كثر الحديث في السنوات الأخيرة عن إصلاح القضاء وخصوصا مع بداية ما يسمى بالعهد الجديد . وقد ترجم هذا الحديث إلي مبادرات محدودة كإيقاف بعض القضاة وتغيير بعض القوانين مع إجراء حملات تفتيشية داخل بعض المحاكم . وقد جاء الخطاب الأخير للملك ليؤكد أن القضاء يعرف التردد والإنتظارية ويحتاج إلى إصلاح . وفي هذا الإطار قمنا باستطلاع آراء بعض رجال القانون حول الإصلاح الحقيقي لهذا القطاع بحكم أنهم أكثر الفئات احتكاكا به . وبداية أجرينا الحوار التالي مع الأستاد خليل الإدريسي، محام بهيئة الرباط وطالب باحث في القانون الخاص، "وحدة قانون المقاولات"، ومهتم بالمجال الحقوقي بالمغرب. وقد تطرق في هذا الحوار إلى الخلفية السياسية والأمنية التي تحكم الإصلاح القضائي و التشريع القانوني ودور مكونات العدالة في هذا المجال والمعيقات التي تعترض سبيل الإصلاح. نبدأ بالسؤال المحوري في هذا الحوار، وهو كيف ترون إصلاح القضاء بالمغرب بصفتكم تمثلون مكونا من مكونات العدالة بالمغرب والمتمثل في هيئة الدفاع؟ عندما نتحدث عن إصلاح القضاء بالمغرب، يجب ألا ننسى أننا نتحدث عن قطاع أساسي وهام وحيوي داخل المجتمع، وبالتالي فالموضوعية تقتضي أن نتناوله في إطار التوجه العام الذي تعرفه سياسة الدولة. وعليه فإنه لا يصح الحديث عن إصلاح قطاع معين والحال أن باقي القطاعات تعرف الفساد، كما أنه لا يتأتى أي إصلاح جزئي داخل فساد كلي، ومن ثم فأي إصلاح كيفما كان نوعه وحتى يعطي نتائجه الإيجابية يجب إدراجه في سياق إصلاح شمولي للمجتمع. إن إصلاح القضاء مرتبط بإصلاح ميادين أخرى كإصلاح التعليم والإعلام والتشريع، كما أن الإصلاح الأساسي يجب أن يطال الإنسان الذي هو محور أي عملية تغييرية، بالإضافة إلى أن القضاء مرتبط بوجود إرادة سياسية قوية ترغب في تغيير حقيقي للمجتمع. أما إذا كانت هذه الإرادة السياسة أصلا لا تريد للقضاء أن يؤدي دوره الحقيقي فلا يمكن الحديث آنذاك عن أي إصلاح. عندما نتحدث عن إصلاح القضاء فإن الأساس فيه هو إصلاح القوانين حتى تستجيب لمتطلبات وحاجيات المجتمع، فهل ترى أن ذلك وحده كافيا؟ الكل هذه الأيام يتحدث عن إصلاح القضاء، ومعلوم أنه كجهاز له مجموعة من المكونات، تحاول في إطار علاقة متكاملة فيما بينها أن تصنع العدالة في هذا البلد، فالقضاء لا يمثله القضاة فقط، وإنما يشمل القضاة والمحامين والخبراء وكتابة الضبط والأعوان وآخرين... هذا على مستوى الجهاز، أما على مستوى المادة التي يشتغل عليها هذا الجهاز، فهي المادة التشريعية، وهي أداة فعالة من أدوات صنع العدالة في بلدنا وفي باقي البلدان الأخرى، بالإضافة إلى الفضاء الذي يشتغل فيه هذا الجهاز وهو ما يصطلح عليه بالبنية التحية. وإذا أردنا أن نتحدث من داخل هذه المكونات عن إصلاح التشريعات أو القوانين فإننا نطرح سؤالا جوهريا وهو: ما هي الخلفية التي تحكم إصلا هذه القوانين؟ فهل هي خلفية حقوقية مجتمعية نابعة من حاجيات المجتمع، أم أنها خلفية أمنية تسير في ركاب توجه النظام الدولي الجديد الذي تديره أمريكا ومن معها، فهناك فرق كبير بين هذا الأخير وبين التوجه الدولي الحقوقي والمجتمعي، فالأول يحكمه الهاجس الأمني ومكافحة كل من يهدد استقرار الأنظمة السياسية كما يحدث الآن فيما يسمى بالحرب على "الإرهاب". والثاني تتقاطع فيه مجموعة من الفعاليات والمنظمات غير الحكومية التي تطالب بملاءمة التشريعات الوطنية مع ما تتطلبه المواثيق الدولية وحقوق الإنسان والعدالة الاجتماعية، فالخلفية التي تحكم الإصلاح التشريعي يجب أن نقف عندها كثيرا ونحدد ما الدافع إلى تغيير القانون، هل هو دافع سياسي محض، أم هو دافع حقوقي مجتمعي. وبالنسبة للمغرب فأنا أشك أن ما تقوم به وزارة العدل أو الدولة الآن من إصلاح للقوانين يدخل في إطار إصلاح حقوقي ومجتمعي وهذا يتضح باستنطاق هذه النصوص ذاتها... حتى لا تبقى هذه الفكرة عامة، هل يمكن أن تعطي لنا مثالا من هذه النصوص التشريعية؟ القضاء إذا أراد أن يقدم منتوجا الذي هو العدالة فيجب أن يتوفر على نص تشريعي صالح وملائم ويحقق المقاصد التي من أجلها وضع، أما في المغرب فإن هذا النص إما نص غامض أولا يواكب تطور المجتمع وحاجياته الإنسانية، وإما نص غائب أو معطل لا يطبق أو نص معيب يحمل في طياته بوادر عدم تحقيق العدالة. ويمكن أن نعطي مثالا بمشروع قانون المسطرة الجنائية المعروض حاليا على البرلمان، فهذا النص التشريعي عهد به إلى فريق داخل وزارة العدل، مكون جله من أشخاص كانوا مسؤولين في النيابة العامة في مجموعة من محاكم الاستئناف بالمملكة، وبالتالي لم يشرك في هذا الفريق لا قضاء الحكم ولا هيئة الدفاع ولا أي مكون آخر من المكونات السالف ذكرها، كما أن هذا الفريق لم يؤخذ في عمله بعين الاعتبار بتوصيات الحقوقيين والأكاديميين، أو بتوصيات مثلا جمعية هيآت المحامين بالمغرب، ومن المفروض أن تكون هذه التوصيات إحدى وسائل تغيير النص التشريعي، فبتأمل بسيط في نصوص مشروع المسطرة الجنائية نجد أن النيابة العامة حظيت بنصيب الأسد فيه، بل يمكن القول أنه تم سحب مجموعة من الصلاحيات الممنوحة لقضاء الحكم وأعطيت للنيابة العامة، وهذا فيه مس خطير بحقوق الإنسان، كما تم التراجع بشكل سلبي وواضح حتى عن "المكتسبات" المتضمنة في النص الحالي. وهذا ما يؤكد أن واضع هذا المشروع لم تكن تحكمه خلفية حقوقية إصلاحية، بل تؤطره سياسة أمنية تحاول تطويق الحريات العامة للمواطن. وهذا بطبيعة الحال يحق قياسه على مجموعة أخرى من التشريعات. فإذا أردنا أن نصلح القضاء يجب أن نقر بالفساد أولا وأن نشخص أسبابه، وإذا أردنا أن نغير نصا قانونيا فعلينا أن نعرف لماذا اعتبر النص القديم غير صالح. تحدثنا عن الإصلاح، وهذا معناه أن هناك فساد واقع فما هي في نظركم مظاهر هذا الفساد؟ كل متحدث عن هذا القضاء ينطلق افتراضا من أن القضاء فاسد وهذا أمر يجب التدقيق فيه، فليس القضاء هو الذي يعرف الفساد، بل إن الأمر أبعد من ذلك، والسؤال الذي يجب طرحه هو: هل القضاء في المغرب يحقق العدالة للمجتمع؟ الجواب بكل بساطة هو أن القضاء لا ينتج العدالة في المغرب، مع العلم أن العدالة هي نسبية أصلا لكنه لا ينتجها حتى في تلك النسبية. لماذا؟! لأن القضاء كجهاز في المغرب لم يرد له يوما من طرف أصحاب القرار أن يكون جهازا لتحقيق العدالة، فلا يمكن أن يأتي هذا الجهاز بشيء خارج إرادة من يحكمه، لأنه خلال مراحل تاريخ المغرب كان يتم توريط القضاء في مجموعة من القضايا التي لا علاقة له بها، وهي قضايا سياسية في الأصل كانت تحال عليه لتصفية حسابات مع جهات معينة، هذا بالإضافة إلى ما قلناه عن النصوص التشريعية. كما تجدر الإشارة إلى أن الفضاء أو البنية التحتية المخصصة لهذا الغرض لا تستجيب لتحقيق العدالة. ويمكن أن نعطي مثالا لذلك، فعلى مستوى مدينة الرباط نجد دائرة نفوذ المحكمة الابتدائية واسع جدا على المستوى الجغرافي والكثافة السكانية، فهي تتوفر فقط على ست قاعات وعدد محدود من القضاة لا يتلاءم مع عدد القضايا المعروضة عليها، فالقاضي الذي يدخل إلى جلسة الحكم محملا ب 300 ملف على الأقل، ومطالب أن يناقش بعضها ويبت في البعض الآخر لا يمكنه أن يحقق العدالة المنشودة من طرف المواطن. على ذكر المواطن، فماذا عن مسؤوليته في هذا الفساد؟ الأزمة عامة والمسؤولية مشتركة، فالمواطن يعتبر المستهلك الأول للمنتوج القضائي، وبناء على القاعدة الاقتصادية المعروفة، الجودة يفرضها المستهلك وليس المنتج، فهذا الأخير إذا وجد من يستهلك منتوجا فاسدا فإنه سيستمر في إنتاجه، إذ أن المواطن يجب أن يؤهل على جميع المستويات التعليمية والتربوية، إذ أن إصلاح القضاء وباقي قطاعات المجتمع يقتضي بالأساس تحرير المجتمع من 68% من الأمية. وفي غياب التربية والتعليم تنتشر الأوبئة المجتمعية كالرشوة والمحسوبية وغيرها، ومع الأسف أن المواطن في المغرب ليس في مستوى أن يفرض جودة معينة على المنتوج القضائي أوأي منتوج آخر، إن لم نقل أنه أحد الأطراف الأساسية فيما نعرف من فساد. وماذا أيضا عن دور الدفاع؟ لا يمكن أن نستثني جهاز الدفاع عما قيل عن المجتمع ككل. فالمحامي أيضا يتعامل مع المواطن الذي ذكرناه، وأصحاب الضمائر المنعدمة داخل المجتمع والمفتقرة لأي وازع ديني أو أخلاقي أو إنساني نجدها في كل مكان، كما أن الأخيار موجودون في كل مكان. وعلى العموم فهيئة الدفاع هي جزء من العدالة بالمغرب، تتأثر وتؤثر في مكوناتها بشكل جدلي. ننتقل بالحديث إلى طرف آخر في عملية إصلاح القضاء وهي وزارة العدل، فكيف يمكن لهذه الوزارة أن تساهم في هذا الإصلاح وهي جزء من السلطة التنفيذية بالبلاد؟ عندما يتم الحديث عن القضاء بالمغرب فيتم الحديث عنه كجهاز، إذ أنه على المستوى الهيكلي والتنظيمي نجده تابعا للسلطة التنفيذية لأنه مرتبط بوزارة العدل، هاته الأخيرة التي تعد المسؤول عن تحقيق العدالة داخل المجتمع، فالقضاة مرتبطون إداريا بهذه الوزارة. ومن ثم يمكن أن يقال بأن القضاء في المغرب لا يتمتع بسلطة وليست لديه مقوماتها، مقارنة مع السلطة التشريعية أو التنفيذية، فحتى الدستور عندما يتحدث عن استقلال القضاء فهو يتحدث عنه كجهاز، والمغرب عموما لا يعرف فصلا حقيقيا للسلط وهذا حديث آخر. هذا الحديث يجرنا إلى القول بأن القضاء غير مستقل بالمغرب؟ القضاء بالمغرب غير مستقل لأنه بكل بساطة لم يرد له في وقت من الأوقات أن يكون مستقلا. فإذا أردنا أن نحقق هذا المبدأ فينبغي أن نربي كل مكوناته على الاستقلالية والنزاهة والاستقامة، كما يجب إعادة النظر في علاقة الجهاز القضائي بوزارة العدل، وكذا مساعدته على التحرر من الضغط المادي، هذا الهاجس الذي يهيمن على قيم المجتمع ككل. فإذا تم تجريد القاضي من كل هذه الشروط كيف يحق لنا أن نطالبه بأن يكون مستقلا. وكيف لنا أن نطالبه بذلك ونحن نرى في بعض القضايا عسكرة وتطويقا أمنيا للمحاكم. وهذا كله بطبيعة الحال يؤثر على استقلالية القضاء وعموما على شروط المحاكمة العادلة. بصفتكم تنتمون إلى جهاز الدفاع ما هي طبيعة المشاكل التي قد تعترض عملكم مع القضاء؟ إن أم المشاكل التي أراها تعيق سير العدالة في هذا البلد هي بطء الإجراءات، وهو بطء قاتل، فلا يعقل أبدا أن يكون هناك ملف قضائي كي يدرج في جلستين ويؤجل لمدة سنة. وهذا المشكل لا يمكن رده إلى القاضي لأن هذا بدوره سيرده إلى المحكمة، وهذه الأخيرة تضم عدد قضاة لا يتناسب مع عدد الملفات أو القضايا المعروضة عليها، وكذلك التجهيزات لا تتناسب مع مستوى المحكمة، وكأننا ندور في حلقة مفرغة لا نهاية لها. وأقول في الأخير أنه ينبغي أن تكون هناك إرادة حقيقية تستوجب إشراك جميع مكونات المجتمع في التفكير والتخطيط والتنفيذ. أجرى الحوار عمر العمري