لقاء يجمع وهبي بجمعية هيئات المحامين    نهاية أزمة طلبة الطب والصيدلة: اتفاق شامل يلبي مطالب الطلبة ويعيدهم إلى الدراسة    الحكومة: سيتم العمل على تكوين 20 ألف مستفيد في مجال الرقمنة بحلول 2026    أسعار الغذاء العالمية ترتفع لأعلى مستوى في 18 شهرا    هولندا.. إيقاف 62 شخصا للاشتباه في ارتباطهم بشغب أحداث أمستردام    التصفيات المؤهلة لكأس إفريقيا لكرة السلة 2025.. المنتخب المغربي يدخل معسكرا تحضيريا ابتداء من 11 نونبر الجاري بالرباط    الطفرة الصناعية في طنجة تجلعها ثاني أكبر مدينة في المغرب من حيث السكان    دوري الأمم الأوروبية.. دي لا فوينتي يكشف عن قائمة المنتخب الإسباني لكرة القدم    امستردام .. مواجهات عنيفة بين إسرائيليين ومؤيدين لفلسطين (فيديو)    من مراكش.. انطلاق أشغال الدورة الثانية والعشرين للمؤتمر العالمي حول تقنية المساعدة الطبية على الإنجاب    الحجوي: ارتفاع التمويلات الأجنبية للجمعيات بقيمة 800 مليون درهم في 2024    هذه الحصيلة الإجمالية لضحايا فيضانات إسبانيا ضمن أفراد الجالية المغربية    المغرب يشرع في استيراد آلاف الأطنان من زيت الزيتون البرازيلي    ظاهرة "السليت والعْصِير" أمام المدارس والكلام الساقط.. تترجم حال واقع التعليم بالمغرب! (فيديو)    بيع أول لوحة فنية من توقيع روبوت بأكثر من مليون دولار في مزاد    "إل جي" تطلق متجرا إلكترونيا في المغرب    الأمانة العامة للحكومة تطلق ورش تحيين ومراجعة النصوص التشريعية والتنظيمية وتُعد دليلا للمساطر    توقعات أحوال الطقس ليوم غد السبت    كوشنر صهر ترامب يستبعد الانضمام لإدارته الجديدة    بورصة البيضاء تستهل التداول بأداء إيجابي    بعد 11 شهرا من الاحتقان.. مؤسسة الوسيط تعلن نهاية أزمة طلبة كلية الطب والصيدلة    هزة أرضية خفيفة نواحي إقليم الحوز    "أيا" تطلق مصنع كبير لمعالجة 2000 طن من الفضة يوميا في زكوندر        نقطة واحدة تشعل الصراع بين اتحاد يعقوب المنصور وشباب بن جرير    الهوية المغربية تناقَش بالشارقة .. روافدُ وصداماتٌ وحاجة إلى "التسامي بالجذور"    مصدر من داخل المنتخب يكشف الأسباب الحقيقية وراء استبعاد زياش    بحضور زياش.. غلطة سراي يلحق الهزيمة الأولى بتوتنهام والنصيري يزور شباك ألكمار    الجولة ال10 من البطولة الاحترافية تنطلق اليوم الجمعة بإجراء مبارتين    طواف الشمال يجوب أقاليم جهة طنجة بمشاركة نخبة من المتسابقين المغاربة والأجانب    الجنسية المغربية للبطلان إسماعيل وإسلام نورديف    مجلة إسبانية: 49 عاما من التقدم والتنمية في الصحراء المغربية    متوسط عدد أفراد الأسرة المغربية ينخفض إلى 3,9 و7 مدن تضم 37.8% من السكان    رضوان الحسيني: المغرب بلد رائد في مجال مكافحة العنف ضد الأطفال    ارتفاع أسعار الذهب عقب خفض مجلس الاحتياطي الفدرالي لأسعار الفائدة    كيف ضاع الحلم يا شعوب المغرب الكبير!؟    تحليل اقتصادي: نقص الشفافية وتأخر القرارات وتعقيد الإجراءات البيروقراطية تُضعف التجارة في المغرب        تقييد المبادلات التجارية بين البلدين.. الجزائر تنفي وفرنسا لا علم لها    إدوارد سعيد: فلاسفة فرنسيون والصراع في الشرق الأوسط    طوفان الأقصى ومأزق العمل السياسي..    حظر ذ بح إناث الماشية يثير الجدل بين مهنيي اللحوم الحمراء    المنصوري: وزراء الPPS سيروا قطاع الإسكان 9 سنوات ولم يشتغلوا والآن يعطون الدروس عن الصفيح    طلبة الطب يضعون حدا لإضرابهم بتوقيع اتفاق مع الحكومة إثر تصويت ثاني لصالح العودة للدراسة    خمسة جرحى من قوات اليونيفيل في غارة إسرائيلية على مدينة جنوب لبنان    إسبانيا تمنع رسو سفن محملة بأسلحة لإسرائيل في موانئها    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    جرافات الهدم تطال مقابر أسرة محمد علي باشا في مصر القديمة    "المعجم التاريخي للغة العربية" .. مشروع حضاري يثمرُ 127 مجلّدا بالشارقة    قد يستخدم في سرقة الأموال!.. تحذير مقلق يخص "شات جي بي تي"    الأمازيغية تبصم في مهرجان السينما والهجرة ب"إيقاعات تمازغا" و"بوقساس بوتفوناست"    الرباط تستضيف أول ورشة إقليمية حول الرعاية التلطيفية للأطفال    وزارة الصحة المغربية تطلق الحملة الوطنية للتلقيح ضد الأنفلونزا الموسمية    خبراء أمراض الدم المناعية يبرزون أعراض نقص الحديد    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    برنامج الأمم المتحدة المشترك المعني بالسيدا يعلن تعيين الفنانة "أوم" سفيرة وطنية للنوايا الحسنة    كيفية صلاة الشفع والوتر .. حكمها وفضلها وعدد ركعاتها    مختارات من ديوان «أوتار البصيرة»    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



القضاء الدستوري.. من التأصيل المفاهيمي إلى السياق الكرونولوجي وصولًا إلى التنزيل الإجرائي دراسة مقارنة
نشر في كاب 24 تيفي يوم 22 - 03 - 2021

بالحديث عن « القضاء الدستوري » في سياقَيْه التأصيلي مفاهيمياً من جهة و العلمي الإجرائي من جهة ثانية، نجد أنفسنا أولاً أمام إلزامية تحديد الدلالة والمعنى، خاصة الاصطلاحية منها، حيث يحتمل اصطلاح القضاء الدستوري معنيين : أولهما – عضوي شكلي ، والآخر – موضوعي. فمن الناحية العضوية أو الشكلية : يقصد بالقضاء الدستوري المحكمة أو المحاكم التي خصَّها الدستور – داخل التنظيم القضائي في الدولة – من دون غيرها برقابة دستورية التشريع (قضاء دستوري متخصص) . ومن الناحية الموضوعية : يعني القضاء الدستوري الفصل في المسائل الدستورية ، وهي المسائل التي تُثير فكرة تطابق التشريع مع الدستور، وبهذا المعنى ينصرف الاصطلاح إلى القضاء في هذه المسائل سواء أُصدر من محكمة دستورية متخصصة أم من محكمة أخرى من المحاكم العادية أو الإدارية أو غيرها ، وذلك طالما تعلق هذا القضاء بالفصل في مسألة دستورية (قضاء دستوري غير متخصص) . وبهذا فإن المعنى الموضوعي لاصطلاح (القضاء الدستوري) أوسع نطاقا من معناه العضوي أو الشكلي ، إذ أنه وفقاً لهذا المعنى الأخير فإن « القضاء الدستوري » لا يوجد إلا مع وجود المحاكم الدستورية المتخصصة، في حين أن القضاء الدستوري وفقاً للمعنى الموضوعي لا يرتبط في وجوده بمثل هذه المحاكم الدستورية ، إنما هو قائم مع الفصل القضائي في المسائل الدستورية ، بصرف النظر عن الجهة القضائية التي يصدر عنها هذا القضاء .
إنَّ رقابة القضاء الدستوري هي رقابة قانونية تقوم على أساس تدخل جهاز قضائي لإصدار حكم بمدى توافق أو عدم توافق تشريع ما مع أحكام الدستور، وبهذا المنطق فإن عملية الرقابة على الدستورية تدخل بصورة طبيعية في اختصاص القضاء ، فما وظيفة القاضي إلا تطبيق القوانين على ما يُعرض أمامه من منازعات ، وما الحكم في دستورية القانون من عدمه إلا منازعة يختص القضاء ببحثها وهو يفصل فيها وفقاً لمبدأ تدرج القواعد القانونية، بمعنى أنه إذا وجد أن النص التشريعي الذي يحتج به يتعارض مع قاعدة أعلى منه في الدستور ، فإنه مُلزم بإنزال حكم الدستور واستبعاد تطبيق القاعدة المخالِفة ، فهذا هو ما يمليه منطق العدالة والمشروعية. وتمتاز رقابة القضاء الدستوري بكل ما يمتاز به الجهاز القضائي من حياد وبُعد عن التيارات السياسية وأهواء الأحزاب ، كما أنها تمتاز بوجود قاضٍ متخصص في تطبيق القوانين وله تكوينه القانوني السليم والعميق والتجربة المهنية المطلوبة، وهو أمر لازم لمباشرة هذه المهمة ، فالرقابة على دستورية التشريع مهمة ذات طابع فقهي قانوني متميز ينبغي أن يتوافر في من يتولاها معرفة ودراية بالدستور وهي أمور قانونية بحتة، بالإضافة إلى ما يقدمه النظام القضائي من ضمانات للمتقاضين تتمثل، في الإجراءات القضائية المتبعة مثل علانية الجلسات وحرية الدفاع وإلزام القاضي بتسبيب أحكامه بما يحمي المصالح المختلفة في النزاع المنظور، فضلاً عمَّا يؤكده مبدأ الفصل بين السلطات في شأن استقلال القضاء ، وحصانة القضاة ، وما هو مقرر لهم من ضمانات تُبعد عنهم تدخل السلطات الأخرى ومحاولة تأثيرها على أحكامهم ، وعدم إلزامهم بقبول ما تصدره من قوانين وقرارات تخالف الدستور وتخرج على مقتضاه. فالدستور حين يُحدِّدُ نطاق اختصاص السلطات العمومية (السلطتين التنفيذية والتشريعية)، فإن على تلك السلطات الالتزام بهذه الحدود ، فإذا حدث مثلا وأن تجاوزت المؤسسة التشريعية حدودها فإن السلطة القضائية تعد قيداً دستورياً عليها يقف في وجهها، ويترتب على ذلك أنه إذا ما أصدرت الهيئة التشريعية قانوناً متجاوزةً به سلطتها أو لا يسمح به الدستور، فإنه يُعَدُّ قانوناً باطلاً ، وعلى القضاة المستقلين الذين كَفَل الدستور حيادهم ونزاهتهم أن يعلنوا هذا البطلان ، وهذا البطلان يُعَدُّ نتيجة حتمية لفكرة الدستور الجامد الذي لا يمكن تعديله بواسطة القوانين العادية ، فالقوانين الصادرة عن السلطة التشريعية والتي تخالف قواعد الدستور الجامد تعد قوانين باطلة ، من دون حاجة إلى تقرير ذلك البطلان صراحة في صلب الدستور.
نشأة الرقابة القضائية دستوريًا وانتشارها في بعض الأنظمة الدستورية المعاصرة .
بدأت البذور الأولى لهذه الرقابة في محاكم بعض الولايات الأمريكية قبل نشأة الاتحاد الأمريكي – " محكمة ولاية New Jersy سنة 1780 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بتشكيل هيئة المحلفين من ستة أعضاء لمحاكمة جرائم معينة مخالفاً بذلك ما استقَرَّ عليه العُرف الدستوري من تكوين هيئة المحلفين من إثني عشر عضواً ، ثم محكمة ولاية Rhode Island سنة 1786 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون صدر بجعل النقود الورقية عملة إلزامية لمخالفته لدستور الولاية ، ثم محكمة ولاية North Carolina سنة 1787 ، حيث قضت بعدم دستورية قانون « اعترف بملكية العقارات المشتراة من بين ما صودر من أموال خصوم الثورة « . إلاَّ أن شعوب هذه الولايات وبرلماناتها لم تتقبل هذه الأحكام التي أصدرها قُضاتها بعدم دستورية بعض قوانين هذه الولايات ، وحدثت بها ردود فعل عنيفة ضد هذه الأحكام، الأمر الذي نتج عنه خوف هذه المحاكم من خوض غمار التجربة مرة ثانية، إلاَّ أنَّ نشأة الدولة الاتحادية الأمريكية وقيامها على أساس اتحادي ، وما ترتب عليه من كتابة الدستور الاتحادي الجامد وتعلُّق شعب الاتحاد بالدستور، كل ذلك قد ساعد المحكمة الاتحادية الأمريكية على إعادة المحاولة لاسيما وأن بعض نصوص الدستور الاتحادي توحي بحق القضاء في ممارسة الرقابة على دستورية القوانين، ومن ذلك نص الفقرة الثانية من المادة السادسة التي تقول " إن هذا الدستور وقوانين الولايات المتحدة الصادرة وفقاً له، وكل المعاهدات المعقودة أو التي ستعقد في ظل سلطة الولايات المتحدة ، ستكون هي القانون الأساسي، والقضاة في كل الولايات يتقيدون بذلك ، بصرف النظر عن أي حكم مخالف في دستور الولايات أو قوانينها " . وكذلك نصُّ الفقرة الثانية من المادة الثالثة الواردة في بيان الاختصاص القضائي، التي تقول " إنَّ الوظيفة القضائية تمتد إلى كل القضايا المتعلقة بالقانون أو العدالة ، التي تُثار في ظل هذا الدستور ". وكان حكمها الصادر في قضية Marbory v. Madison الصادر عام 1803 بداية الطريق الذي استطاعت المحكمة الاتحادية العليا أن تُحدد فيه أساس هذا الحق ومداه ، إذ أوضحت أن وظيفة القاضي هي تطبيق القانون وعند تعارض القوانين فإن وظيفة القاضي توجب عليه تحديد القانون واجب التطبيق، بحيث إذا ما تعارض تطبيق القانون العادي مع نص دستوري تعَيَّنَ تغليب النص الدستوري ، والامتناع عن تطبيق القانون العادي لأن الدستور هو القانون الأساسي المنظم للسلطات الثلاث في الدولة مما يحتم على هذه السلطات التزام حدود اختصاصها حسبما رسمها الدستور، الذي يُعَد تعبيراً عن إرادة الأمة صاحبة السيادة العليا، والقاضي عندما يقوم بذلك لا يمارس أكثر من مهمته العادية في ترجيح القواعد القانونية الواجبة التطبيق ، لذلك فقد ذكرت المحكمة الاتحادية العليا في حكمها : أن القانون الصادر من البرلمان خلافا لأحكام الدستور يعد باطلا لا أثر له ، وبالتالي يجب الامتناع عن تطبيقه. وقد استمرت المحكمة الاتحادية العليا وسائر المحاكم الأمريكية في تأكيد مبدأ الرقابة الدستورية، وساعدها في ذلك تطور الظروف السياسية والاقتصادية والاجتماعية تطوراً كبيراً منذ القرن التاسع عشر . واستطاعت المحكمة الاتحادية العليا من خلال التوسع في مفهوم الرقابة على دستورية القوانين، أن تؤدي دوراً أساسياً وخطيراً خلال مراحل التاريخ الأمريكي المختلفة ، وأن تسهم بقسط كبير في تكوين القيم السياسية والاقتصادية التي يقوم عليها المجتمع الأمريكي. وإذا كانت الولايات المتحدة الأمريكية تُعَدُّ أول دولة أخذت بفكرة الرقابة القضائية على دستورية القوانين ، فإن هذه الفكرة قد انتقلت بعد ذلك إلى كثير من الدول ، فأخذت بها محاكم بعض الدول على الرغم من عدم وجود نص يعطيها هذا الحق ، ومن ذلك محكمة النرويح العليا سنة 1890 ، ومحكمة كريستيانا العليا سنة 1893 ، ومحكمة أربوباج اليونانية سنة 1904 ، ومحكمة النقض الرومانية سنة 1912، كما نصَّت بعض الدول على هذه الرقابة صراحة في دساتيرها، ومن ذلك الدستور السويسري الصادر سنة 1874 ، ودستور النمسا الصادر سنة 1920 ، ودستور رومانيا الصادر في سنة 1923 ، والقانون الأساسي العراقي الصادر سنة 1925 ، ودستور المملكة المغربية الصادر سنة 1962 ودستور جمهورية مصر العربية الصادر سنة 1971 ، ودستور مملكة البحرين الصادر سنة 2002.
باب ما جاء في حُجية القرارات الدستورية وأثرها
تعتبر « حجية القرارات الدستورية » الركن الأساس والمرجعي على مستوى التنزيل العملي والإجرائي لمفهوم وآلية « الرقابة الدستورية »، إذ لا تأويل دستوري ولا منازعة دستورية إلاَّ بحجة ودليل قاطع الدلالة والمعنى .
إلى ذلك يَعتبر الفقيه كيلسن أن كل نظام معياري عادة ما يصل إلى نقطة لا يستطيع تجاوزها ،لأنها بمثابة الحافة الخارجية للنظام وعليه فإن سلطة البرلمان يجب أن تعتمد معيارا أعلى يعطي للقواعد القانونية الصادرة عنها شرعية أكبر، ذلك أن تراتبية القوانين وخضوع أدناها لأعلاها درجة يمنح للدستور مكانته اللائقة بين باقي النصوص القانونية ويبوئه صدارة هذه التراتبية ويسمو به عنها.
غير أن ضمان هذا السمو واحترام القوانين الأدنى لمنطوق وروح الدستور يستوجب وضع رقابة على ذلك، وإلاَّ فإن التمييز بين القواعد الدستورية وباقي القواعد القانونية سينعدم ويصبح غير ذي جدوى، وهو ما يستدعي خلق هيئة خاصة بمراقبة دستورية القوانين. وتختلف طبيعة الهيئة المختصة بمراقبة دستورية القوانين باختلاف الأنظمة السياسية بين رقابة دستورية قضائية وأخرى سياسية، هذا الاختلاف ليس مجرد تباين شكلي في نوع الرقابة بقدر ما هو تعبير عن توجه فقهي ودستوري عميق بين من يرون أن السماح بإصدار القوانين المخالفة للدستور وحصر إحالة القوانين على أشخاص محددين وعدم إمكانية التصدي للتفسيرات الخاطئة للدستور، لا يُمَكِّن من القيام برقابة دستورية حقيقية وهو ما يعيب الرقابة السياسية، غير أن تغول القضاء على السلطتين التشريعية والتنفيذية وتبعية قضاة المحكمة الدستورية للقوى السياسية كنتيجة طبيعية لطريقة اكتساب العضوية وكذا تأرجُح الأحكام، جعل من الرقابة القضائية معيبة هي الأخرى.
وإذا كانت التجربة الدستورية المغربية في مجال الرقابة على دستورية القوانين قد أخذت بالرقابة السياسية من خلال الغرفة الدستورية والمجلس الدستوري لاحقا، فإن الدستور الجديد للمملكة جاء بصيغة جديدة كليا تمثلت في إحداث المحكمة الدستورية ، ولأنَّ القرارات الدستورية بحكم طبيعتها تعتبر أحكاما قضائية إن لم تكن أعلى منها درجة، فإنها بذلك تحوز حُجية الشيء المقضي به، تلك الحُجية التي يراها البعض نسبية وفي حدود ما هو معروض على الهيئة المختصة، ويراها جانب آخر من الفقه أنها مطلقة تصدر في مواجهة الكافة، في حين يرى جانب ثالث أن الحجية من أصلها مشكوك فيها. ويُقصد بالحُجية هنا تلك القوة التي يكتسبها القرار باعتباره حكما نهائيا نافذا بقوة القانون والتي تجعله غير قابل للطعن وتفرض على السلطات العمل على تنفيذه، كما أن الفقه الدستوري يختلف حول الأثر المفترض للقرارات والأحكام الدستورية أن تحدثه تبعا لنوع الرقابة وكذا موضوع القرار.وإذا كانت صيغة الرقابة على دستورية القوانين تختلف من نظام دستوري الى آخر بين من يأخذ بالرقابة السياسية وأخرى قضائية، فإن ذلك ينتج عنه ضمنيا فارق من حيث حجية قرارات كل هيئة على حدة، وكذا من حيث الأثر الذي يخلفه القرار موضوع الدراسة.
1. حجية وأثرالقرارات الدستورية في القانون المقارن
تختلف حجية وأثر القرارات الدستورية بفرنسا عن نظيرتها بكل من الولايات المتحدة الأمريكية والمغرب ومصر، إلا أن ذلك لا يعني عدم وجود أوجه للتشابه بينها.1.1.حجية قرارات المجلس الدستوري الفرنسي وأثرها
تنص المادة الثانية والستون من الدستور الفرنسي لسنة 1958 على أن « النص الذي يعلن عدم دستوريته لا يجوز إصداره أو تطبيقه وقرارات المجلس الدستوري لا تقبل الطعن بأي طريقة من طرق الطعن و ملزِمة للسلطات العامة ولكل السلطات الإدارية والقضائية ». ويُستشَف من نص المادة الثانية والستون أن قرارات المجلس الدستوري الفرنسي تحوي حُجية مطلقة ولا تقبل الطعن تحت أي ظرف ويُحتَجُّ بها أمام كل الجهات القضائية والإدارية والتي لا يمكن أن تخالف مضمون هذه القرارات. ونظرا للطبيعة القبلية للرقابة الدستورية الفرنسية فهي تتسم بالاستباقية والوقائية ما يسمح بمنع صدور أو تطبيق كل نص يخالف الدستور، كونها (الرقابة) تمارَس قبل إعطاء الأمر بإصدار القوانين أو تنفيذها رغم أن الإحالة لا تمارَس إلا من طرف من يخولهم الدستور هذا الحق وبصيغة اختيارية. وبالعودة إلى نص المادة 62 من الدستور الفرنسي فإن القرارات الدستورية التي تكتسب حجية الشيء المقضي به هي تلك الأحكام التي تصرح بدستورية أو عدم دستورية قانون ما، أي تلك الأحكام التي تكون قد تطرقت للموضوع، دون باقي القرارات والأحكام التي تقتصر على رفض الدعوى لانعدام الصفة أو تجاوز الأجل إلى غيرها من المخالفات الشكلية.. فانقضاء الخصومة في الدعوى الدستورية بغير الحكم في موضوعها يخرج إذا من مجال حجية الشيء المحكوم به في الدعوى الدستورية، لأن هذه الحجية لم تتقرر إلا للأحكام التي فصلت في موضوع الدعاوى الدستورية. ويرى جانب من الفقه أن المادة 62 وهي تتحدث عن حجية قرارات المجلس الدستوري الفرنسي فهي تقصد الحكم في منطوقه دونما حيثياته، ما يجعل الحجية قاصرة على المنطوق دون أن تكون لحيثيات القرار أية حجية، ويرتكز هذا الجانب من الفقه على كون تنفيذ القرارات يلتزم بمنطوق الحكم دون الخوض في الحيثيات. غير أن هذا الرأي مردود عليه فأساس أي حكم أو قرار يكتسي قوة الشيء المقضي به إنما يُستمد من الحيثيات التي يستند عليها، فمنطوق الحكم ليس سوى نتيجة لذلك الأساس الذي بُنيت عليه ولا يمكن فصلها عن القرار لأنها سنده، وبالتالي هي من تُكسبه قوته الإلزامية وبالتالي حُجيته، كما أن التعديلات التي يقترحها المجلس وهو يتطرق إلى دستورية فصول نص قانوني ما، تكون حاسمة لموافقة المجلس على قبول موافقة النص للدستور وبدون إجراء هذه التعديلات من طرف الجهة المصدرة للقانون لا يمكن للمجلس إجازة إصدار النص المعيب.
ويتضح من نص المادة 62 من الدستور الفرنسي أن حجية القرارات التي يصدرها المجلس الدستوري تتسم بالتجريد ولا تمييز في ذلك بين تلك القرارات التي تضفي صيغة دستورية على قانون ما، وتلك التي تُقِرُّ بوجود تعارض مع الدستور، كما أن الحُجية لا تقتصر على القرارات التي تهم اختصاص المجلس بمراقبة دستورية القوانين، وإنما تشمل كل القرارات التي يصدرها المجلس وهو يمارس اختصاصاته الدستورية رغم أن نص المادة62 قَصَر الحجية على القرارات التي تهم مراقبة القوانين، ذلك أن قرارات المجلس الدستوري من حيث بنائها وموضوعها وكذا الهيئة التي تصدر عنها وطبيعتها كونها لا تقبل الطعن أمام أي جهة أخرى.. كل ذلك يكسبها حجية وإن كانت نسبية وتكتسب قوة الشيء المقضي به .
إن الرقابة على دستورية القوانين في فرنسا ذات طبيعة قبلية وقائية تهدف إلى منع إصدارالتشريعات المخالفة للدستور ونفاذها، ما يجعل القرارات التي يصدرها ذات أثر قبلي يُمنَع بموجبه إصدار النص المطعون في دستوريته.
ويختلف أثر قرارات المجلس الدستوري حسب طبيعة النص القانوني المحال عليه، فحين يتعلق الأمر بعدم دستورية قانون عادي يلزم ذلك كافة السلطات العامة بعدم إصدار هذا القانون، أما إذا تعلق الأمر بعدم دستورية النظام الداخلي للبرلمان فيترتب عنه عدم إمكانية تطبيق هذا النظام مع إلزام الهيئة المصدرة للنظام الداخلي بإدخال التعديلات التي نص عليها القرار الدستوري وإعادة النص القانوني مجددا للمجلس لتأكيد مطابقة مواده للدستور.
وفي ما يتعلق بمراقبة دستورية القوانين لابد من التمييز من حيث الأثر بين القرارات التي تُسقِط القوانين بشكل كلي كونها مخالفة للدستور وبين القرارات التي تمنح الصفة الدستورية للقوانين بشكل جزئي مُستثنِية من ذلك ما بدا لها أنه مخالف للدستور. ففي الحالة الأولى يصدر المجلس الدستوري قراره بعدم دستورية القانون المعني حين يتعارض في مجمله مع مبدأ دستوري، أو حين يكون الهدف من تشريع النص القانوني تقييد الحريات الفردية والجماعية خارج نطاق الدستور.
كما أن المجلس الدستوري يمكن أن يقرر عدم دستورية نص قانوني بشكل كلي حين يجد أن بعض مواده غير دستورية ولا يمكن فصل هذه المواد عن باقي أجزاء القانون.
غير أنه إذا أَقَرَّ المجلس أن بعض مواد قانون ما غير دستورية ويمكن فصلها عن باقي مواده، أجاز القرار إصدار هذا القانون دون باقي المواد غير الدستورية، مع منح السلطة المنشئة للقانون حق تعديل المواد لا ملاءمتها مع الدستور أو التخلي عنها بشكل نهائي. وارتباطا باختصاص المجلس الدستوري بالنظر في مطابقة المعاهدات الدولية للدستور، فإن المادة 54 من الدستور الفرنسي قد منحت المجلس حق منع المصادقة على كل معاهدة غير دستورية، إلا أن الأثر هنا لا ينسحب على المعاهدة كما هو الحال عند دراسة أثر القرارات الدستورية على القوانين والأنظمة الداخلية للبرلمان، وإنما يشمل الأثر إجراء تعديل دستوري ليتلاءم مع النص الدستوري وليس العكس. وفي هذا الصدد يرى جانب من الفقه أن الأنظمة الدستورية التي تأخذ بالرقابة السابقة عادة ما تفرض موافقة البرلمان على الاتفاقية أو المعاهدة، هذه الموافقة تصدر في شكل قانون يُحال على المجلس الدستوري وهو ما يمكن اعتباره رقابة قبلية غير مباشرة على المعاهدة، وفي جميع الأحوال التي يلزم فيها المشرع الدستوري بموافقة البرلمان على المعاهدات تتم الرقابة السابقة إما قبل تصويت البرلمان أو بعده طبقا للمادة 54 من الدستور ووفقا للإجراءات التي نَصَّت عليها المادة 61 منه.
وحين يتعلق الأمر بالموافقة الشعبية على معاهدة ما عن طريق الاستفتاء فيرى جانب من الفقه الفرنسي أن ممارسة المجلس لاختصاصاته بناء على المادة 11، تُخوله التعرض لكل بند داخل المعاهدة المعنية يتعارض مع النص الدستوري .
وعلى مستوى آخر، استبعد المشرع الدستوري الفرنسي المراقبة البعدية بنوعيها المجردة والملموسة لفترات طويلة، كانت آخر محاولة فاشلة لإقرارها حين رُفض مشروع تعديل دستوري استهدف المواد 61-62-63 من الدستور، قبل أن ينجح أخيرا في إقرار هذا النوع من الرقابة سنة 2008 حين يتعلق الأمر بمخالفة صريحة للحقوق والحريات التي أقرها الدستور .
ولطالما نادى بعض الفقه الفرنسي بضرورة منح المحاكم العادية حق الامتناع عن تطبيق النصوص القانونية متى تبين لها أنها مخالفة للدستور، هذا المطلب استجاب له المشرع الدستوري الفرنسي في التعديل الأخير من خلال نص المادة 61 مكرر، التي منحت المحاكم حق إشعار المجلس الدستوري بكل قانون يمثل اعتداء على الحقوق والحريات، وهو ما يمثل توسيعا لاختصاص هذه المحاكم في مجال الرقابة على دستورية القوانين كما أن ذلك يمنحها ضمنيا حق الامتناع عن تطبيق القوانين المخالفة للدستور على مستوى فلسفة حقوق الإنسان، الشيء الذي قد يتجاوز في بعض الأحيان الدور الذي تقوم به محاكم الولايات المتحدة في هذا المجال .
2.1.حجية القرارات الدستورية الأمريكية وأثرها
معلوم أن الرقابة على دستورية القوانين هي تلك الرقابة التي تقوم بها هيئة قضائية سواء تعلق الأمر بمحكمة مختصة أو من خلال منح المحاكم العادية حق التصدي للنصوص القانونية المخالفة للدستور.
ويرى أنصار هذا الاتجاه الأخير أن منح جميع المحاكم الحق في ممارسة الرقابة على دستورية القوانين إنما هو إعمال للوظيفة الأصلية للقضاء، فمن طبيعة عمل المحكمة مهما كانت درجتها تحديد القانون الواجب التطبيق، وفي حالة وجود تعارض بين قانون عادي وآخر دستوري فإن من واجب القاضي أن يفصل في النزاع المطروح عليه.
غير أن ذلك وإن كان يُمَكِّن المواطنين من حماية حقوقهم وحرياتهم بشكل مباشر إلا أنه يؤدي إلى خلق حكومة القضاة، تلك السلطة التي ترهن السلطة التشريعية والتنفيذية بأحكامها، ما يقيد سلطتهما بقرارات و أحكام القضاء، هذا الأمر غالبا ما يدفع بالرقابة على دستورية القوانين إلى الاتجاه المحافظ نتيجة الثقافة القانونية للقضاة وعقلياتهم والطبقات الاجتماعية التي ينحدرون منها، هذه الحجة يراها البعض داعمة لفكرة منظومة
المحكمة الخاصة المكلفة بالرقابة على دستورية القوانين بدل منح المحاكم العادية حق ممارسة هذه الرقابة.
2.حجية القرارات الدستورية في المغرب وأثرها
شهدت حجية القرارات الدستورية في المغرب تطورا هَمَّ اختصاصات الجهة التي عقد لها المشرع اختصاص النظر في دستورية القوانين، مما يتطلب الارتقاء بممارسة القضاء الدستوري ليواكب هذا التطور.
1.2. الغرفة الدستورية
إن القصد من الرقابة على دستورية القوانين هو التحقق من مخالفة القوانين للدستور من أجل الحؤول دون إصدارها، وكذا إلغائها والامتناع عن تطبيقها إذا تم إصدارها.
ولهذا الغرض أحدث المشرع المغربي الدستوري غرفة دستورية بالمجلس الأعلى بموجب دستور 1962، إلا أن هذا الإحداث وإن كان قد وضع اللبنة الأولى للقضاء الدستوري قد عرف تعثرا واضحا نتيجة طبيعة الغرفة وتشكيلها وكذا الاختصاصات التي أوكلت إليها.
فمن حيث الطبيعة فهي غرفة من غرف المجلس الأعلى ولا تتمتع بأي استقلالية عنه أو امتياز عن باقي الغرف، ومن حيث التشكيل فأعضاء الغرفة الدستورية معينون من طرف الملك و رئيس مجلس النواب و رئيس مجلس المستشارين، وهو ما يخلق لُبسًا حول طبيعة العلاقة المستقبلية بين السلطة المخوَّلة بتعيين أعضاء الغرفة الدستورية، وهذه الأخيرة إذا استحضرنا أن هذه السلطات هي نفسها من يحق لها ممارسة حق الإحالة و الطعن .
ومن حيث الاختصاص اقتصر دور الغرفة الدستورية على مراقبة دستورية القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان ومراقبة صحة عمليات الاستفتاء والبت في الطعون الانتخابية وتحديد مجال السلطتين التشريعية والتنظيمية في حالة وقوع تنازع حول الاختصاص ولا يشمل اختصاصها مراقبة دستورية القوانين العادية وِفق أي صيغة كانت .
وعزَّزَ المشرع المغربي هذا التوجه بأن منع على المحاكم العادية كيف ما كانت درجتها، البت في دستورية القوانين كما ورد في الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية، الذي ينص على أنه: « لا يجوز للجهات القضائية أن تبت في دستورية القوانين ». وإذا كان المشرع الدستوري قد حرم الغرفة الدستورية من الرقابة على دستورية القوانين العادية، فإنه خول لها رقابة وجوبية على القوانين التنظيمية والأنظمة الداخلية لمجلسي البرلمان نظرا لمكانتهما المميزة في الهرم القانوني المغربي، إلا أن ذلك لم يشفع في إغفال الحديث عن حجية مقررات هذه الغرفة أو الحديث عن طبيعتها أو حتى أثرها.
لتدارك هذا النقص حاول القانون التنظيمي للغرفة الدستورية و تحديد آثار مقرراتها بأن نص الفصل 15 منه، على أن نشر كل مقرر من الغرفة الدستورية برفض المصادقة على أحد مقتضيات قانون تنظيمي أو نظام داخلي غير مطابق للدستور يحول دون إصدار الأمر بتنفيذ القانون التنظيمي أو الشروع في تطبيق مقتضيات النظام الداخلي من طرف المجلس الذي أصدره.
يُستفاد من نص الفقرة الأولى من الفصل 15، أن مقررات الغرفة الدستورية القاضية بعدم دستورية القوانين التنظيمية تلزم الملك باعتباره السلطة المخولة بإصدار الأمر بتنفيذ القوانين بالامتناع عن إصدار هذا الأمر، كما أن المقررات التي تقضي بعدم دستورية نظام داخلي لأحد المجلسين تلزم هذا الأخير بالامتناع عن تطبيق هذا النظام إلى حين إدخال تعديلات عليه لملاءمته مع الدستور وفق الملاحظات التي أدرجتها الغرفة في حيثيات
قرارها، واستثناء على ذلك يمكن للغرفة الدستورية أن تقرر إن كان القانون التنظيمي يحتوي على أجزاء غير دستورية ويُمَكِّن فصلها عن مجموع هذا القانون إمكانية إصداره من طرف الملك بعد استبعاد المقتضيات غير الدستورية.
وفي هذا الصدد فالقانون التنظيمي للغرفة الدستورية لم يتحدث عن هذا الاستثناء حين يتعلق الأمر بالنظامين الداخليين لمجلسي البرلمان، وإن كان ذلك ممكنا على اعتبار أن النظام الداخلي لأحد المجلسين والذي قررت الغرفة الدستورية عدم مطابقته للدستور يعاد إلى المجلس المعني من أجل إدخال التعديلات الضرورية وفق حيثيات مقرر الغرفة ليصبح مطابقا للدستور، وهو
ما قضت به الغرفة الدستورية في القرار رقم 2 الصادر بتاريخ 31 دجنبر1963، حين صرحت بأنه: « تؤجِّل الغرفة الدستورية الموافَقة على بقية الفصول الخارجة عن القسم الأول إلى أن يتم تنقيح الفصول المخالفة للدستور أو غير المطابقة له بما يتفق مع مقررات الغرفة».
2.2. المجلس الدستوري
أُحدث المجلس الدستوري في المملكة المغربية بموجب التعديل الدستوري لسنة 1992 الذي حاول من خلاله المشرع الدستوري تجاوز عثرات تجربة الغرفة الدستورية ونواقصها، من خلال إيجاد هيئة مستقلة خاصة بمراقبة دستورية القوانين مع منحها مزيد من الاختصاصات والضمانات في ما يتعلق بالتشكيل والصلاحيات وكذا حُجية القرارات وأثرها، وإن كان لم يرْقَ إلى إمكانية أخذ المجلس لمبادرة التصدي للقضايا الداخلة في اختصاصه، إلا بناء على إحالة مسبقة من أطراف خارج الهيئة المكونة له. فمعلوم أن المشرع المغربي قد رفع من عدد أعضاء المجلس عن ما كان عليه الوضع في عهد الغرفة الدستورية وعزز صلاحياته بأن منحه مراقبة دستورية القوانين العادية، وإن كان هذا الأمر يتم بإحالة مسبقة من طرف الملك أو رئيس مجلس النواب أو ربع أعضاء مجلس النواب (رئيس مجلس المستشارين أو أعضائه).
وعلى مستوى حجية قرارات المجلس أكد الدستور المغربي لسنة 1992 في فقرتيه الأخيرتين من الفصل التاسع والسبعون أنه: « لا يجوز إصدار أو تطبيق أي نص يخالف الدستور . لا تقبل قرارات المجلس الدستوري أي طريق من طرق الطعن، وتلتزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية » . ويستشف من هذا الفصل أن الدستور المغربي لم يتحدث صراحة عن حجية القرارات والأحكام الصادرة عن المجلس الدستوري على غرار التجارب الدولية الأخرى، وإن كان قد أكد على عدم جواز إصدار قوانين أو تطبيق النصوص الصادرة حال ثبوت مخالفتها للدستور، كما أن الفصل منح قرارات المجلس حصانة ضد أي طرق من طرق الطعن مانحا إياها بصفة ضمنية حجية مطلقة في مواجهة الكافة، باعتبار أن الفصل 79 يُلزم جميع السلطات باحترام وتنفيذ قرارات المجلس الدستوري، ومن الملاحظ أن النص الدستوري لم يتحدث عن آجال لتنفيذ قرارات المجلس وهو ما يعني خضوعها للقاعدة العامة المتمثلة في بدأ سريان أثرها من تاريخ تبليغ للمعني بالأمر أو النشر بالجريدة الرسمية.
إنَّ منح قرارات المجلس الدستوري حجية مطلقة ذات صفة قطعية ونهائية، منح المجلس الدستوري مزيدا من الاستقلالية عن باقي السلطات بما فيها السلطات التي تتدخل في تعيين أعضائه، كما منحه سلطة التعبيرعن قراراته بشكل صريح كلما تعلق الأمر بمخالفة الدستور والقانون.
3.2.المحكمة الدستورية
كان للتعديل الدستوري لسنة 2011 بالغ الأثر في المنظومة الدستورية المغربية عامة وفي القضاء الدستوري خاصة، ذلك أنه أحدث محكمة دستورية بدل المجلس الدستوري ومنحها اختصاصات إضافية ترقى بها الى مستوى جهاز قضائي مستقل يمارس الوظيفة الدستورية. ولعل من بين أهم الاختصاصات الجديدة التي أوكلها المشرع للمحكمة الدستورية ما نص عليه الفصل 133 من النظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أُثير أثناء النظر في قضية، وذلك إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق والحريات التي يضمنها الدستور. كما أن الدستور المغربي وسع من نطاق تدخل المحكمة الدستورية في مجال الاتفاقيات الدولية بأن منح الملك أو رئيس الحكومة أو رئيسي مجلسي البرلمان أو خمس النواب أو أربعون مستشارا حق إحالة هذه الاتفاقيات إلى المحكمة الدستورية للبت في دستوريتها كما نصت على ذلك الفقرة الثالثة من الفصل 132. إنَّ منطوق الفصل 134 من الدستور الجديد الذي نص على أنه « لا يمكن إصدار الأمر بتنفيذ مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 132 من هذا الدستور، ولا تطبيقه، وينسخ كل مقتضى تم التصريح بعدم دستوريته على أساس الفصل 133 من الدستور، ابتداء من التاريخ الذي حددته المحكمة الدستورية في قرارها »، يقر بعدم إمكانية إصدار الأمر بتنفيذ القوانين التنظيمية التي تحال وجوبا على المحكمة الدستورية طبقا للجزء الأول من الفقرة الثانية من الفصل 132، متى قضت المحكمة بمخالفتها للدستور. كما أن الأنظمة الداخلية لكل من مجلسي البرلمان تحال هي الأخرى وجوبا، لا يمكن تطبيقها إذا صرحت المحكمة بمخالفتها للدستور ما يستوجب تعديلها وفق ملاحظات المحكمة قبل إعادتها مجددا إلى هذه الأخيرة لإعادة فحص دستوريتها ومن تم إقرارها وتطبيقها.
تختص المحكمة الدستورية أيضا بالنظر في كل دفع متعلق بعدم دستورية قانون أثير أثناء النظر في قضية إذا دفع أحد الأطراف بأن القانون الذي سيطبق في النزاع يمس بالحقوق والحريات.
و بمقتضى الفصل 134 من الدستور المغربي، ينسخ كل نص قانوني تم التصريح بعدم دستوريته وهو ما يمنح المحكمة الدستورية حق إبطال القوانين متى تبين لها – بعد الإحالة من محكمة الموضوع بناء على دفع أحد الأطراف – أن النص موضوع الإحالة مخالف للدستور
شريطة أن يكون أساس الدفع هو مخالفة الحقوق والحريات التي يكفلها الدستور.
ومن الملاحظ أن المشرع الدستوري المغربي لم يأخذ بطريقة الامتناع كما هو معمول به في النظام الدستوري الأمريكي، محافظا بذلك على النسق اللاتيني المعتمَد في عهد المجلس الدستوري، بل ومتبنيا لفكرة الرقابة البعدية المقيدة والمحصورة في مجال الحقوق والحريات وفق .2008 ما نصت عليه المادة 61 -1- من الدستور الفرنسي لسنة
غير أن الإشكال الذي يطرحه هذا النص هو مدى إمكانية تطبيقه بأثر رجعي على القضايا التي سبق أن قضى فيها القضاء العادي استنادا إلى النص المطعون فيه مع ما يستتبع ذلك من تغيير في المراكز القانونية للأشخاص والمعاملات. وفي فقرته الأخيرة نص على: « لا تقبل قرارات المحكمة الدستورية أي طريق من طرق الطعن، وتلزم كل السلطات العامة وجميع الجهات الإدارية والقضائية »، ليس سوى إعادة صياغة للفقرتين الأخيرتين من الفصل التاسع والسبعون من التعديل الدستوري لسنة 1992 إذا استثنينا تغير كلمة "المجلس" بالمحكمة وإعادة تفصيل وتجزيئ لعبارة " لا يجوز إصدار أو تطبيق أي نص يخالف الدستور »، وهو ما يمنح
المحكمة الدستورية حُجية مطلقة في استمرار الامتياز الذي كانت تحظى به قرارات المجلس الدستوري. وأكدت المادة 27 من القانون التنظيمي للمحكمة الدستورية على شرط التجزئة من خلال منح المحكمة إمكانية البت بعدم دستورية جزء من قانون تنظيمي أو عادي أو نظام داخلي، دون أن يؤثر ذلك على دستورية النص في مجمله، إذا أمكن فصل الجانب غير الدستوري عن باقي مكونات النص القانوني، وتبقى للمحكمة كامل السلطة التقديرية في تحديد هذه الإمكانية من عدمها .
من الاختصاصات الجديدة للمحكمة الدستورية أيضا ما نص عليه الفصل 55 من الدستور، حيث أقرَّ على أنه : « إذا صرحت المحكمة الدستورية، إثر إحالة الملك أو رئيس مجلس النواب، أو رئيس مجلس المستشارين، أو سدس أعضاء المجلس الأول، أو ربع أعضاء المجلس الثاني، الأمر إليها، أن التزاما دوليا يتضمن بندا يخالف الدستور، فإن المصادقة على هذا الالتزام لا تقع إلا بعد مراجعة الدستور". وعليه، فإن كل معاهدة أو اتفاقية قضت المحكمة الدستورية بمخالفتها للدستور لا يمكن المصادقة عليها إلا إذا وقع تعديل دستوري شمل البنود المخالفة حتى تصبح متوافقة مع النص الدستوري.
ويختلف الفقه فيما إذا كانت ولاية المحكمة الدستورية ستشمل كل بنود المعاهدة الدولية موضوع الرقابة أم أن عملية الفحص ستكون مقيدة بالبنود التي حددها نص الاحالة.
إنَّ المحاكم المغربية العادية مدعوة إلى أن تكون في مستوى التعديلات الدستورية خاصة المرتبطة منها بالدفع بعدم دستورية القوانين، رغم أن مشروع القانون التنظيمي
للدفع بعدم دستورية القوانين منع إمكانية إثارة الدفع بشكل تلقائي من لدنها
تماشيا مع مقتضيات الفصل 25 من قانون المسطرة المدنية، وهو ما يعد سيراعلى نفس التوجه السابق للمشرع الدستوري المغربي، هذا الأخير منح محكمة النقض النظر في جدية الدفع المثار أمام المحاكم العادية عكس المشرع المصري الذي أعطى لمحاكم الموضوع صلاحية البث في مدى جدية الدفع المطروح من عدمها.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.