وحدهم الذين يجهلون معاني البطولة والكبرياء والإيمان والشهادة هم الذين سينسجون معلقات الهجاء، ومعها الندب والعويل على ثلاث سنوات من البطولة والشهادة، هي الأروع، ليس في التاريخ الفلسطيني فحسب، بل وفي التاريخ العربي الحديث بكل فصوله. سيتحدث هؤلاء بالطبع عن المعاناة المتفاقمة والانجازات الضائعة، وفيما يتجاهلون ما يعانيه الطرف الآخر من شعور بالهزيمة، فإنهم لا يذكرون لنا شيئاً عن ماهية تلك الانجازات التي ضاعت، كما أن حديثهم عن المعاناة يتجاهل أن بديلها كان مسلسلاً من الذل والهوان والقبول بالاحتلال وشروطه. يحق لنا أن نسأل هؤلاء الذين يعتبرون سنوات الانتفاضة الثلاثة عبثاً في عبث عن البديل الذي كان يملكه الفلسطينيون بعد أن تعايشوا مع "أوسلو" وملحقاته سبع سنوات كاملة تجرعوا خلالها الكثير من القهر وهم يسكتون على مسار لم يقتنعوا به، ولم يؤمنوا أنه يحملهم إلى أفق الكرامة والتحرير، وما حصل بعد ذلك أن انصاره هم الذين عادوا إلى شعبهم من كامب ديفيد، صيف العام 2000 ليعلنوا أن جل ما حصلوا عليه هو دولة كانتونات من دون القدس ولا السيادة ولا عودة اللاجئين، ومن دون الحصول على كامل ما احتل من الأرض عام 1967. هل كان على الفلسطينيين بعد ذلك أن ينتظروا سبع سنوات أخرى كي يحصلوا على ما هو أفضل؟ لم يكن ذلك ممكنا بالطبع. فما كان يقال لهم في حينه هو أن مفاوضيهم قد ضيعوا فرصة ثمينة وان ما قدمه "باراك" كان استثنائياً لن يقدمه أحد سواه. هنا لم يكن أمامهم سوى مسار المقاومة الذي رأوه بأم أعينهم يحقق انتصاراً كبيراً في جنوب لبنان. لقد اختطوا ذلك المسار وهم يدركون تمام الإدراك أن كلفته ستكون عالية. بل ان أشد المتفائلين لم يتخيل أن يغدو ميزان الخسائر بين المقاومة وبين الاحتلال هو (1 إلى 3) كما هي النتيجة حتى الآن. مع ذلك دعونا نتعاطى مع السيناريو الآخر الذي يؤمن به البعض ممثلاً في التفاوض إلى الأبد والرفض المطلق لما يسمى "عسكرة الانتفاضة . . دعونا نتخيله في ظل معطيات لم يكن لانتفاضة الأقصى صلة بها. نقصد هجمات الحادي عشر من أيلول في الولاياتالمتحدة وما تبعها من أحداث وصولاً إلى احتلال العراق. لو وقعت كل هذه الأحداث والتطورات في ظل غياب انتفاضة الأقصى والمقاومة المسلحة والاستشهادية لكان بإمكان القوة الأمريكية الصهيونية أن تفرض على الفلسطينيين والعرب ما عجزت عن فرضه خلال الانتفاضة عندما ركزت على وقف المقاومة التي كانت الشغل الشاغل لليهود في كل مكان، وليس في فلسطين وحدها. ولو لم ينجح المسعى خلال ما بعد الحادي عشر من أيلول لكان نجاحه أيسر بعد احتلال العراق. نقول ذلك لأن مقاومة العراق لم تكن لتندلع لولا انتفاضة الأقصى. وليس في ذلك أدنى مبالغة، لأن مساهمتها الأهم في الواقع العربي والاسلامي قد تمثلت في نشرها لثقافة الجهاد والاستشهاد، وهي الثقافة التي انتجت مقاومة العراق في أوساط السنة، واسألوا المقاومين هناك عن النموذج الذي يحتذونه في جهادهم. وبذلك لا نجد من المبالغة القول إن انتفاضة الأقصى قد شكلت تحصيناً للأمة في مواجهة الاذلال الأمريكي الصهيوني وحاجزاً مهماً أمام فرض املاءاته عليها. لذلك كله، يليق بنا في مثل هذه الأيام أن نعيش أجواء الذكرى الرابعة لانطلاق هذه المرحلة الرائعة من تاريخ هذا الشعب العظيم، وأن نتذكر جحافل الاستشهاديين والشهداء الذين غدوا أقماراً تزين سماء فلسطين، ومعهم آلاف الأسرى الذين يتحدون الجلاد ويصنعون البطولة في معتقلاته. نتذكر أجمل الأمهات اللواتي ودعن أبناءهن الشهداء بالزغاريد. نتذكر عشرات الآلاف من الجرحى الأبطال. نتذكر ملاحم مخيم جنين وقصبة نابلس والأبطال الذين صنعوها. نتذكر ذلك كله وملؤنا الفخر والعزة والكرامة، في ذات الوقت الذي يملأنا الحزن والقهر بسبب أولئك الذين يمارسون "الأستذة" على هذا الشعب العظيم. تحل هذه الذكرى ومعاناة شعبنا في ازدياد، لكنها سيرة القتلة والمحتلين. يزدادون عنفاً وشراسة كلما لاحت الهزيمة في افقهم، فيما أحلك اللحظات هي التي تسبق بزوغ الفجر. انتفاضة الأقصى بشهدائها وبطولاتها ستبقى علامة بارزة في تاريخ هذا الشعب تملأه عزة وفخراً ليس حتى تحقيق الانتصار فقط، بل إلى يوم الدين، فالمعارك العظيمة هي جزء لا يتجزأ من ذاكرة الأمم الحية. ياسر الزعاترة