بمدينة فاس، تواصل الدورة الرابعة والعشرون لمهرجان الموسيقى العالمية العريقة، سفرها الاحتفالي، استنادا على شعارها، "معارف الأسلاف"، متنقلة بين محطات فنية منتقاة، ومحطات فكرية تساءل الراهن الثقافي، وبتركيز كبير على خصوصية وهوية المغرب، كبلد منفتح على ثقافات العالم، تلاقحت أغلبها على أرضه في فترة من فترات التاريخ المتباعدة، وشكل مفترق طرق لعبور الحضارات، وملتقى للتبادل والتعايش السلميين، بهذه الصفة تقدم مدينة فاس أوراق هويتها، ومن هذه المعطيات يستمد المهرجان شرعيته، في تقديم صورة لائقة عنا وعن بلادنا. وتعرف الدورة، التي تجري أطوارها منذ الثاني والعشرين وتتواصل حتى الثلاثين من شهر يونيو الجاري، مشاركة العديد من الفنانين والمجموعات الموسيقية والغنائية من مختلف القارات، تختلف خصوصياتها ولغاتها لكنها تتقاطع في التعبيرات الفنية الراقية، كردة فعل على ما صار يسود مجال الفنون عالميا من ابتذال وإسفاف، بين التجاوز الفوضوي لقيم الفن النبيلة، والميل الشديد نحو تنميطها والانحدار بها كي تتوافق مع قيم الاستهلاك السائدة. حياة المهرجان وكما سلفت الإشارة، يعرف برنامج الدورة فقرات شديدة الاختلاف والتنوع، تم تقديم بعضها، سواء بساحة باب المكينة او بحدائق جنان السبيل، فيما مازال بعضها الأخر يحتفظ بأسراره في انتظار دوره لمعانقة الجمهور وخلق حالة الإبهار القوية التي تميز أغلب العروض. على خطى ابن بطوطة وللذكر لا الحصر من بين أهم فقرات المهرجان لليومين السالفين، كان للجمهور لقاء بباب المكينة، ليلة الأحد الماضي، مع احد العروض الموسيقية الباهرة، وهي مساهمة الفنان الموسيقي جوردي سافال، ومجموعته "هيسبيريون 21″، التي تشكل منتخبا من الفنانين العالميين، والمتكونة من موسيقيين مغاربة، وسوريين، وأتراك، ويونانيينن، وبلغار، وأرمنيين، وملغاش، وإسبان. العرض الذي نال إعجاب الجمهور الغفير الذي غصت به جنبات فضاء باب المكينة، على رحابته، بما قدمه من لوحات موسيقية وغنائية، تمثلت موسيقيا المحطات الكرونولوجية لرحلة ابن بطوطة الطنجي، كما تم تدوينها في كتابه "تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار". وهي رحلة بدأها ابن بطوطة سنة 1325 عن عمر يناهز 21 عاما، جاب خلالها العالم القديم ودامت أزيد من ثلاثين سنة، شملت بلدانا آسيوية وغاصت في مجاهل افريقيا، وتحدث عن أهلها وحكامها وعلمها، وطرق عيشهم، وتم تدوين تلك الأسفار بمدينة فاس أيام السلطان أبو عنان المريني سنة 756 ه. وقد ترجم هذا الكتاب لاحقا إلى عدة لغات عالمية. ويعتبر جوردي سافال، صاحب هذا العمل الابداعي الجميل، من الشخصيات الموسيقية متعددة الاختصاصات على صعيد العالم. ويخلق سافال في إبداعاته الموسيقية، عالما من المشاعر والجمال. في إطار بحثه عن عالم فريد ومشترك لدى الملايين من هواة الموسيقى وهو أحد المدافعين الأساسيين عن الموسيقى العريقة، حيث يوضح أن الموسيقى العريقة ليست معدة فقط للنخبة بل هي موسيقى تهم جمهورا من كل الأعمار. الصوفية وفن الجاز كما تألق المغني والملحن والعازف على آلة العود، التونسي ظافر يوسف وتوفق في شد انتباه الجمهور ليلة الجمعة الماضي، من خلال موسيقاه التي تولف بين الجاز والصوفية. ويبرع ظافر يوسف في فن تحويل التصوف إلى موسيقى، وتجسيد الخواطر التي يتفتق عنها خياله في مؤلفات موسيقية، ولعل ذلك ما يتجلى في ألبومه الأخير "ديوان الجمال والغرابة- 2016″، الذي جمع فيه بين الموسيقى العريقة والصوفية والتنويم الصوفي وفن الجاز المعاصر، مما جعله ينال إعجاب جمهور مهرجان الموسيقى العالمية العريقة. وتدعوك إبداعات هذا الموسيقي المغاربي أحيانا إلى التأمل والسلام النفسي والروحي، وفي أحيان أخرى إلى الابتعاد عن العالم الحسي والشعور بالنشوة، حيث تشكل قدراته الصوتية العالية عنصرا جوهريا يتيح بلوغ هذه الحالة النفسية الفريدة، مما جعل جمهور مدينة فاس يصفق، يوم أمس، بحرارة على إتقانه للأداء الصوتي، علما أنه ينحدر من أسرة عريقة من المؤذنين. وتشكل موسيقى ظافر يوسف التي تتسم بتميز التموجات الصوتية والرنين الصوتي، والممزوجة بإيقاع موسيقى الجاز الأمريكية، أرضية خصبة تمكنه من تجريب صوته في مستويات أعلى. وتعتبر موسيقى ظافر يوسف مرادفا للبحث والاكتشاف، والنتيجة هي مزيج متفرد بين آلة العود الوترية والإيقاعات الإلكترونية. فليس بوسع المستمع إلى هذا العازف الكبير سوى الإعجاب بالتوليف الرائع بين العود والقيثار، وآلة البيانو، والباس والكمان، مصحوبة بصوت قوي وشجي يشكل في حد ذاته آلة موسيقية سادسة. يشار إلى أن البرمجة الموسيقية للمهرجان تجمع هذه السنة بين أزيد من عشرين بلدا: من التضامن الدولي مع غوران بيرغوفيتش ورسائله إلى سراييفو، إلى النسيج الموسيقي المنظم من طرف الفنان العبقري جوردي سافال في عرضه "ابن بطوطة، رحالة الإسلام"، إلى غوسبيل دو سوفيتو من جنوب إفريقيا في"إلى قلب إفريقيا الصوفية"، مع مجموعة متندوني مولد زنجبار، ومجموعة مصر العليا وغناء الخضر الصوفي من السنغال، والبرمجة الموسيقية لشتات طائفة السيفراد إلى المعبد اليهودي "صلاة الفاسيين". وبالنظر إلى قيمة الفقرات الإبداعية التي دأب المهرجان على تقديمها منذ انطلاقه، يتجلى هذا الأخير كمدافع عن فن وثقافة خالصين، وكمنتدى تتوحد عنده ثقافات الشعوب، وباختصار شديد يمكن القول ان مهرجان فاس للموسيقى العالمية العريقة، الذي عقد دورته الأولى سنة 1994، وفي العام 2001 نال اعتراف الأممالمتحدة كواحد من أهم المهرجانات المساهمة في حوار الثقافات، تظاهرة ثقافية وفنية تنأى عن الإبهار الأجوف، وتنحو باتجاه مخاطبة الوجدان الإنساني، عبر الاحتفاء بالذوق المرهف، ووضع الأسئلة المحفزة على التأمل.