مشاهدات في العراق قبيل الاحتلال 2/2 تابعنا في الحلقة الماضية كيف كان صدام يتعامل مع فئات لمواطنين العراقيين كل حسب درجة قربه من النظام، وتفاصيل الرواتب التي كان يحصل عليها الجنود والموظفون، والتي كانت تتميز بالفرق الشديد كل حسب درجته العسكرية ودرجة رضا صدام عنه. وفي هذه الحلقة (الأخيرة) نتابع معرفة تفاصيل الامتيازات التي كان يحصل عيها كبار ضباط الجيش العراقي، والتي خلقت شعورا بالكره لدى المواطن العراقي البسيط. الهدايا التي تمنح للحزبيين إن أغلب الحزبيين الذين يتبوؤون مواقع متقدمة في الحزب كانوا مفرغين أي ليس لديهم أية مسؤوليات وظيفية أخرى، وإذا استلم أي منهم وظيفة حكومية بالإضافة لموقعه الحزبي فلا يحق له الجمع بين إكرامية المناسبات المذكورة سابقا بصفته قائد حزبي وإكرامية الوظيفة، بل له الحق باختيار أفضلهما. بعد هذه المقدمة البسيطة نرى لزاما علينا أن نقوم بعرض أعضاء القيادات الحزبية والحزبيين الذين يستلمون هدايا المناسبات ومبلغ ما يحصل عليه كل منهم في كل مناسبة. علما بأنه صدر، عام 2002 قرارا تم بموجبه مضاعفة ما يستلمه الحزبيون العسكريون في كل مناسبة، أي أن عضو قيادة الفرع العسكري، مثلا، يستلم ضعف ما يستلمه مثيله في الفرع المدني. 1 أعضاء القيادتين القومية والقطرية: هؤلاء يعاملون معاملة الوزراء وضباط الجيش من الدرجة الأولى، أي يحصل كل منهم وفي كل مناسبة من المناسبات المذكورة على مليون دينار عراقي، ويحصلون غالبا على كافة الامتيازات التي حصل عليها المذكورون ضمن الدرجة الأولى. 2 أعضاء الفروع الحزبية: وهم بشكل عام ممنوعون من ممارسة أي عمل وظيفي آخر، ولا يحصل كل منهم إلا على 120 ألف دينارا في كل مناسبة من المناسبات المذكورة أعلاه. إن المبلغ المذكور، في الحقيقة، ليس كافيا إلا لسد الحاجات الضرورية، وإن عضو الفرع يعيش بمستوى الطبقة المتوسطة في المجتمع لا أكثر. وفي هذا المجال أود أن أشير إلى الوضع المعيشي لأحد هؤلاء، وهو حاصل على الدكتوراه ومسؤول عن إعالة عائلة، تتكون من ثمانية أشخاص وأغلهبم في الجامعات أو المدارس، لقد شكا إلي عضو الفرع هذا ما يعانيه من صعوبات موضحا لي بأن زملاءه الذين يقومون بالتدريس في الجامعة يصل دخل كل منهم، مع المحاضرات الإضافية ضعف ما يحصل عليه، مضيفا بأن له الحق بالقاء محاضرات في الجامعة ولكن الأساتذة الآخرون سوف يشعرون بأنه يقوم بمزاحمتهم في هذا المجال، ولذا فهو يحجم عن القيام بذلك. 3 أعضاء الشعب الحزبية: إن كل عضو شعبة لا يستلم إلا 80 ألف دينار عراقي في كل مناسبة فقط. ولكن يحق لعضو الشعبة ممارسة عمل آخر أو وظيفة حكومية بالإضافة لموقعه الحزبي. علما بأن أغلبهم موظفون في دوائر الدولة ويستلمون رواتبهم كبقية الموظفين، ولكن إذا عين أحدهم في موقع وظيفي يسمح لصاحبه باستلام مكافأة كمدير عام مثلا، فإن هذا الشخص طبعا سيستلم إكرامية الوظيفة دون استلامه الهدية التي تمنح لعضو الشعبة، وذلك لأن إكرامية المدير العام 120 ألف دينار، كما ذكرنا أعلاه. 4 أعضاء الفرق الحزبية: إن كل ما يحصل عليه عضو الفرقة عن كل مناسبة 50 ألف دينارا فقط، ولكنه كعضو الشعبة يحق له ممارسة أي عمل أو وظيفة إضافة لموقعه الحزبي. أما بقية الحزبيين فلا يستلمون أية مبالغ من الحزب ما عدا مبلغ بسيط لا يستحق الذكر وهو 2000 دينارا عن كل مناسبة بصفتهم أصدقاء الرئيس، بهذا المبلغ يستطيع أن يشتري نصف كيلو لحم أو كيلو ونصف من التفاح، علما بأن هذه الإكرامية لا تمنح للمؤيدين بل فقط للرفاق والأنصار. قضايا أخرى بالإضافة لموضوع الرواتب والمكافآت التي، من المؤكد، كان لها دور كبير في زعزعة الثقة بالنظام السابق وبقادته وعلى رأسهم صدام حسين فهناك قضايا أخرى كان لها تأثيرها الذي لا يمكن إنكاره على انهيار النظام المذكور. 1 منح الرتب العسكرية لبعض أقرباء الرئيس والمقربين له: نظرا للسلطات المطلقة التي كان يتمتع بها صدام حسين حيث يجمع بين يديه سلطات رئيس مجلس قيادة الثورة ورئيس الجمهورية والقائد العام للقوات المسلحة وأمين سر القيادتين القومية والقطرية للحزب الحاكم، فإنه قام بمنح بعض الأشخاص الذين ليس لديهم أية صلة بالجيش رتباً عالية جدا وأولهم صدام حسين نفسه الذي لم يقم حتى بأداء الخدمة الإلزامية في الجيش. إضافة لذلك فقد تم منح رتب عسكرية عالية لبعض العسكريين البسطاء وتم ترقيتهم إلى أعلى درجة في السلم العسكري، مثلا من عريف إلى فريق. وكما يعلم الجميع فإن مثل هذه الإجراءات تثير حفيظة الضباط الآخرين الذين قضوا عشرات السنين في الجيش ليصلوا إلى رتبهم التي كانوا فيها. فكيف يقبل هؤلاء العسكريين أن يعين شخص غريب عن الجيش ومؤسساته ليصبح بين ليلة وضحاها قائدهم الأعلى، كما تم بالنسبة لصدام نفسه أو لحسين كامل أو لقصي صدام حسين.. الخ. ولهذه الأسباب وكما يقال بأن كامل حسين قام بالخيانة نظرا لخلافاته الشخصية مع عدي صدام حسين وربما إن إحدى الدوافع التي وراء خيانة رئيس الحرس الجمهوري خلال سقوط بغداد تعود إلى خلاف هذا الأخير مع قصي صدام. وإذا كان صحيحا أن سبب اتفاق رئيس الحرس المذكور مع الأمريكان يعود إلى خلافات عائلية بين أفراد الأسرة الحاكمة، يحق لنا أن نتساءل: هل إن أغلب أفراد هذه العائلة مصابين بمرض الخيانة للأجنبي؟ لأنهم بدل أن يصفوا خلافاتهم فيما بينهم بأية وسيلة كانت، أي مثلا قتل صدام وأولاده، يضحون بالعراق ويقدمون أنفسهم لقمة سائغة لألد أعداء العراق والأمة العربية. وفي الحقيقة كنا نأمل أن يقوم رئيس الحرس المذكور مع من يثق به بانقلاب عسكري ضد ابن عمه، ولو أنه حقق ذلك لجنب العراقيين، كل ما عانوه من قتل وتعذيب وتجويع على أيدي القوات الغازية وجنب العراق التخريب والويلات التي عاناها والتي سيعانيها لسنوات طويلة. ولكن هل إن الصهاينة والأمريكان يوافقون على ذلك أم إنهم يريدون احتلال العراق مباشرة لفرض ما تريده الصهيونية العالمية من شروط لتحقيق مصالحها؟ 2 رؤساء العشائر: في بداية ثورة يوليو 1968 أصدر مجلس قيادة الثورة قرارا يمنع بموجبه إضافة أي لقب لاسم الشخص سواء كان عائليا أو عشائريا أو ينسب للمدينة التي ولد فيها أو ينتسب إليها. ثم أصدر نفس المجلس قرارا بالسماح للرئيس أحمد حسن البكر، رئيس الجمهورية في ذلك الوقت بالاحتفاظ بلقبه لكونه أصبح معروفا على المستوى الدولي، علما بأن البكر ليس لقبا لعشيرة أو عائلة أو اسما لمدينة. هذا الإجراء كان الغرض منه القضاء على النظام العشائري وتعزيز الشعور بالمواطنة وبالانتماء للقومية العربية وهو الهدف الأسمى لكل عراقي دون تميز بسبب الانتماء العشائري. ولكن بعد غزو العراق من قبل قوات التحالف عام 1991 وما تبعها من انتفاضات وبالأخص في جنوب العراق وشماله التي كانت مدعومة من جهات أجنبية قرر صدام حسين، بعد أن اكتشف أن التنظيم الحزبي لا يمثل فعلا الإطار الذي تذوب فيه المشاعر العشائرية الالتجاء إلى رؤساء العشائر ليقوموا، حسب تصوره بحماية النظام إضافة إلى التنظيم الحزبي. ولهذه الغاية قام بمنح رؤساء العشائر المعروفين رواتب ومكافآت وامتيازات كثيرة لا نري داعيا لتعدادها. إضافة لذلك، في بعض المدن الصغيرة، تم تعيين أشخاص على أساس أنهم رؤساء عشائر مع أن أغلب هؤلاء لا يمثلون سكان المدينة ولا الغالبية من عشائرها، وهؤلاء طبعا حصلوا على امتيازات كثيرة. خلاصة بعد استقراء هذه الوقائع والقصص يستطيع القارئ أن يستنتج، بكل بساطة، بأن عدد المستفيدين من النظام السابق محدود جدا، وأن الغالبية الساحقة من البعثيين والمواطنين بشكل عام كانوا يحقدون على صدام حسين ونظامه لأنه أعطى أغلب خيرات العراق لشرذمة قليلة من عشيرتهم أو لبعض أبناء مدينتهم وللمقربين منه، وترك بقية الشعب العراقي يعيش الحرمان وبالأخص في ظل الحصار الغاشم الذي فرضته قوي الشر على العراق. وأخيرا يجب أن لا يفوتنا ذكر ما قام به صدام حسين من صرف مبالغ خيالية لبناء قصوره الفخمة والتي لا تعد وكذلك لبناء الجوامع الكبيرة التي تحمل اسم الرئيس المذكور في أغلب مدن العراق. لكل الأسباب المذكورة أعلاه فإن الغالبية العظمى من المواطنين لم تكن لديهم أية رغبة للدفاع عن صدام حسين أو عن نظامه. والأشخاص الذين كانوا يدافعون عن النظام المذكور جميعهم كانوا يحتلون مواقع متقدمة في الحزب أو في الدولة، إذ كانوا يتخذون هذه المواقف بدافع الخوف من أن تصل مواقفهم السلبية، في حالة سكوتهم عن الانتقادات التي توجه للنظام أمامهم، إلى صدام حسين أو إلى أحد مقربيه، وإذا وصلت فإنهم لا يفقدون مواقعهم القيادية فقط بل يفقدون حياتهم وأموالهم ويعرضون حياة عائلاتهم وأقربائهم للخطر أيضا، كما هو معروف علما بأن أغلب الذين كنت ألتقي بهم كانوا من البعثيين وذلك لكوني كنت إطارا متقدما في الحزب المذكور في السبعينيات. بعد كل ما قدمناه نرى أنه من الخطأ، عندما يتكلم أحدهم عن النظام السابق، أن يقول فترة حكم حزب البعث بل يجب أن يقول نظام صدام وذلك لأن حزب البعث كان، وبالأخص منذ أن أصبح حسين الرجل الأول في العراق، تابعا للسلطة ولم تكن للحزبيين أية حرية للتعبير عن آرائهم حتى في ما كان يطلق عليه المؤتمرات والاجتماعات أو الانتخابات الحزبية التي لم تكن سوى مسرحيات إعدام يقال فيها أو ما يصدر عنها مسبقا من قبل الطغمة المسيطرة على النظام، أي صدام والمقربين منه. لذا من الظلم القول بأن صدام ظلم الشيعة أو الأكراد أكثر من غيرهم لأن الذي وقع عليه الظلم هو الشعب العراقي بكافة مذاهبه وطوائفه، وللحقيقة نقول بأن أكثر من تضرر في فترة حكم صدام هم السنة وبالأخص سكان مناطق الفلوجة والرمادي وسامراء. وفي هذا المجال رأينا أحد رجال الشيعة يؤيدنا فيما طرحناه ألا هو الشحماني الذي يقول عن هذا النظام وزع ظلمه بعدل ثم يؤكد بأن هناك شيء مشترك بين جميع أفراد الشعب العراقي سواء شيعة أو سنة وهو تعرضهم جميعا للظلم. ويتابع نفس الشخص أن أساس الظلم كان المنفعة والمصلحة وليس كون النظام شيعيا أو سنيا. وختاما لتخرس كافة الألسنة والأقلام العميلة والمأجورة التي تحاول الصيد في الماء العكر للتفريق بين أبناء شعبنا ومحاولة تقسيمه على أساس مذهبي أو طائفي أو قومي، وذلك بتأجيج الخلافات الطائفية والدينية لخدمة المحتلين الذين يرفعون دائما الشعار الاستعماري المعروف فرق تسد، وليكن شعار كافة العراقيين يد واحدة وصوت واحد لقيادة النضال بكافة الوسائل وبالأخص النضال المسلح لمحاربة القوات المحتلة، وتطهير بلدنا من كافة المحتلين الذين دنسوا تراب أرضنا الطاهرة لكي لا يتحول العراق إلى فلسطين ثانية. د. عبد الإله الراوي دكتور في القانون وصحافي عراقي سابق مقيم في فرنسا عن القدس العربي