الاحتلال، وقد أُنجز على أساس أهداف في نفس الوقت سياسية واقتصادية، هو مجموع الإجراءات والتصرفات التي تسمح لأمة قوية وأكثر نموا وتطورا، ومتقدمة أكثر؛ من حيث الحضارة المادية، أن تستقر على الدوام عند شعب أضعف وأن تمسك بمصيره بين يديها بأقل جهد، وبالطرق الأكثر مرونة والأقل إيلاما، بحيث يمكن تقبلها بسهولة من طرف الشعب المرغم على الخضوع. بإنجازه للاتصال المباشر لحضارة عتيقة وتقليدية مع حضارة عصرية، متسببة إذن في صدام بين عقليتين لهما أساليب مختلفة في الإدراك، و في التخيل، وفي ردود الأفعال، فإن الغزو الأوروبي لبلاد الإسلام نادرا ما يتم القبول به عن رضى، فعند الإنسان المسلم هذا الغزو يصدم أكثر العواطف الدينية حساسية. ألا يتسبب في هيمنة الاحتكاك بالقوة لجنس من الناس ظلوا يُعتبرون أنجاسا، وها هم بجميع تفاصيل الحياة يصفعونه ويهينونه؟ بالنسبة للأمازيغي ، فهذا الغزو يثير الخوف من الأجنبي. وهو بتأثير ممن يحرضونه؛ فإنه لا يتصور الغزو إلا في الشكل الوحيد الذي لم يعرف غيره طول تاريخه: الاستحواذ على الأراضي والاستئثار بها وبالثروات، واغتصاب النساء، بل أسوأ من ذلك؛ فهذا الغزو الذي يقوده أتباع ديانة عدوة، وهذا السلب سيصاحبه بلا شك تدمير لكل ما يمثل أسس المجتمع المحلي. وإلى جانب النكبة الشاملة والكارثية للعادات والأخلاق التي سوف يجلبها معه، سوف تضاف فكرة بلبلة وانقلاب مرتقب، ومن هنا كانت تلك الحكايات العبثية حول عادات وتقاليد المنتصر. ما الذي يمكن انتظاره من النصراني القادم من البحر؟ الذعر من التغيير، الدفاع عن أرض شحيحة ولكنها حاضنة ومُعيلة، هما الباعثان الكبيران اللذان يثيران رد الفعل المناهض عند الأمازيغي المحلي. الأجنبي هو عامل تغيير. بينما في الإسلام البدائي لا شيء أحسن من الاستمرار والثبات. ومن هذا فالجديد لا يمكن أن ينتج أي خير. إن ما يُسمى بالتغلغل الهادئ هو المنهجية الناعمة والمتأنية لتدجين هؤلاء الجفلى. ولكنها يجب أن تُسبق مع ذلك حتى تكون فعالة باستعراض ظاهر للقوة. إن البورجوازيين، والأعيان، والصناع التقليديين في المدن، والفلاحين في السهول أو في الجبال، لن يرضخوا إلا للقوة، سواء خوفا من جهازها المستعرَض أمامهم بقوة، أو لأنهم سبق أن عانوا من سوطها الذي لا يقاوم. إن رأي الطبقات الحاكمة والحضرية يمكن تلخيصه فيما يلي: «إن غزو النصارى شر مهول، إنه كمثل وباء الطاعون؛ ولكن كيف يمكن مقاومة آفة تتجاوز ضعفنا الشديد؟ أمام المستحيل لا شيء ممكن وفوق طاقتك لا تلام؛ لنتحمل ما لاطاقة لنا به، مع الاحتفاظ بالأمل في أن هذا البلاء،-الذي هو ابتلاء من الله وناشئ عن إرادته كما هو حال كل شيء في هذه الحياة الدنيا- لابد وأن تكون له نهاية يوما ما». وهذا المقطع من كتاب الاستقصا (وهو كتاب أُلِّف في المغرب منذ أزيد من ثلاثين سنة) يترجم بوضوح هذه العقلية القدرية: «لا يخفى أن النصارى اليوم على غاية من القوة والاستعداد والمسلمون -لم الله شعثهم وجبر كسرهم- على غاية من الضعف والاختلال، وإذا كان الأمر كذلك فكيف يسوغ في الرأي والسياسة، بل وفي الشرع أيضا أن ينابذ الضعيف القوي، أو يحارب الأعزل الشاكي السلاح، وكيف يُسْتَجَازُ في الطبع أن يصارع المقعدُ القائمَ على رجليه، أو يعقل في النظر أن تناطحَ الشاةُ الجَمَّاءُ الشاةَ القرناءَ؟». ونجد مقطعا بعده بأسطر يقول: «وما مثلنا ومثلهم (أمم النصارى) إلا كمثل طائرين أحدهما ذو جناحين يطير بهما حيث شاء، والآخر مقصوصهما، واقع على الأرض لا يستطيع طيرانا ولا يهتدي إليه سبيلا. فهل ترى لهذا المقصوص الجناحين الذي هو لحم على وضم أن يحارب ذلك الذي يطير حيث شاء؟». من هذا الشعور بلا جدوى مقاومة عاجزة يمكن للولاء أن ينبعث على شكل مواربة هي في نفس الوقت فريدة و منطقية. والروائي "موريس لوغلي" الذي تغلغل عميقا داخل النفسية المغربية، يقول على لسان إحدى شخصيات روايته، وهو زعيم قبيلة أمازيغي هذه الكلمات المعقولة، على الأقل في عمقها: «كن على يقين - قال لي القايد ادريس، قايد بني مطير-، أنني لو اعتقدت شعبي قادرا على العيش بمفرده، وعلى أن يقود نفسه بنفسه، لما كنت إلى جانبكم. ولكنني أعلم أنه حتى يكون في وضع يسمح له بممارسة الحكم، عليه أولا أن يتحكم في الفوضى المهيمنة، وأن يوحد قواه ثم ينتصر. لو أنه كان يملك هذه الصفات لرأيتني على رأسه أقاتلكم بكل ضراوة واستبسال، ولدفعتكم إلى الساحل، ورميت بكم في البحر الذي جئتم منه. ولكنني فقدت كل أمل في أن يقدر شعبنا على النصر. إنكم أقوياء جدا، ومنضبطون وجدا ومدربون جدا. ثم إنكم لستم وحدكم في هذا. فلو لم تكونوا أنتم، فإن أمة أوروبية أخرى سوف تحتلنا وتُخضِعنا إن عاجلا أو آجلا. هذا مكتوب للأبد في فكري، الصراع سيكون طويلا، دمويا ، ومقاومة إخواني ستكون مؤلمة، ستكون مؤلمة جدا، وبدون طائل أو جدوى». (من رواية "موت محند" للكاتب "موريس لوغلي"، الصفحة 224، من فصل "بادة، بنت أمازيغية"). صحو ووضوح كثير ما يحدث هنا، ولقد عرفنا كيف نستفيد منه بالمكافأة عليه. إن فكر الفوائد الممكن إحرازها بانضمام غير متأخر جدا إلى الغازي المحتل، الذي هو وحده يمَكِّن من الحصول على سلطة راسخة ومكرسة، بل وحتى متزايدة النفوذ تحت ظل المحتل، هو تفكير لَطَّف دائما في بلاد المسلمين ولَيَّن العديد من الممانعة والمقاومة، ولكن، أي ثنائية تلك التي تستمر كامنة دائما بين حساب العقل و الذكاء الذي يقبل بالأجنبي، والدعوة القوية لعاطفة وسلفية المقاومة التي تريد أن تفنيه!؟ الشيخ سيد إمام الشهير بالدكتور فضل في مراجعاته: