الأرقام التي نشرتها إحدى الجرائد الوطنية عن الريع الإعلامي والتكاليف الخيالية التي تدفعها القناة الأولى لشركة إنتاج «رايا برود» التي تنتج برنامج «كوميديا»، تثبت أن تأكيد دفاتر التحملات على قضية الشفافية والحكامة وإقرار معايير تضمن تكافؤ الفرص هو ناتج عن قراءة دقيقة لواقع القطب العمومي الغارق في سوء التدبير المالي. إذ تكلف حلقة واحدة من هذا البرنامج القناة الأولى 70 مليون سنتيما، وتحصد شركة الإنتاج لوحدها ما يقرب من نصف المبلغ 30 مليون بالإضافة إلى ما يحصله أحد مالكي شركة الإنتاج الذي يوجد ضمن لجنة التحكيم مع أنه لم يسبق له أن كانت له تجربة في الكوميديا ولا خبرة بها، فهذا بكل المقاييس هو قمة تبديد المال العام. المفارقة في هذا البرنامج الأسبوعي، أنه مع السخاء الذي يتعامل به مع شركة الإنتاج ومع لجنة التحكيم التي يتقاضى أفرادها ما بين 6 و7 ملايين سنتيم للحلقة الواحدة، ومع منشط البرنامج الذي يحصل على أكثر من أربعة ملايين سنتيم للحلقة الواحدة، أن الفنانين الذين يشاركون في هذا البرنامج لا يتقاضون أي تعويض مالي، كما أن خريجي برنامج «كوميديا» لا يحصلون هم الآخرين على أي تعويض! الأمر لا يتعلق بشركة إنتاج واحدة، فقد امتد الريع الإعلامي إلى حصر التعامل مع شركات بعينها تحتكر الإنتاج التفلزي، وتحصد أموالا خيالية في غياب مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص، وفي غياب أطر قانونية للرقابة على الجو العام التي تمر فيه الصفقات، حتى صارت أسماء بعض شركات الإنتاج مثل عليان ورايا برود وبيبليك وإيفانت وأركولت كوم، وناس كوم وسبيكتوب ضامنة لمداخيلها لا تخاف أية منافسة ولا تلزم بشروط تتعلق بالجودة لمجرد أن العلاقات قد نسجت، والريع الإعلامي قد تكرس كتقليد يخلف ما تقتضيه القواعد المهنية ومبادئ الحكامة. لهذا السبب، كانت الرداءة هي العنوان الأبرز لكثير من البرامج التي تفرض على المشاهدين، فبرنامج «كوميديا» نفسه الذي كان في دورته الأولى متألقا، صارباهتا وانخرط في الرداءة، لأن الريع الإعلامي لم يبق مجالا للجودة ولا للمتعة. لقد اتضح اليوم جليا، أن المدخل لإصلاح قنوات القطب العمومي هو الحكامة الجيدة وضمان مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص، واتضح أيضا أن الرداءة الإعلامية هي قرينة الريع وصنيعته، وأن النهوض بالإعلام العمومي لا يمكن أن يتم من غير القطع مع السياسات الريعية التي كانت توجه المرفق الإعلامي العمومي. المثير في هذا المشهد هو حجم الانتقادات التي كانت ولا تزال توجه كل سنة للأداء الإعلامي، وإجماع مختلف المكونات على أن الرداءة هي العنوان العريض الذي ينسحب عليه، ومع ذلك، فإن المقاربة الريعية لم تترك الفرصة، لسماع هذه الانتقادات، بلأحرى التجاوب معها، فقط لأن هناك جهات تنتفع من هذا الريع، وتحرص على استمراره، وتحارب من أجل ألا تدخل الحكامة الجيدة المرفق الإعلامي العمومي. بكلمة، إن ما حدث من تمرد لبعض رموز الإدارة في قنوات القطب العمومي لا يمكن أن يكون معزولا عن إرادة مقاومة الإصلاح وحماية الريع، خاصة وأن الشق المتعلق بالحكامة الجيدة وتكريس مبادئ الشفافية وتكافؤ الفرص كان حاضرا بقوة في دفاتر التحملات. أولوية السياسات العمومية المؤطرة لهذا المرفق، أن تتجه بإصرار لمحاربة هذا الريع، وأن تستمر في مسارها الإصلاحي مركزة على هذا الشق، فهو المدخل الأكيد لإحداث القطيعة مع الرداءة وتحقيق مصالحة للمواطن المغربي مع إعلامه العمومي.