صدر في الأسبوع الأول من شهر أكتوبر المنصرم تقرير أعده الفريق الاستشاري حول الدبلوماسية الشعبية في العالمين العربي والإسلامي، وهو التقرير الذي طلبته لجنة الاعتمادات المنبثقة عن مجلس النواب وكلّف به السفير الأمريكي السابق في الكيان الصهيوني وسوريا إدوارد دجيرجيان، في أعقاب عدد من الدراسات قامت بها الحكومة والقطاع الخاص خلال العامين الماضيين، لفحص جهود الولاياتالمتحدة للاتصال بالجماهير في العالمين العربي والإسلامي، وقام أعضاء الفريق المذكور بزيارات لعدد من البلدان العربية والإسلامية للتعرف عن قرب على الصورة التي يحملها المواطنون العرب للولايات المتحدةالأمريكية، منها المغرب وتركيا ومصر والأردن وسوريا والسنغال. يقع التقرير في ثمانين صفحة من القطع المتوسط، وقد أشرف عليه السفير إدوارد جيرجيان السفير الأمريكي السابق لدى سوريا والجزائر ستيفان كوهين والباحث في منتدى السياسة الإسرائيلية ورئيس معهد الشرق الأوسط للسلام والتنمية، ومأمون فندي المصري المولد والأمريكي الجنسية والباحث بمعهد الولاياتالمتحدة للسلام، وشلبي تلحمي أستاذ كرسي أنور السادات للسلام والتنمية بجامعة ميرلاند، وجون زغبي رئيس مؤسسة زغبي الدولية لاستطلاعات الرأي، وهو يبدو أي التقرير أشبه ما يكون بخريطة طريق جديدة للدول العربية والإسلامية، إذ يتضمن ما ينبغي أن تفعله الإدارة الأمريكية لغسل أدمغة العالمين العربي والإسلامي خلال السنوات المقبلة، بعد افتقاد صوت أمريكي حقيقي في ساحة النقاش الرسمي خلال السنوات الماضية في المنطقة العربية، نتيجة عدم توفر عدد كاف من المسؤولين الأمريكيين الذين يتمتعون بمهارة لغوية كافية للدخول في نقاش بصورة فعالة مع أشخاص من المنطقة في منابر عامة وعلى التلفزيون. ويأتي هذا لتقرير الأمريكي الجديد بعد التقرير الذي أعده مجلس الشؤون الخارجية في واشنطن، في أعقاب تفجيرات الحادي عشر من شتنبر 2001 ودعا إلى تبني ما أسماه بالدبلوماسية الشعبية، التي تنطلق من إقدام الدبلوماسي الأمريكي على طرق كل الأبواب المتاحة أمامه، وإلى التعامل مع الآخرين في الدول التي يعمل فيها بصورة مباشرة وبالشكل الذي تقتضيه كل حالة. وهو ما يعني على نحو مباشر تدخلاً صريحا في الشؤون الداخلية للدول الأخرى، من المطالبة بتغيير مناهج التعليم إلى مراقبة المقالات التي تنشر والمسلسلات التليفزيونية التي تبث. تحسين ما لا يتحسن ويبدو أن الإدارة الأمريكية الجمهورية قد فوجئت بتنامي العداء لها في العالم العربي والإسلامي وبفورة التظاهرات الشعبية العارمة التي جابت الشوارع العربية والإسلامية قبل وأثناء الحرب على العراق، واستهداف رموز الحضارة الأمريكية والسيادة الأمريكية كمطاعم الماكدونالدز وإحراق العلم الأمريكي وغير ذلك، فقررت تغيير الثقافة التي تحرك الشخص العادي والنخبة العربية بما يضمن لها الرسوخ في الوجدان العربي وكسب تعاطف الشارع معها. وهذا في حدث ذاته يشكل تحولا في السياسة الأمريكية تجاه العالم العربي والإسلامي، يستحق التسطير عليه، ذلك أن الولاياتالمتحدة لم يسبق لها طيلة تاريخ علاقاتها بالعالم العربي والعالم الإسلامي أن أعطت الرأي العام في هذه البلدان حيزا أو مكانة، ولم تكن تضعه في الاعتبار كلما تعلق الأمر بقضية من قضاياه، بقدر ما كانت تركز على الأنظمة الحاكمة وتدعمها في مواجهة هذا الرأي العام الذي كان يطمح إلى التغيير فيصطدم بالأسلحة الأمريكية المشهرة في وجهه. لكن ما حدث بعد تفجيرات 11 شتنبر غير سلم الأولويات الأمريكية، وأصبح الرأي العام في العالم العربي والإسلامي يحتل موقعا أساسيا في استراتيجية البقاء لدى الإدارة الأمريكية المهتمة بإدامة حضورها في هذا العالم، وبقدر ما يعد ذلك برهانا على قدرة الشارع على الفعل بقدر ما ينهض دليلا على أن الإدارة الأمريكية لم تعد تثق في الأنظمة وفي ثباتها. لقد انطلق البيت الأبيض والمؤسسات الأمريكية البحثية والاستخبارية المحيطة به عقب 11 شتنبر 2001 من سؤال تم اعتباره أساسيا: لماذا يكرهوننا؟، ودون البحث في الأسباب الموضوعية الواقعية لكراهية العالم العربي والإسلامي للسياسات الأمريكية استنتج هؤلاء خلاصة تقول بأن أسباب هذه الكراهية كامنة في البنيان الثقافي والديني والعقلية السائدة في العالمين العربي والإسلامي، ومن ثم فإن تحسين صورة الولاياتالمتحدةالأمريكية لدى العرب ينبغي أن تنطلق من تصحيح هذا البنيان وإقناع الرأي العام العربي والإسلامي بأنه يرى الأمور خطأ وعلى غير ما هي عليه في الواقع. ومثل هذا التبسيط يتجاهل الحقائق الموجودة على الأرض ويصر على قلبها في الأذهان مع الإبقاء عليها في الواقع، ولكنه يتجاهل أيضا الدوافع الحقيقية التي تدفع شعوبا غير عربية وغير إسلامية إلى معاداة الولاياتالمتحدة، ليس لأنها تضم أمريكيين، ولكن لأن لها سياسات معادية للكثير من الأمم والشعوب ومصالحها عبر مختلف بقاع العالم. فالدعم الأمريكي المتواصل للكيان الصهيوني، وتسليحه وإغماض الأعين أمام الجرائم الوحشية واللاإنسانية ضد الشعب الفلسطيني، وممارسة الضغوط على الفلسطينيين ومحاربة حقوقهم المشروعة في المحافل الدولية، كلها شواهد ظلت قائمة منذ أزيد من نصف قرن وتقدم الدليل على أن الولاياتالمتحدة كانت طيلة هذه العقود تزرع ما تحصده الآن، وانضافت إلى هذا الملف المخجل للسياسات الأمريكية المتعاقبة احتلال أفغانستان وقتل الأبرياء من الأطفال والنساء والعجزة، ثم احتلال العراق وتدمير بناه التحتية وإدخال الشعب العراقي في فوضى خطيرة لن تنحمي آثارها في وقت قريب، وبين هذا وذاك الكشف عن نياتها الحقيقية في احتلال المنطقة العربية ونهب الثروات النفطية والقضاء على الإسلام وإذلال الشعوب العربية والإسلامية. إن العداء للسياسة الأمريكية العمياء والأحادية في أكثر من قضية لا تقتصر على العرب والمسلمين، وإنما هي موجودة في أوروبا وفي آسيا وإفريقيا، بل إن أوسع التظاهرات المعادية للحرب في العراق وللبيت الأبيض حدثت في البلدان الأوروبية ولم تحدث في العالم العربي والإسلامي، وليس هذا لأن المنع كان هنا ولم يكن هناك، ولكن لأن الأوروبيين أنفسهم اصطدموا أكثر من مرة بالولاياتالمتحدة بعد زوال الحرب الباردة، وأصبحوا ينظرون إليها كدولة تريد بناء إمبراطورية عالمية على حساب مصائر ومصالح الشعوب الأخرى، وقد شهدت السنة الماضية بعد الخلاف بين المحور الفرنسي الألماني والمحور الأمريكي البريطاني حول الحرب عدة معارك سياسية وإعلامية بين الأوروبيين والأمريكيين، وأجريت عدة استطلاعات للرأي كشفت عن أن غالبية الأوروبيين لا يقاسمون القيم الإجتماعية والسياسية والثقافية للأمريكيين، وكتب عدد من المفكرين الفرنسيين مقالات مسيئة لأمريكا، بينهم المفكر الفرنسي المعروف ريجيس دوبريه الذي نشر قبل شهرين مقالا مطولا بعنوان معبرأيها الأمريكيون: إنكم أنانيون. إن تحسين الصورة التي تحملها شعوب العالم عن الولاياتالمتحدة وعن سياسات رؤسائها رهين بالتعامل الإيجابي مع قضايا العالم العادلة بمعايير منصفة، وليس بالتوصيات التي تضمنها التقرير الأخير، إن التقرير يقول شيئا واحد، وهو أن على العالم والعربي أن يتغير لتتغير نظرته لأمريكا، ولكن الوضع الصحيح هو أن الولاياتالمتحدة هي التي عليها أن تغير سياساتها لتتغير صورتها في العالم العربي والإسلامي أوتوماتيكيا. إدريس الكنبوري