مرة أخرى، تختار بعض الآراء المعبر عنها في سياق السجال الدستوري والقانوني، المصاحب لمناقشة مشروع قانون المسطرة المدنية بالبرلمان، بعد المصادقة عليه بمجلس النواب، إصدار الأحكام المطلقة، الرامية إلى التشكيك في دستورية المشروع، وفق نفس المنهجية التي تقوم على تحريف المفاهيم، وتبخيس المبادرات، واستهداف كل المجهودات المبذولة، من أجل تسفيه عمل المؤسسات المخول لها دستوريا مناقشة مشاريع ومقترحات القوانين، والمصادقة عليها طبقا للقوانين الجاري بها العمل، وذلك من خلال تقديم قراءات شاردة للمقتضيات الدستورية والقانونية، في خروج واضح عن ما تنص عليه الوثيقة الدستورية، وما يقره القضاء الدستوري بهذا الخصوص، ومحاولة لممارسة نوع من الوصاية على إرادة ممثلي الأمة، وعلى صلاحياتهم الدستورية، خارج إطار كل معايير الفهم السليم لمعاني عدم الدستورية، وللمبادئ المتعارف عليها كونيا، من قبيل: مبدأ استقلال القضاء، ودستورية القوانين، والمساواة، والنظام العام، وعدم المشروعية، وحق الدفاع. وفي إطار التفاعل البناء مع هذا السجال، وتنويرا للرأي العام، لا بأس أن نتتبع ما حملته بعض الكتابات والآراء، في سياق سعيها المذكور، من مزاعم بهذا الخصوص، من أجل محاولة تقديم قراءة موضوعية هادئة، للمقتضيات الدستورية والقانونية المنظمة للمسطرة التشريعية، وذلك استنادا على ما استقر عليها القضاء الدستوري ، و ما قدمه الفقه من تفسيرات للمقتضيات الدستورية ذات الصلة، بعيدا عن التأويلات الشاذة، والإحالات الخاطئة على فصول الدستور، والمزايدات السياسوية والفئوية الضيقة، التي من شأنها تغليط الرأي العام، وتقديم تصورات بعيدة عن ما جاء به مشروع قانون المسطرة المدنية من مقتضيات قانونية هامة، من أجل تحقيق هدف أسمى، هو ضمان حماية حقوق المتقاضين على قدم المساواة، تجسيدا للإرادة الملكية المعبر عنها من طرف صاحب الجلالة الملك محمد السادس نصره الله في عدد من خطبه ورسائله السامية، لا سيما، خطابه التاريخي ل 20 غشت 2009، بمناسبة تخليد ذكرى ثورة الملك والشعب وعيد الشباب المجيد، في إطار توجيه الحكومة للشروع في تفعيل مشروع إصلاح القضاء في ستة مجالات ذات أسبقية، حيث دعا جلالته حفظه الله إلى "الرفع من النجاعة القضائية للتصدي لما يعانيه المتقاضون من هشاشة وتعقيد وبطء العدالة، وهذا ما يقتضي تبسيط وشفافية المساطر، والرفع من جودة الأحكام والخدمات القضائية، وتسهيل ولوج المتقاضين إلى المحاكم، وتسريع وتيرة معالجة الملفات، وتنفيذ الأحكام". وحتى نتمكن من التأسيس لنقاش جاد ومثمر، مبني على ما جاءت به النصوص الدستورية والقانونية ذات الصلة، وما استقر عليه القضاء الدستوري بهذا الخصوص، وما قدمه الفقه من شروحات في هذا الصدد، ارتأينا أن نخصص المحور الأول، لمناقشة الأسس الدستورية والقانونية المعتمدة للقول بخرق الحكومة للدستور، وبعدم مشروعية المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية، على أن نتوقف في المحور الثاني على مضمون المادة المذكورة، و ما تثيره من سجال حول الجهة المخول لها تحديد مفهوم النظام العام، ومدى إمكانية المس باستقلال قضاة الأحكام بمناسبة تطبيق هذه المادة، وغير ذلك من الادعاءات المردود عليها، وفق ما سنبينه أدناه. المحور الأول: حول خرق الحكومة للدستور، وعدم مشروعية المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية: إن الادعاء بخرق الحكومة للدستور كان يستوجب منهجيا الاستدلال بالنصوص الدستورية المؤيدة لذلك بشكل صحيح، وقراءتها قراءة سليمة، تستحضر ما نص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب، وما ذهبت إليه قرارات المحكمة الدستورية بهذا الخصوص، فضلا عما قدمه الفقه من تفسيرات للمقتضيات الدستورية المستشهد بها، حتى نتمكن من بناء نقاش صحي يكون هدفه الأول والأخير المساهمة المسؤولة في تجويد النصوص القانونية. وانطلاقا من كل هذه الاعتبارات، الدستورية، والقانونية، والقضائية، والفقهية، فقد ارتأينا بداية أن نعرض لمسار مسطرة المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب، من جهة، على أن نبرز، من جهة ثانية، مدى احترام هذه المسطرة لنصوص الدستور، وللمقتضيات القانونية التي جاء بها النظام الداخلي لمجلس النواب، ولقرارات القضاء الدستوري بهذا الخصوص. أولا: مسار مسطرة المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب من المهم بداية، التأكيد على أن مسطرة المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب، مرت وفق ما تنص عليه المادة 182 وما يليها من نظامه الداخلي، المنظمة لمسطرة إحالة مشاريع القوانين على اللجنة المعنية والتصويت عليها، حيث تم عقد جلسة التقديم، ثم جلسات المناقشة التفصيلية بلجنة العدل والتشريع وحقوق الانسان، وتحديد آجال تقديم التعديلات وتمديد هذه الآجال بطلبات من رؤساء الفرق، وأخيرا اجتماع اللجنة الذي خصص لدراسة المشروع والتصويت عليه، وكل ذلك في احترام تام للمسطرة التي تنص على تقديم كل تعديل على حدة، ثم التصويت على كل تعديل على حدة، وبعدها مادة مادة، تم على المشروع برمته، وهو ما تم احترامه طيلة مسار الدراسة والتصويت على المشروع باللجنة المعنية قبل إحالته على الجلسة العامة. وما تنبغي الإشارة إليه في هذا الإطار، هو أن لجنة العدل والتشريع وحقوق الإنسان، حين انتهت من المصادقة على المشروع، تمت المصادقة عليه بنفس ترتيب المواد كما وردت من الحكومة، باستثناء المادة 17 التي تم حذفها من طرف اللجنة، أي أن هذه الأخيرة لم تصادق على إعادة ترتيب مواد المشروع، بل صادقت عليه بالترتيب الذي ورد من الحكومة وأحيل على الجلسة العامة بنفس ترتيب المواد، باستثناء المادة 17 التي لم يعد لها أثر بعد الحذف. وخلال الجلسة العامة، تقدمت الفرق البرلمانية بعدد من التعديلات، وفق ما ينص عليه النظام الداخلي لمجلس النواب، كما تقدمت الحكومة وفق المادة 194 من النظام الداخلي – التي تعطيها حق تقديم التعديلات على المشروع- بتعديل جديد تحت اسم "المادة 17′′، تعديل جديد بصيغة جديدة، ولم يكن تعديلا على المادة 17 غير الموجودة أصلا، وبالتالي "لم يبقى لها أي وجود لا فعلي ولا قانوني"، كما قيل، عند خروج المشروع من اللجنة"، لذلك لم تقدم الحكومة تعديلا على المادة 17 "غير الموجودة أصلا"، بل قررت رفع تعديل جديد إلى الجلسة العامة تحت اسم "المادة 17" بشكل جديد وصيغة جديدة، استعمالا لحقها في تقديم تعديلات جديدة على المشروع بالجلسة العامة، لاسيما، أن اللجنة صادقت على المشروع بالترتيب الذي ورد به باستثناء المادة 17 المحذوفة أصلا، لذلك عوض أن تقوم الحكومة بتقديم تعديل جديد قد يحمل رقم المادة 16 مكرر، ارتأت عندما لاحظت وجود فراغ في حيز "المادة 17" تسميته، التعديل بالمادة 17 لوجود حيز ترتيبي يسمح لها بذلك ضمن المشروع المعروض على التصويت وهو ما قبله المجلس وصادق عليه بالأغلبية. من خلال ما تقدم، وبعد بسط المراحل الأساسية لمسطرة المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية بمجلس النواب المثبتة في وثائقه، من المهم، التساؤل، هل فعلا قامت الحكومة بخرق الدستور، وأين يتجلى هذا الخرق، ثم ما هي أوجه عدم مشروعية المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية؟ إن القول بخرق الحكومة للدستور، كان يقتضي أولا، الرجوع إلى الفصول الدستورية المنظمة للمسطرة التشريعية، والإحالة عليها بشكل صحيح، وقراءتها قراءة سليمة وعدم تحميل النص ما لا يحتمل، وذلك انطلاقا مما جاء في النظام الداخلي لمجلس النواب، وفي قرارات القضاء الدستوري وتفسيرات الفقه، وفق ما سنبينه أدناه. ثانيا: مسطرة المصادقة في ضوء الدستور والنظام الداخلي لمجلس النواب، وقرارات القضاء الدستوري. نصت الفقرة الأولى من الفصل 83 من الدستور على أنه، " لأعضاء مجلس البرلمان، وللحكومة حق التعديل. وللحكومة، بعد افتتاح المناقشة، أن تعارض في بحث كل تعديل لم يعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر". والملاحظ من خلال هذه المقتضيات أن المشرع الدستوري، وإن كان قد ساوى ما بين مجلس النواب والحكومة، في حق تقديم تعديلات جديدة على المشروع خلال الجلسة العامة، إلا أنه منح للحكومة مكنة إضافية تتمثل في حق معارضتها بعد افتتاح المناقشة، من خلال: " بحث كل تعديل لم يُعرض من قبل على اللجنة التي يعنيها الأمر"، ووفقا لهذا الحق الدستوري قامت الحكومة في احترام تام لمضمون هذا الفصل، بتقديم تعديل جديد يهم مادة جديدة بصياغة جديدة، سماها التعديل، "المادة 17′′، لكون المشروع الذي أحيل من اللجنة لايتوفر على المادة 17 التي حذفت، وبالتالي اقترحت الحكومة تسمية التعديل -الذي من حقها- خلال أشغال الجلسة العامة، بالمادة 17 عوض المادة 16 مكرر، وقبلها المجلس، وصوت عليها بالأغلبية باعتبارها مادة جديدة جاءت في تعديل جديد من الحكومة. وإذا كان النظام الداخلي لمجلس النواب، لم يقدم تعريفا للحق في التعديل الذي يمكن اللجوء إليه بشأن النصوص التشريعية المعروضة على نظر المجلس، ولم يحصر مضمونه ولا حدوده، ولا مداه، فإن القضاء الدستوري أكد على أن هذا الحق يضم كل الصيغ التي يمكن أن تدخل بها تغييرات على النص المعروض للمناقشة والتداول، وهذا التوجه، أكده المجلس الدستوري في قراره الصادر برقم 13/931، وتاريخ 10 دجنبر 2013، الذي أورد فيه أن حق التعديل، "...يشمل التنقيح والتغيير والتصحيح والحذف والإضافة..."، مضيفا في نفس القرار، أنه "...حق لا يجوز الحد من استعماله إلا إعمالا للقيود التي يتضمنها الدستور". إن قرار المجلس الدستوري المذكور، كان حاسما في تأكيد حق الحكومة في تقديم كل التعديلات التي تراها، رغم عدم ورودها ضمن مقتضيات مشروع القانون التعديلي المعروض على المناقشة، وهذا الحسم يعتبر تنزيلا لروح وفلسفة الدستور، بالنظر إلى أنه ليس هناك أي مقتضى دستوري أو قانوني منصوص عليه في النظام الداخلي لمجلس النواب يقيد من ممارسة حق الحكومة في طلب التعديل. وتأكيدا لنفس التوجه، فقد اعتبر المجلس الدستوري في قراره الصادر بعدد 606/05 م.د وتاريخ 21 مارس 2005، أن اللجان الدائمة تعد أداة لتحضير العمل التشريعي، وتزويد البرلمان بالمعطيات الضرورية لذلك، ذلك أن أعمال اللجنة تظل مجرد أعمال تحضيرية وتمهيدية، ولا تنصرف إليها رقابة القضاء الدستوري عند البت في مدى مطابقة القانون للدستور، إذ أن هذه الرقابة تنصرف لأعمال الجلسات العامة، التي هي مصدر التشريع النهائي بالتغييرات والتعديلات والتتميمات التي تدخلها على مشاريع القوانين، مهما كان النقاش في اللجان المعنية، فالكلمة النهائية للجلسات العامة بمشاركة كافة السيدات والسادة البرلمانيين ممثلي الأمة الذين يصوتون نياب عنها، وبالتالي فإن مراقبة المحكمة الدستورية على مشروع قانون المسطرة المدنية وغيره من القوانين، تكون على أشغال الجلسات العامة المتبثة في المحاضر. وقد سبق للقضاء الدستوري في قراره رقم 20/106، أن أكد بخصوص اعتماد محاضر الجلسات العامة أنه، "يستفاد من أحكام الدستور، ومن مقتضيات النظام الداخلي المتخذة تطبيقا لها، أنه لا يعتد، في إطار مراقبة دستورية الإجراءات المتبعة لإقرار قانون، إلا بالمحاضر " محاضر الجلسات العامة"، ولم تقف المحكمة الدستورية عند هذا الحد، بل أكدت أن المحاضر المعتمدة للجلسات العامة هي المحاضر، "المعدة من قبل من خولت لهم هذه الصلاحية، أي أمناء المجلس، أمين مجلس النواب، والمتضمنة للمناقشات برمتها ولمجموع العناصر الوقائعية والقانونية التي تمكن المحكمة الدستورية من البت في صحة الإجراءات المتبعة لإقرار القوانين المعروضة عليها". وبناء على كل ما تقدم، يتضح على خلاف الادعاءات بخرق الدستور، أن الحكومة حرصت طيلة مسار مسطرة المصادقة على مشروع قانون المسطرة المدنية، على احترام نصوص الدستور، و على التقيد بمقتضيات الفقرة الأولى من المادة 194 النظام الداخلي لمجلس النواب، التي أكدت المحكمة الدستورية بمناسبة البت في مدى مطابقته للدستور، في قرارها رقم 17/37، أن الفقرتان الأولى والثانية مطابقتان للدستور مع ملاحظة تتعلق بالفقرة الأخيرة من هذه المادة، والتي لا تهم حق الحكومة في تقديم التعديلات، حيث اعتبرت المحكمة الدستورية أن ما نصت عليه الفقرة الأخيرة من هذه المادة من أنه، "لا تقبل إلا التعديلات المعبر عنها كتابة والمقدمة من لدن صاحبها، أو ممثل واحد نيابة عن أصحابها على الأقل، حسب الحالة، والمودعة لدى رئيس مجلس النواب خلال أجل لا يتجاوز 48 ساعة، قبل انعقاد الجلسة العامة المخصصة لمناقشة النص المعني بهذه التعديلات والتصويت عليه" ليس فيها ما يخالف الدستور، مع مراعاة إخبار الحكومة بهذه التعديلات". المحور الثاني: النقاش المثار بخصوص مضمون المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية. كان ينبغي قبل القول بخرق المادة 17 للمقتضيات الدستورية، ألا تتم قراءة هذه المادة بمعزل عن الفصل 110 من الدستور، الذي ينص على أنه " لا يلزم قضاة الأحكام إلا بتطبيق القانون. ولا تصدر أحكام القضاء إلا على أساس التطبيق العادل للقانون"، كما أنه كان يتعين إبراز المقتضيات القانونية المخالفة للدستور، التي قد تمس باستقلال قضاة الأحكام، وتحول دون تمكينهم من تطبيق القانون، وصدور أحكامهم على أساس التطبيق العادل للقانون، عند تطبيق المادة المذكورة، وهو الأمر الذي لم يتحقق، وبالتالي فإن ما يثيره البعض بخصوص ما جاءت به هذه المادة، حول المقتضيات التي تسمح للنيابة العامة بتقديم طلب بطلان كل مقرر قضائي يكون من شأنه مخالفة النظام العام، وتلك التي تنص على إمكانية الطعن أمام المحكمة المصدرة للقرار، في حالة ثبوت خطأ قضائي، أضر بحقوق أحد الأطراف ضررا فادحا، يستلزم بسط الملاحظات التالية: الملاحظة الأولى: على خلاف ما جاء في بعض الادعاءات، فإن مضمون الفقرة الأولى من المادة المذكورة لا تمنح أية سلطة للنيابة العامة على القضاء عند بته في الطلب، لتقدير مدى مخالفة المقرر القضائي الصادر للنظام العام من عدمه، إذ أن هذا الأمر، موكول للقضاء وحده، وهو الجهة الوحيدة المخول لها طبقا لمقتضيات المادة المذكورة، القول ما إن كان المقرر القضائي مخالفا للنظام العام أم غير مخالف له، وليس في الفقرة الأولى من المادة المذكورة، ما يلزم القضاء بالبت في طلب النيابة العامة على نحو معين. الملاحظة الثانية: إن القراءة المتأنية للمادة 17 من مشروع القانون، تبين أن الطعن التي نصت عليها الفقرة الثانية من نفس المادة، جاء بهدف تعزيز حماية حقوق المتقاضين مما قد يلحقهم من أضرار فادحة نتيجة أخطاء قضائية جسيمة، وهي مكنة قانونية، لا يمكن أن تستعمل إلا في بعض الحالات النادرة التي ستسمح للقضاء بإعادة النظر في الأخطاء الجسيمة التي تلحق أضرارا فادحة بأحد الأطراف، وذلك من أجل رفع تلك الأضرار، وهنا وجب التذكير مرة أخرى، أن المحكمة غير ملزمة دستوريا بالبت في هذه الطعن إلا طبقا للقانون، وليس بالمادة المذكورة ما يلزمها بالاستجابة للطعن المذكور، ومخالفة الفصل 110 من الدستور. الملاحظة الثالثة: إن الادعاء بأن المحكمة ستكون ملزمة بالبت وفق الطلبات المرفوعة إليها في إطار المادة 17 من مشروع قانون المسطرة المدنية، يشكل تشكيكا غير مبرر في استقلال القضاء المقرر دستوريا، وهو بدون شك حكم مسبق لا سند له في القانون ولا في الدستور. الملاحظة الرابعة: قبل إبداء هذه الملاحظة من المهم التذكير بالفصل 382 من قانون المسطرة المدنية الذي نص على أنه: " يمكن لوزير العدل أن يأمر الوكيل العام للملك لدى محكمة النقض بأن يحيل على هذه المحكمة بقصد إلغاء الأحكام التي قد يتجاوز فيها القضاة سلطاتهم. يقع إدخال الأطراف في الدعوى من طرف الوكيل العام للملك الذي يحدد لهم أجلا لتقديم مذكراتهم دون أن يكونوا ملزمين بالاستعانة بمحام. تقوم الغرفة المعروضة عليها القضية بإبطال هذه الأحكام إن اقتضى الحال ويجري الابطال على الجميع". الملاحظ أنه على الرغم من أن الفصل المذكور، يتضمن مقتضيات أكثر عمومية، فإن اللجوء إلى تفعيله كان نادرا ولم يكن يطرح أي إشكال قانوني أو واقعي، على خلاف المادة 17 التي حددت بتدقيق حالات الطعن، وطلبات التصريح بالبطلان، الأمر الذي يثير التساؤل حول الأسباب الحقيقية وراء إثارة السجال بخصوص هذه المادة رغم دقتها وفق ما بيناه أعلاه. وعلاوة على ما تقدم، فإن الادعاء بخرق الدستور، كان يتطلب إيراد أمثلة جادة على مصادرة مشروع قانون المسطرة المدنية للحقوق والحريات المنصوص عليها في الدستور، لإبراز الجوانب التي تجاوز فيها مجلس النواب سلطته التقديرية، المسلم بها في فقه القانون العام، والتي تستند، من جهة، على طبيعة وظيفة السلطة التشريعية، التي تتطلب مساحة من حرية التقدير التي تمكنها من مواجهة ما يعرض عليها من أمور وقضايا، تحتاج إلى تدخلها. كما تستند، من جهة ثانية، على طبيعة حركة الحياة التي تتطور بصفة دائمة، وتفرض إقرار قواعد قانونية لمواكبة كل التطورات، ومواجهة الإشكالات الواقعية، التي تستوجب تدخل المشرع بوصفه صاحب الاختصاص الأصيل في التشريع، دون المس بالحقوق والحريات الأساسية المضمونة دستوريا، وبالتالي، لا بد من الاعتراف له بجانب من حرية التقدير، والتي تعرف بالسلطة التقديرية للمشرع. إن إغفال كل المكتسبات التي جاء بها المشروع من أجل ضمان الولوج الفعال والمنصف للعدالة، وتجاوز كل الصعوبات القانونية والواقعية التي تحول دون بت القضاء في الدعاوى المدنية داخل أجل معقول، وتقديم حلول ناجعة لتسريع وثيرة تنفيذ الأحكام الصادرة عنها، واستيفاء حقوق المتقاضين بكيفية سريعة، وتوظيف التقدم الذي تشهده بلادنا في المجال الرقمي، واستعمال كل التطبيقات التي تساعد على تبسيط الإجراءات القانونية في جميع مراحل الدعوى وتيسير سبل التقاضي، لا يمكنه بأي حال، أن يحجب أهمية هذه المكتسبات، كما لا يمكنه تبخيس كل الجهود المبذولة حتى تكون مقتضيات هذا المشروع مطابقة للدستور، وملاءمة للمعايير الدولية للعدالة، ولمبادئ حقوق الانسان عموما. وفي الأخير من المهم طرح بعض التساؤلات، وترك الحكم، للرأي العام، ولكل مراقب معقول لا تحكمه الحسابات السياسوية أو الفئوية الضيقة: لماذا يتم تجاهل هذه المبادرة التشريعية التاريخية الهامة لإقرار قانوني مدني إجرائي جديد بعد عقود من الجمود؟ ثم لماذا يتم إغفال كل مواد مشروع قانون المسطرة المدنية البالغ عدده 644، والتركيز على مناقشة بعض المواد التي لا يتجاوز عددها أصابع اليدين، للقول عن غير معرفة، بمخالفة المشروع للدستور، في ضرب صارخ لكل معايير النقد البناء؟ وفي الختام، ألم يكن جديرا، بكل غيور على هذا الوطن دعم هذه المبادرة التشريعية الهامة، أولا، وتقديم وجهة نظره بشكل علمي رصين، في إطار الترافع الفكري والقانوني البناء، الذي من شأنه أن يشكل قوة اقتراحية جدية، لتفادي كل القصور الذي يمكن أن يعتري النص القانوني، ويسهم في تجويده وتحقيق غاياته النبيلة المتمثلة في ضمان حماية حقوق المتقاضين، بعيدا عن الشعارات التي لا تقدم أي قيمة إضافية، لا سيما أن مسطرة المصادقة، لم تستنفذ جميع مراحلها بعد المصادقة على المشروع من طرف مجلس النواب.