد للسلام في أكتوبر 1991، أي منذ قرابة تسعة عشر عاماً، خضنا سلسلة بالغة الدِّقة والتعقيد لعمليّة تفاوضيّة شكّلت، في معظم مساراتها، ما يشبه فصولاً لمسرحيّة تنتمي إلى مسرح اللامعقول، شارك في بطولتها ثمانية من رؤساء الحكومات الإسرائيليّة المنحدرين من تيارات سياسيّة يمينيّة متطرِّفة ويساريّة عمّاليّة صهيونيّة، بطواقمها المختلفة، التي لم تختلف كثيراً عن بعضها البعض، في توجهاتها السياسيّة وأهدافها التي لم تتنازل قيد أنملة عن جوهر المشروع الاستيطاني الصهيوني الاستعماري التوسعي. بينما مثل الجانب الفلسطيني، في هذا المشهد التفاوضي المديد رئيسان لمنظمة التحرير الفلسطينية والسلطة الوطنية الفلسطينية هما الرئيس الشهيد ياسر عرفات، والرئيس محمود عباس.
كما كان يوجد على الجانب الآخر من المشهد وسيط أمريكي تعاقب على أدائه كل من الرئيس الأمريكي جورج بوش الأب، والرئيس بيل كلينتون، والرئيس جورج دبليو بوش الابن، وأخيراًُ الرئيس باراك أوباما. فيما ظل يجلس على مقاعد المتفرجين على العرض المسرحي كل من الدول العربية، ودول الاتحاد الأوروبي وروسيا، والأمم المتحدة بجمهورها العالمي، وبقي الشعب الفلسطيني طوال عرض هذا المشهد واقعاً تحت سياط الاحتلال وقمعه وجبروته.
قد يكون الوقت قد طال أكثر مما ينبغي لمراجعة هذا المسار الطويل الملتبس لعملية مفاوضات ظلت متعثرة، تخرج من مأزق حاد لتدخل في مأزق أكثر حدة من سابقه. ومع ذلك فإن من المفيد إجراء المراجعات المطلوبة، وإعادة تقويم هذه العملية في هذه الآونة التي انكشفت فيها تماماً بواطن النوايا الإسرائيلية الرامية إلى كسب مزيد من الوقت لفرض مزيد من حقائق الأمر الواقع، بما في ذلك مصادرة الأرض وتوطيد دعائم العملية الاستيطانية التي تسابق الزمن، لعلنا بمثل هذه المراجعة نتمكن من تصويب المواقف العربية والفلسطينية، واستشراف الممكنات المستقبلية بصورة واضحة، واختيار البدائل الواقعية المناسبة.
وأضاف قريع: وقبل إجراء مثل هذه المراجعة، ودراسة الخيارات والبدائل الممكنة، لا بد لنا من التعرف على المحصلة غير المكتملة لهذه التجربة التي عبرت أزمنة ثمانية رؤساء حكومات إسرائيلية متتالية، كل زمن منها مجرد تنويع في الشكل، يغطي على الإستراتيجية التفاوضية الإسرائيلية
وعرض أحمد قريع هذه التجربة في محطاتها الثمانية المتتالية مع ثماني حكومات إسرائيلية، كما يلي:
الأولى: حكومة إسحق شامير
مع الخطوة الأولى للعمليّة التفاوضيّة في مدريد أواخر العام 1991، أطلق رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق، إسحق شامير، ملخصاً بالغ الدلالة لمخططه السياسي ضمن اللعبة العبثيّة الإسرائيليّة في التفاوض، حين قال: سأفاوضهم لعشرات السنين، حتّى لا يجدوا ما يفاوضون عليه.
لم تُبشِّر تلك البداية للمفاوضات بشيء إيجابيّ للمستقبل، إن لم تكن تنذر بمآلاتها الأكثر تشاؤماً. وفي قضيّة القدس، على وجه التحديد، أصرّت إسرائيل على عدم مشاركة شخصيات فلسطينيّة مقدسيّة مقيمة في المدينة المقدّسة، في الوفد الأردني الفلسطيني المشترك. وفي الافتتاح، لم تأتِ كلمات رعاة المؤتمر، الولايات المتحدة وروسيا، على أيّ ذكر لمدينة القدس وقضيتها، وغاب طرحها تماماً عن المؤتمرِ الدولي، رغم إدراك الجميع أنها تُشكِّل مفتاحاً للسلام. فقد اكتفت الإدارة الأميركيّة في حينه بتقديم تعهد مُسكِّن للجانب الفلسطيني، في رسالة موجّهة لمنظمة التحرير الفلسطينيّة، تفيد أن للفلسطينيين مطالب في القدس الشرقيّة وأن (من حقّ سكّان القدس المشاركة في مفاوضات المرحلة النهائيّة).
وقد حاول الوفد الفلسطيني المفاوض، في حينه، طرح قضيّة القدس بشكل فوري وعاجل في مفاوضات واشنطن التي أعقبت مدريد وشكّلت امتداداً لها (حتى 1993)، على أساس أن النّهم الاستيطاني الإسرائيلي في القدس بات يسير بشكل متسارع لفرض الأمر الواقع في المدينة المقدّسة، مؤكداً بأن القدس هي جزء من ولاية الحكم الذاتي الانتقالي، والمركز المقرّر لهذه الولاية. إلاّ أن الجانب الإسرائيلي رفض ذلك المطلب، مكرراً طروحاته التقليديّة بشأن القدس، التي ظلّ يعتبرها العاصمة الأبديّة الموحدة لدولة إسرائيل، وأن لا سيادة ستكون عليها غير السيادة الإسرائيليّة. واعتمدت حكومة شامير إستراتيجية إضاعة الوقت واستمرار سياسة فرض الوقائع الاحتلالية الاستيطانية على الأرض.
الثانية حكومة إسحق رابين
وأمام هذا الانغلاق السياسي والتشدد الدوغمائي الإسرائيلي المُعلن، جرى فتح مسار تفاوضي سريّ في أوسلو برعاية نرويجيّة. وقد كلفت بتولي هذه المهمّة الصّعبة، والتي اقتصرت إدارتها على دائرة ضيِّقة مغلقة ضرب حولها نطاق من السريّة المطلقة على كلّ المستويات. وبعد شهور طويلة ومضنية من التفاوض بين الجانبين الفلسطيني والإسرائيلي، كادت فيها المفاوضات أن تنتهي إلى نتيجة سلبيّة للمرّة الثانية، تمّ التوصُّل إلى اتفاق مرحلي، جرت فيه معالجة القضايا المرحليّة، والاتفاق على الانتقال إلى بحث القضايا النهائيّة والاتفاق عليها خلال مدّة لا تزيد عن خمس سنوات، وهو ما عرف باتفاق «إعلان المبادئ»، الذي جرى التوقيع عليه في واشنطن في الثالث عشر من شتنبر 1993.
في ذلك الإعلان ، جرى الاتفاق على إحالة العديد من القضايا إلى مفاوضات الوضع الدائم، وفي مقدمتها الأرض والحدود، القدس، اللاجئين، الاستيطان، الأمن، المياه، بينما تم تحديد المرحلة الانتقالية بما لا يزيد عن خمس سنوات من تاريخ تنصيب المجلس التشريعي، وتم التأكيد على أنه لا يجوز لأي من الطرفين أن يقوم بأية أعمال أحادية تجحف من نتائج مفاوضات الوضع الدائم، وكان ذلك تأكيداً على وقف الاستيطان وأي إجراءات في القدس، هذا بالإضافة إلى الانسحابات وإعادة الانتشار من الأرض الفلسطينية خلال المرحلة الانتقالية بالتوازي مع مفاوضات الوضع الدائم.
وفي لقاء علني جرى عند حاجز إيريز بعد عدة شهور من وصول الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات عائداً إلى غزّة عام 1994، وضمّ رئيس الوزراء الإسرائيلي في حينه إسحق رابين والرئيس عرفات، أثير موضوع الاستيطان بقوّة من قبل الجانب الفلسطيني، فقال رابين إنه سيقوم ببناء سياج حول كل مستوطنة، بما لا يبعد أكثر من خمسة أمتار عن آخر بيت فيها، إلى أن يتحدّد مصير المستوطنات في مفاوضات الوضع الدائم.غير أن وعود رابين هذه ذهبت مع رصاصات التطرُّف الإسرائيلي التي أودت بحياته، جزاءً له على توقيعه اتفاق أوسلو، وإبدائه قدراً من المرونة السياسيّة، التي لا تحتملها الذهنيّة الصهيونيّة المتطرّفة في معاداتها لفكرة السلام ومشروع التعايش والبحث عن حلول تاريخيّة متوازنة إلى حدّ ما.
الثالثة حكومة شمعون بيرس
وفي التفاصيل التفاوضية التي لا يتسع المقام لعرضها، فإنه يمكن القول انه بعد طول لأي وعنت ومراوغة وعض على الأصابع، اجتزنا مخاض أوسلو بنجاح نسبي، وفق ما كانت عليه أوضاعنا الذاتية بعد خروج المقاومة من لبنان أولاً وحرب الخليج الأولى ثانياً، فاستعدنا بذلك التحول التاريخي في مجرى الصراع، بإحداث أول اختراق عملي ونفسي في هذا الصراع وتعقيداته، وفي أوضاع حركة التحرير الوطني الفلسطيني، وبنينا أول كيان فلسطيني على جزء من أول أرض فلسطينية محررة على طريق تحقيق كامل حقوقنا الوطنية المشروعة، وأجرينا في الحياة الوطنية الفلسطينية أول انتخابات عامة، وأقمنا سلطة وطنية معترف بها أدارت الكثير من جوانب حياتنا السياسية والاجتماعية والاقتصادية، وفتحنا أبواباً واسعة في الجدار المغلق، وأعدنا أكثر من ربع مليون فلسطيني إلى الديار، وقلبنا الهرم السياسي الفلسطيني من وضعية ارتكازه على الرأس في المنفى إلى قاعدته الشعبية على الأرض في الوطن، ولم يعد شعبنا منذ ذلك التاريخ فائضاً سكانياً تضيق به جغرافية الشرق الأوسط.
وإذا كانت الرصاصات الإسرائيليّة التي اغتالت رابين قد حادت عن جسد شريكه في عمليّة أوسلو شمعون بيرس، فإنها لم تخطيء حضوره السياسي، إذ سرعان ما تمّ إسقاطه عن قمّة السلطة السياسيّة في إسرائيل، وحلّ مكانه زعيم تكتل الليكود المتطرِّف اليميني بنيامين نتنياهو، الذي جاء مثقلاً بحمولة رؤى اليمين الإسرائيلي المعادية، من حيث المبدأ، لفكرة السلام، والمعبِّر أكثر من كل الأحزاب الإسرائيلية الكبرى عن جوهر الايدولوجيا العنصريّة الصهيونيّة التوسعيّة.
وقبل أن نشرع بتطبيق اتفاق أوسلو الذي وصف في حينه كواقعة لا تقل أهمية عن واقعة سقوط حائط برلين، كنا ندرك نواقصه، ونعي ما ينطوي عليه من فرص سانحة ومخاطر. إلا أننا كنا في الوقت ذاته نعي أن البدائل الواقعية المتاحة تضاءلت إلى ما فوق نقطة الصفر بقليل، وأن الاشتباك النضالي والسياسي مع الاحتلال على الأرض وحول القدس سيكون أجدى وأكثر فاعلية ونحن مقيمون على مرمى حجر من القدس ذاتها، وأن بناء المؤسسات الفلسطينية على الأرض وبين الناس أهم بما لا يقاس من بنائها في الخارج، وأن استعادة جزء من الأرض من بين براثن الاحتلال سيمنح الأمل لشعبنا ويعطيه دليلاً عيانياً ملموساً على أن المحتلين إلى زوال، وأن الرقم الفلسطيني في معادلة الشرق الأوسط لن يتم تجاهله أو تجاوزه بعد هذه الانعطافة الكبرى في مسيرة حياته الكفاحية المضنية.
على أنه يقتضي القول أن عهد كل من إسحق رابين وشمعون بيرس الانتقالي، بين عامي 1993-1996، قد شهدا بعض التقدم الملموس في تطبيق بعض من أوجه اتفاق إعلان المبادئ، وفي المقدمة من ذلك انسحاب إسرائيل من داخل المدن الفلسطينية الرئيسة في الضفة الغربية، وإجراء أول انتخابات تشريعية ورئاسية فلسطينية أوائل العام 1996، وإنشاء السلطة الوطنية الفلسطينية وهما الأثران الباقيان إلى اليوم من هذا العهد الذي كان لنا فيه شريك للسلام توصلنا معه إلى اتفاق أوسلو.
الرابعة - حكومة بنيامين نتنياهو الأولى
وكما هو معلوم، فما إن شرعنا بتطبيق بنود اتفاقية المرحلة الانتقالية الوسيطة، المعروفة باسم «أوسلو ب»ومراكمة بعض المكاسب النوعية المتفرقة، مثل انسحاب قوات الاحتلال من مدن الضفة الغربية، وبناء المؤسسات والأجهزة الإدارية والأمنية، حتى كان أعدى أعداء خيار السلام قد احتل دفة السفينة الإسرائيلية، وصارت الأحزاب اليمينية المتطرفة، التي سبق لها أن عارضت اتفاق أوسلو وصوتت ضده في الكنيست، تمسك بمفاتيح القوة القادرة على تعطيل هذا المسار والتنصل من استحقاقاته الملزمة، وأعني بذلك وصول حزب الليكود برئاسة بنيامين نتنياهو إلى رئاسة الحكومة الإسرائيلية أواسط العام 1996.
ومع أن الفترة القصيرة السابقة من زمن اتفاق أوسلو (حكومة رابين/ بيريس) السابقة على حكومة بنيامين نتنياهو لم تكن فترة سهلة ومفروشة بالورود، حتى لا نقول إنها كانت مليئة بالمصاعب والمراوغات الإسرائيلية المعهودة في كل زمن، إلا أن عهد نتنياهو الليكودي اليميني المتطرف، كان زمن الاستعصاءات الشديدة والاختلافات العميقة، كون القادم إلى سدة الحكم ذو خلفية أيديولوجية متعلقة بالأساطير والخرافات حول ما يسمى بأرض إسرائيل الكاملة، وليس لديه في الجعبة السياسية غير التوسع في بناء المستوطنات وفرض المزيد من حقائق الأمر الواقع، وكل ما من شأنه أن يؤدي إلى تقويض اتفاق أوسلو المكروه جداً لدى اليمين الإسرائيلي كله، لا سيما من جانب نتنياهو نفسه الذي سبق له أن وصف هذا الاتفاق بأنه كارثة يجب وقفها.
وفور توليه رئاسة الحكومة الإسرائيليّة للمرّة الأولى، في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، شرع بنيامين نتنياهو في التعبير عن جوهر الروح الصهيونيّة التوسعيّة التي لا تلتفت إلى الآخر إلاّ بروح التعالي والإنكار، فبدأ بتعزيز العمليات الاستيطانيّة في مدينة القدس، وباشرت حكومته الخطوات الأولى لبناء مستعمرة «هارحوما» فوق جبل أبو غنيم، الواقع في أراضي المدينة العربيّة المقدّسة، ليتبعها بالبناء في مستعمرة رأس العمود، مع العمل على مواصلة عمليات تسمين المستوطنات، في القدس وغير القدس، والتي ترافقت معها الحفريات الإسرائيليّة الواسعة لشقّ النفق تحت المسجد الأقصى، تلك الحفريات التي تواصلت في ما بعد وباتت تهدد أساسات أولى قبلة للمسلمين.
وإذا كان ملف المرحلة الانتقالية قد أغلق في أوسلو وتكرّس بعد التوقيع عليه في واشنطن 1993، كما ذكرنا، فقد جاء نتنياهو ليعيد فتحه من جديد، ففرض مسألة إعادة التفاوض حول الخليل، والتوقيع على اتفاق جديد حول المدينة الفلسطينيّة التي حُسم أمرها في الاتفاقات الانتقاليّة. وإذا كنّا قد وقعنا على اتفاق مع رئيس الوزراء الإسرائيلي في «واي ريفر» يعيد التأكيد على مبادئ أوسلو، فإنه، أي نتنياهو نفسه، لم ينتظر حبر التوقيع ليجفّ على الورق، فسارع فور وصوله عائداً إلى مطار بن غوريون في تلّ أبيب، إلى إعلان تراجعه عن الاتفاق، دون أن تعني له الأسرة الدوليّة شيئاً، ودون أن يتلقى تأنيباً أو لوماً من الإدارة الأميركيّة في حينه.
لقد أعلن بنيامين نتنياهو منذ اليوم الأوّل لتوليه رئاسة الوزراء في إسرائيل، عن نظريته التي ترفض التعامل مع الضّفة الغربيّة كأرض محتلّة، وإنما مجرّد أرض متنازع عليها، وكان يعيد ترديد المقولة الصهيونيّة المتهاوية التي ترى «القدس الموحدة» عاصمة أبدية لدولة إسرائيل، وتُخرجها بالتالي من دائرة التفاوض حول قضايا الحل الدائم.
الخامسة - حكومة إيهود باراك
وبعد ثلاث سنوات عصيبة من حكم نتنياهو في المرّة الأولى، عادت «حمائم» إسرائيل إلى الحكم من جديد، وحلّ إيهود باراك مكان نتنياهو رئيساً لوزراء الدولة العبريّة. وعندما نتحدّث عن «الحمائم»، فإننا نضع الكلمة بين مزدوجتين، إذ لا تغيب عن بالنا العبارة البليغة التي كان قد أطلقها في حينه الرئيس الراحل أنور السادات عندما قال: (ليس ثمّة في إسرائيل صقور وحمائم. هناك صقور، وصقور أشدّ شراسة).
والحق، وبالاستناد إلى خبرات لاحقة ومكتسبة، فإن مواجهاتنا الساخنة ومعاركنا مع حكومة نتنياهو الأولى كانت، على تعددها وتنوعها وصعوبتها وخطورتها الشديدة، أقل وطأة وكلفة، مما جرت عليه مواجهاتنا ومعاركنا اللاحقة مع الحكومات الإسرائيلية التالية، أعني حكومة ايهود باراك وأرييل شارون. على هذه الخلفية المسكونة بحسن النية المفرطة حيال مرحلة ما بعد نتنياهو، والتوقعات الإيجابية والتقديرات المتفائلة بالعهد الجديد، كدنا أن نشارك ايهود باراك، الفائز في معركته الانتخابية بدعم صامت وغير مباشر من جانبنا، في احتفالات انتصاره المدوي على بنيامين نتنياهو المكروه من الطرفين المتوافقين في الحدود الدنيا على إسقاط رمز اليمين المعرقل لعملية السلام، لولا أن القادم الجديد إلى قيادة دفة السفينة الإسرائيلية سرعان ما فض كل الالتباسات التي أحاطت به منذ اللحظة المبكرة، التي امتنع فيها عن التصويت، في الكنيست على اتفاق أوسلو، وظل محافظاً طوال الوقت على صفته كصقر جارح من صقور حزب العمل، يصطف في الجانب الأكثر يمينية داخل الحزب الذي كان قد قاد التحول الإسرائيلي باتجاه خيار السلام مع الجانب الفلسطيني بعد فوزه المحدود في انتخابات الكنيست عام 1992.
وبالفعل فقد كان رئيس الحكومة الإسرائيلية الجديد، الذي كان قد خلع البزة العسكرية قبل سنوات قليلة فقط، ووصف في حينه على أنه الامتداد الطبيعي لإسحق رابين، أكثر دهاء وأشد مراساً من سابقه بنيامين نتنياهو، أو قل انه كان أبرع مناورة معنا، وأشد مراوغة مما كان عليه الزعيم الليكودي المفعم بالعنصرية ومعاداة حق الشعب الفلسطيني بأرضه وحقوقه وبدولة فلسطينية مستقلة عاصمتها القدس، الأمر الذي وضعنا أمام إشكالية معقدة مع رئيس حكومة إسرائيلية توصف على أنها حكومة من يسار الوسط، تضم فريقاً من دعاة السلام، أمثال يوسي ساريد ويوسي بيلين وشلومو بن عامي وغيرهم، إلا أنها كانت تحت إدارة باراك تبدو كنسخة معدلة عن حكومة نتنياهو، مما جعلها مقبولة ومرحب بها في أوروبا والولايات المتحدة، بوصفها البديل المرغوب به عن الحكومة اليمينية المتطرفة السابقة لها.
وفي المحصلة العملية لتجربة فلسطينية أخرى لم تكن طويلة أيضاً مع حكومة ايهود باراك، امتدت نحو عامين، فقد وجدنا أنفسنا أمام فصول جديدة من مراوغة سياسية كبيرة، أتقن رئيس هيئة الأركان الإسرائيلية السابق تسويقها للرأي العام و لعدد من الزعماء، خصوصاً للرئيس بيل كلينتون الذي لم يخفِ سعادته الشخصية بقدوم باراك إلى الحكم خلفاً لنتنياهو البغيض، فيما كان سيد البيت الأبيض يقضي ما تبقى له من سنته الأخيرة من ولايته الثانية في البيت الأبيض، وأعني بتلك المراوغة الهروب من تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية المنصوص عليها في الاتفاق المرحلي الانتقالي، نحو أبواب التفاوض على قضايا الحل النهائي دفعة واحدة، ورفض العمل على تنفيذ الاستحقاقات بالتوازي مع مفاوضات الوضع الدائم، وهو ما قاد المسار كله فيما بعد إلى تجربة كامب ديفيد الفاشلة عام 2000.
لقد كنا على الجانب الفلسطيني ندرك، بحكم خبراتنا المكتسبة في دهاليز المفاوضات السابقة مع الإسرائيليين، جوهر المناورة الجديدة/ القديمة لأيهود باراك، وقلنا للوسطاء وأصحاب المبادرات وذوي النوايا الطيبة من عرب وأوروبيين وأميركيين وروس، إن اندفاعة رئيس الحكومة الإسرائيلية نحو معالجة قضايا الحل الدائم هي هروب إلى الأمام من استحقاقات واجبة التنفيذ من المرحلة الانتقالية الوسيطة، وكنا نحذر الأميركيين الذين أبدوا حماسة زائدة لطرح باراك هذا، من مغبة القفز إلى المجهول، ومن الانجراف وراء رهانات كبرى فيما الرهانات الصغرى عالقة، ومن الاستعجال في عقد مؤتمر كامب ديفيد دون إجراء الإعداد اللازم والاستعدادات الكفيلة بضمان نجاح محطة تفاوضية، قد يكون فشلها أشد خطورة من عدم انعقادها أصلاً. على أي حال، فقد انعقد مؤتمر كامب ديفيد الثاني، في ذات القاعات والشاليهات التي سبق لها أن شهدت جلسات مؤتمر كامب ديفيد الأول مع مصر أيام الرئيس الأسبق جيمي كارتر. إلا أن النتائج هذه المرة أتت على العكس مما أتت عليه في المرة السابقة، الأمر الذي أعاد إنتاج مشهد نزاع أكثر حدة مما كان عليه من قبل، تجلت خواتمه المبكرة في نوايا مبيتة، واتهامات ومزاعم وتطورات عنيفة لاحقة، لعل أبرزها لجوء الرئيس كلينتون لاتهام القيادة الفلسطينية بالمسؤولية في فشل آخر محاولة أجراها، وهو على أي حال كان اتهاماً أميركياً شديد الوطأة في مفاعيله اللاحقة، على كل من القيادة الفلسطينية والشعب الفلسطيني.
وأود هنا أن أتوقف عند بعض هذه المفاعيل الصعبة، لما لها من مدلولات بالغة الخطورة ظلت تطبع النزاع المرير طوال الفترة الطويلة اللاحقة. حيث دارت الماكينة الإعلامية الأميركية/ الإسرائيلية تحملنا وزر فشل المبادرة الرئاسية الأميركية، وتلقي علينا مسؤولية إخفاق كامب ديفيد، وأنه لا يوجد شريك فلسطيني مؤهل لعقد سلام مع إسرائيل.
لقد عمل باراك خلال عاميّ تسلمه قمّة السلطة في إسرائيل، على الهروب من تنفيذ الالتزامات الإسرائيلية بموجب الاتفاق الانتقالي إلى مفاوضات الوضع الدائم، قبل أن ينفِّذ شيئاً من بنود المرحلة الوسيطة. وقد فاوضناه لمدة بلغت خمسة عشر شهراً من خلال وزير خارجيته آنذاك، شلومو بن عامي، حيث ظهرت في الأفق بوادر إيجابيّة تتعلّق بالاعتراف الإسرائيلي بالحدود الشّرقيّة (على طول خطّ نهر الأردن وحتى آخر نقطة على البحر الميِّت)، والإقرار بأنها هي حدود الدولة الفلسطينيّة.
غير أن باراك، سرعان ما تراجع عن التفاهمات مع فريقه المفاوض، ليهرب إلى قمّة كامب ديفيد. وبدعم من الرئيس الأميركي الأسبق بيل كلينتون، حيث تمكّن باراك هناك من تضليل الرأي العام العالمي عبر ترويجه مزاعم أنه قدّم في تلك القمّة عرضاً مجزياً للفلسطينيين لم يوافق عليه الرئيس ياسر عرفات، الأمر الذي مهد لزعمه القائل بأن الفلسطينيين في منظمة التحرير والسلطة الفلسطينيّة، ورئيسهم عرفات، ليسوا شركاء في عمليّة السلام، وأن أبو عمّار هو إرهابي ولا يرغب في السلام مع إسرائيل.
وقد واصلنا في طابا أواخر عهد باراك المفاوضات التي فشلت في كامب ديفيد، حيث لاح فيها بعض التقدُّم، إلاّ أن رئيس الوزراء الإسرائيلي، الذي كان يخوض سباقاً انتخابياً مع أرييل شارون، أعلن لاحقا أنه لا يعترف بكل تلك التفاهمات، وأنه لم يفوض أحداً لهذه المفاوضات.
وفي خطوة استفزازيّة من جانب باراك، مهّد رئيس الوزراء الإسرائيلي لزعيم اليمين المتطرِّف آرييل شارون القيام بزيارة المسجد الأقصى، مما فجّر الانتفاضة الثانية أواخر شتنبر 2000، والتي اندلعت شرارتها من القدس لتشمل الأراضي الفلسطينيّة من أقصاها إلى أقصاها. وقد تطورت المواجهات إلى درجة لم تتردد فيها حكومة باراك في قصف رام الله وبيت لحم بمروحيات الأباتشي، وقصف نابلس بطائرات الفانتوم.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.