آثار تدهور الوضع المعيشي على انهيار الجيش العراقي مشاهدات في العراق قبيل الاحتلال 1/2 إن هنالك أسبابا عديدة وراء الانهيار السريع للنظام العراقي السابق، داخلية وخارجية، وكذلك مباشرة وغير مباشرة ولكننا في هذا المقال البسيط سنحاول ذكر سببين رئيسيين ثم عرض أحد الأسباب التي نعتقد بأهميته. الجبهة الداخلية وإيران -1 عدم المصالحة مع الشعب, حيث كان المفروض من النظام السابق أن يفكر أولا في الجبهة الداخلية، أعني الشعب طبعا، وعملية المصالحة لا تتم فقط من خلال إطلاق سراح السجناء، كما تصور ذلك النظام، ولكن من خلال السماح للشعب للتعبير طبعا، عما يعانيه من أزمات أو طرح ما يفكر به لإيجاد الوسائل الكفيلة التي تؤدي إلى بناء العراق والأمة العربية وتحقيق التقدم والرفاهية لبناء الوطن. -2 وقوف السلطات الإيرانية الرسمية والدينية على الحياد بين النظام العراقي السابق وبين الأمريكيين وأعوانهم. وهذا الموقف أثر بشكل مباشر، للأسف، على موقف الحوزة العلمية في النجف وكذلك على موقف الكثير من إخواننا الشيعة في العراق. أما السبب الذي سنقوم بعرضه في مقالنا هذا والذي نعتقد بأنه يشكل أحد الأسباب الجوهرية والمباشرة التي أدت إلى زعزعة الدفاعات العراقية أمام الغزو الأنكلو أمريكي، يكمن إضافة لخيانة بعض الضباط في الركائز غير المتماسكة التي استند عليها النظام. وستوضح هذه الكلمة افتقار ذلك النظام إلى العمق الشعبي، وأنه لا الجيش العراقي ولا حتى جماهير حزب البعث العربي الاشتراكي لم يكونوا مستعدين للدفاع عن النظام المذكور. والذين قاوموا القوات الغازية لم يكونوا يقاومون لمصلحة النظام ولكن دفاعا عن العراق. وفي هذا المجال سنحاول، ما أمكن، عدم الخوض في التفاصيل بل التركيز على بعض الجوانب التي نعتقد بأن لها دورا كبيرا في الانهيار السريع لهذا النظام. ولكن قبل أن نتطرق إلى بحث موضوعنا هذا نود أن ننبه القارئ بأن ما سنطرحه يجب ألا يعتبر مبررا لقيام قوات الشر بغزو للعراق ولا ذريعة لعملاء أمريكا الذين يطلق عليهم مجموعات المعارضة للنظام السابق ليخونوا بلدهم ويبيعوا ضمائرهم، إن كانت لديهم ضمائر، للصهيونية العالمية ولأمريكا انتظارا لتحقيق مصالح شخصية علي حساب كرامة ومقدرات العراق والعراقيين. قضية الرواتب أولا: قضية الرواتب والمكافآت بالنسبة للضباط والموظفين والبعثيين: إن كافة وسائل الإعلام وبالأخص الغربية كانت تثير وبشكل مبالغ فيه بأن صدام حسين كان يستولي على أموال العراق لغرض شراء الأسلحة وتوزيع رواتب خيالية إلى ضباط الجيش، وبشكل خاص ضباط الحرس الجمهوري، وإلى البعثيين. ونظرا لكون موضوع المبالغ التي صرفت لشراء الأسلحة يحتاج إلى دراسة خاصة لذا سيقتصر بحثنا هذا على الجانب الثاني: ألا وهو قضية الرواتب والمكافآت التي يحصل عليها الضباط وبعض الموظفين والبعثيين. أ الرواتب والمكافآت للضباط والموظفين: في سبيل بحث موضوع ما يحصل عليه بعض الضباط والموظفين من ميزات خاصة رأينا أن نقوم بوضع سلم بسيط لتوضيح ما تستلمه كل مجموعة علي حدة. بالنسبة للمحسوبين ضمن الدرجة الأولى: إن الذين يمكن تصنيفهم ضمن هذه المجموعة يستلمون، إضافة إلى رواتبهم العادية، مكافآت مجزية. وهذه المكافآت تسمي هدايا المناسبات، وعددها يتراوح بين 12 إلى 14 مناسبة سنويا (من هذه المناسبات حسبما نتذكر: ذكرى ثورة 17 يوليوز 1968، الأعياد الدينية، إلخ). وإن كل من يصنف ضمن هذه المجموعة تكون قيمة مكافأته مليون دينار عراقي لكل مناسبة من المناسبات المذكورة المعدل العام لصرف الدينار العراقي لفترة ما بعد الحصار،( كل دولار يعادل ما بين 1600 2000 دينار) . المشمولون بهذه الهدايا هم: إضافة إلى نواب رئيس الوزراء والوزراء ورؤساء الأجهزة الأمنية، فإن القادة العسكريين الكبار الذين لديهم مسؤوليات كبيرة في الجيش: قادة الفيالق وقادة الفرق وقائد القوة الجوية الخ، كانوا مشمولين بالمكافآت المذكورة. وهكذا فإن هذه المكافآت لا تمنح إلى كل من يحمل رتبة عسكرية معينة ولكن حسب المسؤولية المكلف بها هذا أو ذاك من الضباط الكبار، وحسب قناعتنا فإن هذه الميزات أدت إلى خلق حساسيات كبيرة بين ذوي الرتب العسكرية العالية. إضافة لذلك فإن أصحاب المواقع المذكورة غالبا ما يتبرع لهم أو لأحدهم الرئيس العراقي السابق بمبالغ نقدية أخرى بحجة تحسين وضعهم المعاشي! ليس هذا فقط بل إن صدام حسين تعود أن يمنح أغلب المذكورين أعلاه هدايا عينية. كالسيارات الفخمة والمنازل وكذلك قطع الأراضي السكنية والزراعية الخ. أصحاب الدرجة الثانية: يصنف ضمن هذه المجموعة الضباط الكبار الذين لديهم مسؤوليات قيادية أقل مستوي من مسؤوليات المذكورين في الفقرة السابقة، وقد تشمل أيضا وكلاء الوزارات ومن بدرجتهم. إن الهدايا التي يتسلمها كل من يدخل ضمن هذه الدرجة تعادل 500 ألف دينار عراقي، إضافة لرواتبهم الاعتيادية، في كل مناسبة من المناسبات المذكورة أعلاه. 3 بالنسبة للمدراء العامين ومن هم بدرجتهم من الضباط والموظفين. يستلم كل من يشغل إحدى الدرجات الوظيفة المذكورة أعلاه 120 ألف دينار عراقي كهدايا في كل مناسبة من المناسبات المذكورة سابقا، إضافة لما يتقاضونه من رواتب شهرية. أما بقية الضباط والموظفين فلا يحصلون إلا على رواتبهم الشهرية التي لا تكفي في أغلب الأحيان لسد نفقات تنقلاتهم من البيت إلى الوظيفة وبالعكس. وفي هذا المجال سأقوم بسرد بعض القصص الواقعية التي شاهدتها بنفسي خلال زياراتي للعراق ضمن مشاركتي بمؤتمرات المغتربين والمقيمين العراقيين في الخارج ما بين 1998 2002. بالنسبة للضباط: في أول زيارة أقوم بها لقطرنا الحبيب عام 1998 كنت واقفا أنتظر سيارة أجرة لتوصلني إلى دار أخي فتوقفت سيارة قديمة جدا من نوع "لاد" الروسية 1975, وهي سيارة خاصة ولكن صاحبها كان مضطرا أن يشغلها، بعد الدوام الرسمي، كسيارة أجرة. تكلمت مع سائق هذه السيارة، وبعد أن عرفته بنفسي واطمأن إلي، أوضح لي بأنه ضابط برتبة مقدم وبأنه يعمل في إحدى الأجهزة الأمنية المخابرات العامة، الاستخبارات العسكرية، الأمن العام، الحرس الخاص أو فدائيي صدام وان ما يستلمه من راتب شهريا لا يتجاوز 60 ألف دينار عراقي، ولذا فهو مجبر للقيام بهذا العمل لسد رمق عائلته. وفي آخر مؤتمر للمغتربين والعراقيين المقيمين في الخارج عام 2002، كان أحد الإخوان يريد أن يقيم دعوة لي ولبعض معارفه من المشاركين في المؤتمر في داره، وهو برتبة لواء في الجيش، ونظرا لكون إمكانياته المالية محدودة، ولا تسمح له بشراء الدجاج من الأسواق المحلية، لذا كان ينتظر موعد بيع الدجاج من قبل جمعية الضباط ليستطيع الحصول على دجاجتين بسعر مخفض. ومن حسن الحظ أو من سوئه كنت حاضرا في الجمعية في وقت توزيع الدجاج، وقد لاحظت: 1 أن اللواء المذكور تمكن من إقناع اثنين من جيرانه ليقوما بمنحه حصتيهما من الدجاج، وبهذه الحالة استطاع الحصول على ستة دجاجات. 2 استغربت من كثرة الضباط الذين ينتظرون دورهم وكان كثير منهم قد حضر إلى الجمعية بملابسهم الرسمية وهم ذوي رتب عالية في الجيش، حيث كانوا يقفون في صف طويل، وكل منهم ينتظر أكثر من ساعة ونصف ليحصل كل منهم علي دجاجتين فقط!! يا للمهانة، علما بأن قسما من الضباط المتقاعدين، ولكونهم من كبار السن، كانوا قد جلبوا كراسي معهم ليجلسوا عليها انتظارا لدورهم. في الوقت الذي كنت فيه أنظر إلى هذا الصف الطويل وإلى هؤلاء الضباط والعرق يجري كالمطر على وجوههم، كنت أفكر: كيف يستطيع مثل هؤلاء الضباط احترام صدام حسين أو نظام الحكم في العراق وهم يعلمون جيدا بأن هنالك بعض زملائهم، الذين قد يكونون اقل منهم كفاءة، يعيشون في بذخ ما بعده بذخ بينما هم يعيشون في هذه الحالة المزرية. تكلمت مع اللواء المذكور وقلت له: هل أستطيع جلب آلة تصوير لأصور هذا المنظر لأقول للإعلام الغربي بأن ضباط الجيش في العراق لا يعيشون كما تقولون ببذخ ولكن أغلبهم يعيش في حالة مزرية؟ ولكنه منعني بشكل قاطع موضحا لي بأنك إذا أخذت صورة هنا ستذهب حالا إلى السجن وأنا كذلك. وفي الحقيقة كانت هذه هي حالة كافة ضباط القوات المسلحة في العراق لا يستثني منها لا الحرس الجمهوري ولا غيره. إذا كان رائد في الحرس الجمهوري يستلم شهريا ما يعادل 50 ألف فقط ومقدم 60 ألف دينار، فإن ما يحصل عليه العامل في القطاع الخاص يتجاوز كثيرا المبالغ المذكورة. وسأذكر هنا على سبيل المثال ما يتقاضاه أحد العمال البسطاء. إن أحد أقربائي لديه حقل دواجن قرب مدينة الرمادي (110 كم غرب بغداد) الحد الأدنى للأجور في هذا الحقل يساوي 60 ألف دينار أضاف للأكل والسكن الذي يكون على مسؤولية صاحب الحقل. أما بالنسبة للموظفين المدنيين فإن رواتبهم محدودة جدا بالمقارنة مع ما يتقاضاه الضباط، مما أدى إلى انتشار الرشوة بشكل مثير، وبدون الإطالة في هذا الموضوع سأروي قصة واقعية مضحكة مبكية: مضحكة لأن شر البلية ما يضحك، ومبكية لأنها تدل علي ما وصل إليه الوضع في العراق من انحطاط, وبالأخص ما يتمتع به الرئيس العراقي السابق من صلاحيات خارجة على كافة ما هو متعارف عليه في الأنظمة الحديثة. صدام والعجوز القصة التي سأرويها هنا حدثت قبل زيارتي للعراق عام 2001 بمدة قصيرة، وإليكم موجزها: كانت هناك امرأة تدعي "سوقية"، وحسب علمي فإن سوقية ليس اسمها الحقيقي، ولكنها لقبت بهذا الاسم لأنها كانت أرملة ليس لها معيل ولذا كانت تجلس في السوق لبيع حب الرقي المسلوق، "البطيخ الأحمر أو الدلاع"، لتعيل ابنها الوحيد، وعندما كنا أطفالا كنا نشتري منها الحب المذكور. هذا الإبن أصبح فيما بعد موظفا في ديوان الجمارك ونظرا لثبوت اختلاسه من أموال الدولة وأخذه الرشوة حكم عليه بالسجن لمدة ثمانية سنوات. ولكن "سوقية" لم تقف مكتوفة الأيدي بل طرقت كافة الأبواب لغرض إطلاق سراح ابنها الوحيد، ونظرا لكون كافة جهودها ذهبت أدراج الرياح قررت أخيرا طلب مقابلة الرئيس صدام حسين، الذي كان يستقبل مرة أو مرتين في الأسبوع مجموعة من المواطنين الذين يطلبون مقابلته لحل مشاكلهم، وكل شخص تسنح له الفرصة بمقابلة الرئيس يحصل على هدية تعادل حوالي 250 ألف دينار. عندما وصل الدور إلى "سوقية"، سألها الرئيس: "ها سوقية اشجابك؟" أي شيء دفعك للمجيء، أجابته: "والله سيد الريس أنت تعرف ليش أنا حيث لأي شيء جئت ابني الوحيد إنتوا سجنتوه اأنتم سجنتموه" . رد الرئيس: "ولكن وحيدك باك سرق" ."سوقية": "ولكن يا سيادة الريس كل دولتك تسرق من فوق إلى الأسفل, لكن اثنين لا يسرقون". أخذ الريس يضحك وقال لها "مين الاثنين!!" فردت سوقية: "نعم يا سيادة الريس الأول أنت، طبعا ما تحتاج تسرق، والثاني طارق عزيز أنت ترسله يوميا للخارج وتكوم عليه الدولارات" هنا قهقه الرئيس وقرر إطلاق سراح بن سوقية!! د. عبد الإله الراوي دكتور في القانون وصحافي عراقي سابق مقيم في فرنسا