ننشر سلسلة حوارات مع سياسيين، ومناضلين ومفكرين واقتصاديين وباحثين منشغلين باسئلة المغرب الراهن، علي ضوء عشر سنوات من العهد الجديد. ونحن نريد بذلك حوارا مع الفاعلين ومع تحولات هذا الواقع المغربي نفسه ، الذي بدأت ابدالاته الكثيرة تطرح نفسها على الحاضر والمستقبل. في السياسة كما في الاقتصاد أو في التمثل الثقافي، جاء العهد الجديد بالكثير من المتغيرات كما أنه يحافظ على الكثير من الثوابت..وكما يحدث في كل فعل تاريخي ، يكون الجوار الزمني بين الحاضر والمستقبل موطن افرازات وانتاجات، مادية وتاريخية تستحق المساءلة والاستنطاق. اليوم مع خديجة الرياضي، رئيسة الجمعية المغربية لحقوق الإنسان مكتب الرباط: عبد الحق الريحاني } عادة في المجال الحقوقي تستأثر الحقوق السياسية بالاهتمام اللازم والكافي إلا ان الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية يبقى الحديث عنها والنضال من أجلها مهمشا إن لم نقل في بعض الأحيان منعدما، كيف ترون هذا الموضوع، ولماذا يتم التغاضي ونسيان هذه الحقوق علما بأنها أساسية وضرورية في حياة الإنسان. >> فعلا، رغم قناعة الحركة الحقوقية بشمولية حقوق الإنسان يبقى في الواقع المجهود والإمكانيات التي تخصص لمعالجة أوضاع الحقوق السياسية والمدنية أكثر مما يخصص للحقوق الاقتصادية والاجتماعية. ولهذا الواقع أسباب متعددة منها ما هو مرتبط بالتاريخ كالصراع الذي جرى بين الدول الرأسمالية والدول الاشتراكية عند صياغة وثيقة إجرائية للإعلان العالمي لحقوق الإنسان الناتج عن تصور كل جهة لحقوق الإنسان، حيث تعتبر الأولى أن الحقوق الفردية هي الأساسية وعليها تنبني الديمقراطية بينما الثانية تعطي الأولوية للحقوق الاقتصادية والاجتماعية وحقوق الجماعات وتمخض عن هذا الصراع صدور وثيقتين هما العهد الدولي الخاص بالحقوق السياسية والمدنية والعهد الدولي الخاص بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية إلا أن موازين القوى على مستوى دولي أدى إلى تعزيز العهد الخاص بالحقوق السياسية والمدنية ببروتوكولين اختياريين وآليات تتبعه وتنفيذه وبقيت الوثيقة الأخرى مهمشة ولم يصدر البروتوكول الملحق بها إلا مؤخرا. وهذا الجانب التاريخي ينطبق أيضا على الحركة الحقوقية المغربية التي تأسست في مرحلة عرفت قمعا دمويا ومواجهة قوية من طرف الحكم ضد معارضيه حيث أثرت تلك الشروط في تحديد ليس الأولويات بل مهمة الحركة الحقوقية في حد ذاتها ولم ينطلق العمل الفعلي في مجال الحقوق الاقتصادية والاجتماعية إلا في بداية التسعينات إلا أن التراجعات التي عرفتها بعض المكاسب الجزئية التي تحققت في التسعينات في مجال الحريات والحقوق السياسية والمدنية أثر من جديد على محاولات التوازن بين الصنفين من الحقوق. ويرجع هذا التفاوت أيضا إلى تأثر الحركة الحقوقية المغربية بآليات عمل المنظمات الأوربية بالأساس نظرا للدور الهام الذي لعبته في التضامن مع ضحايا سنوات الرصاص ودعمهم للحركة الديمقراطية المغربية (فمنظمة العفو الدولية مثلا تكلمت أول مرة عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية سنة 1994 أي 30 سنة بعد تأسيسها) بينما لا نعرف الكثير عن تجربة الحركة الحقوقية بأمريكا الجنوبية أو في بعض الدول الأسيوية التي تملك خبرة في النضال من أجل الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، لدرجة أنه عندما تثير الجمعية المغربية على سبيل المثال ملف الحقوق الشغلية وحقوق العمال تنتقد بكونها تقوم محل النقابات وعندما تهتم بالقدرة الشرائية للمواطنين وحرمانهم من الحق في العيش الكريم تتهم بأنها تقوم مقام الأحزاب السياسية في الوقت الذي يدخل كل هذا ضمن مهام الجمعيات الحقوقية لأنه يمس حقوقا منصوصا عليها في الإعلان العالمي لحقوق الإنسان وفي مواثيق أخرى. ونحن في مرحلة يجب فيها فعلا تكثيف جهودنا وتطوير أدائنا في اتجاه فرض احترام الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بسبب التردي الكبير الذي عرفته. } تعتبر مدونة الأسرة أحد التشريعات الجد المتقدمة التي عرفتها بلادنا، بل تعتبر تجربة المغرب رائدة في هذا المجال بالنظر لواقع الحال في الأقطار العربية، كيف تقيمون حصيلة تجربة إصلاح هذه مدونة الأسرة، وما اقتراحاتكم في هذا المجال من اجل تدارك النقائص والاختلالات التي أظهرتها عمليات التطبيق؟ >> تعتبر مضامين مدونة الأسرة متقدمة مقارنة مع مدونة الأحوال الشخصية السابقة. وكأن ردود الفعل التي خلفها القانون الجديد في البداية مرده للطابع الجد متخلف للمدونة القديمة أكثر منه لمستجدات المدونة الجديدة . فهذه الأخيرة رغم تنصيصها على المساواة بين المرأة والرجل في الحقوق والواجبات داخل الأسرة وإلغاء واجب الطاعة الذي كان مهينا للمرأة وتمكين المرأة من عقد زواجها دون ولي وبعض التغييرات الأخرى فإن العديد من مظاهر التمييز مازالت قائمة في المدونة الجديدة. ومن بين هذه مجالات التمييز هاته هناك الحق في النيابة الشرعية على الأبناء و شروط الحضانة ومساطر الطلاق وعدم المساواة في الإرث وفي الزواج بغير المسلم ... ثم إن القانون الحالي أعطى سلطة تقديرية للقاضي جد كبيرة حتى في مجالات جوهرية مثل الإذن بزواج القاصرين مما جعل رفع سن الزواج إلى 18 سنة الذي جاءت به مدونة الأسرة مفروغا من مضمونه حيث يأذن القاضي في أكثر من 95% من طلبات تزوج البنات الصغيرات حسب إحصاءات الجمعيات النسائية وسجلت وزارة العدل أن سنة 2007 عرفت تزويج 37000 فتاة قاصر وهو 10 % من الزيجات المسجلة كما عجزت الدولة في تحقيق هدف تسجيل حالات الزواج غير المسجلة بسبب غياب خطة ناجعة وإمكانيات لتحقيق الهدف في الأجل المسطر له وهو 5 سنوات. ولعل أكبر مشكل يواجه الجوانب الإيجابية في مدونة الأسرة هو مشكل التطبيق بشكل عام الذي اصطدم من جهة بالعقلية المتحجرة السائدة وسط القضاء ومن جهة أخرى بعدم توفير الإمكانيات الضرورية من بنيات تحتية وموارد بشرية من طرف الدولة لضمان شروط التطبيق له. أما أشكال تغيير هذا الوضع فيمكن إجماله في ملاءمة المدونة الحالية مع الاتفاقية الدولية لمناهضة كل أشكال التمييز ضد المرأة في صيغة لا تحمل كوابح تنفيذها بداخلها من تناقضات بين موادها وهامش كبير للتأويل المتروك للقاضي كما يجب توفير الإمكانيات الكافية لتكوين القضاة والبنيات التحتية والموارد البشرية المرافقة وتعريف بحقوق المرأة على أوسع نطاق علما أن الوضع الحالي للقضاء كأكثر القطاعات التي تنخره الرشوة والفساد يعثر كثيرا التطبيق السليم لكل القوانين، كما أن حقوق المرأة غير قابلة للتجزيئ فتمتعها بالحقوق المدنية هو رهين بمدى تمتعها بالحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية أيضا. } بإصلاح مدونة الانتخابات والقانون التنظيمي لانتخاب أعضاء مجلس النواب، والميثاق الجماعي وإصدار قانون للأحزاب، واصلاح مدونة الأسرة هل استطاع المغرب أن يرسي الأسس القانونية من أجل إنجاح الانتقال الديمقراطي أم هل هناك عقبات وعوائق أخرى يلزم الانتباه إليها وتطوير ما هو موجود ليتلاءم مع التطورات والتحولات المتسارعة التي يعرفها العالم ؟ >> إن الانتخابات الأخيرة سواء البرلمانية أو الجماعية بعيدة كل البعد عن أن تكون محطة ديمقراطية مكنت الشعب المغربي من اختيار ممثليه بكل شفافية وحرية، بل هي أكدت أن الانتقال الديمقراطي بالمغرب كلام دون مضمون. فالانتخابات في المغرب ليست لحظة ديمقراطية بل محطة تجارية بامتياز تنتعش فيها عملية البيع والشراء للتزكيات وللترشيحات وللأصوات ولعملية الدعاية الانتخابية وعند عقد التحالفات، كما أن الأجهزة المنتخبة ليس لها ما يكفي من الصلاحيات والاستقلالية عن الأجهزة التنفيذية لتتمكن الأحزاب المنتخبة من تنفيذ برامجها، والانتخابات تتم في غياب ثلثي المواطنين المفروض مشاركتهم فيها إضافة إلى التقطيع الانتخابي الذي يستعمل للتحكم المسبق في النتائج مع استمرار انحياز الإدارة واستمرار استعمال المال العام والممتلكات العمومية من طرف البعض. إن هذا الوضع إضافة إلى عقود من القمع الدموي ضد الأحزاب السياسية المعارضة وضد العمل السياسي بشكل عام مع تشكيل أحزاب من طرف الإدارة ساهم في تمييع العمل السياسي مازالت نتائجه مستمرة في غياب تصالح بين السلطة والمجتمع الذي أجهضت تجربة الإنصاف والمصالحة فرصة انطلاقه. كل هذا ينضاف إلى عودة ظاهرة حزب الدولة في الانتخابات الأخيرة الذي تمكن بعد بضعة أشهر من تأسيسه من الحصول على أكبر عدد من الأصوات والمقاعد. فالعوائق والعقبات كثيرة تلك التي تقف دون انتقال ديمقراطي وعلى رأسها استمرار الدستور غير الديمقراطي الحالي الذي يشرعن الاستبداد ولا يمكن الشعب المغربي من تقرير مصيره كما تنص على ذلك المواثيق الدولية لحقوق الإنسان. } هناك ديناميكية تم إطلاقها -مؤخرا- من أجل إصلاح القضاء وضمان استقلاليته، ما هي في نظركم مرتكزات هذا الإصلاح؟ >> شهد المغرب عددا كبيرا من الندوات والدراسات حول إصلاح القضاء، توصلت إلى العديد من التوصيات، من ضمن هذه الندوات تلك المنظمة من الجهات الرسمية، أو من طرف المجتمع المدني أو غيرها من الجهات. إلا أن ذلك لم يعط النتائج المرجوة، وبقي القضاء في المغرب يتسم بالعيوب الكثيرة التي أثيرت سابقا. وقد التأمت مؤخرا 10 جمعيات وبلورت مذكرة أعلنت عنها في شهر أبريل ونظمت حولها عدة لقاءات مع مختلف الفاعلين. إن أهمية التشخيص لوضعية القضاء الذي قامت به الجمعيات المشاركة في بلورة هذه المذكرة، هو إدراج العراقيل الدستورية لاستقلالية القضاء، وهو ما سيضع التحرك من أجل الاستجابة للتوصيات والمطالب المتضمنة في هذه المذكرة يرتبط بجزء من التحرك المطلوب لإقرار دستور ديمقراطي. وفي الجمعية المغربية لحقوق الإنسان نعتبر أن أي إصلاح فعلي للقضاء لا يمكن أن يتم إلا برفع مكانته في الدستور إلى درجة سلطة مستقلة حتى لا يظل مجرد جهاز تحت وصاية السلطة التنفيذية. إضافة إلى أن هذا الإصلاح يتطلب بالضرورة وضع دستور ديمقراطي في كل مضامينه، وفي طريقة بلورته، وأشكال التصديق عليه، بما يقر فصلا حقيقيا للسلط بما فيها الفصل بين الدين والدولة وأيضا الإقرار بسمو القانون الدولي على القانون المحلي. طبعا ينضاف إلى ذلك جودة التكوين وشروط التأهيل لممارسة مهنة القضاء إضافة إلى ظروف العمل لكل المهن المرتبطة بالقضاء وأيضا حق القضاة في التنظيم النقابي ليحموا انفسهم من التعسفات والدفاع عن مصالحهم المادية والمعنوية. } في ظل الواقع الحالي للقضاء، كيف يمكن أن نضمن تحقيق المحاكمة العادلة؟ وما الشروط والمستلزمات التي ترونها أساسية لضمانها؟ >> في ظل الواقع الحالي للقضاء لا يمكن الحديث عن المحاكمة العادلة لأن أول وأهم ضمانة للمحاكمة العادلة هو استقلال القضاء الذي يفتقده القضاء في المغرب، إضافة إلى عدد من الشروط التي تغيب أيضا منها ما يتعلق بالقضاة مثل ما ينص عليه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان من "حق أعضاء السلطة القضائية كغيرهم من المواطنين التمتع بحرية التعبير والاعتقاد وتكوين الجمعيات والتجمع". أي أن " تكون للقضاة الحرية في تكوين جمعيات للقضاة أو غيرها من المنظمات لتمثيل مصالحهم والنهوض بتدريبهم المهني وحماية استقلالهم القضائي، وفى الانضمام إليها،ثم هناك ما يهم حقوق المواطنين و من أهمها مساواة المواطنين أمام القضاء، الحق في التحقيق في مزاعم التعذيب و عدم الاستشهاد بالاعترافات المنتزعة تحت التعذيب، الحماية من الاعتقال التعسفي، الحق في إبلاغ أسرة المتهم بخبر الاعتقال، احترام مبدأ قرينة البراءة، الحق في علانية المحاكمة، الحق في أوضاع احتجاز إنسانية، الحق في استدعاء شهود النفي، الحق في الترجمة عند عدم التواصل باللغة الرسمية للبلد، وغيرها . ويعلم الجميع أن العديد من هذه الضمانات غير محترمة في المغرب ليس في المحاكمات ذات طابع سياسي فقط، ولكن ايضا في المحاكمات بخصوص قضايا الحق العام هي الكثيرة عددا، إضافة إلى محاكمات الرأي ومحاكمات الصحافة والنشطاء الحقوقيين وأغلب محاكمات التي تندرج في ملف مكافحة الإرهاب ومحاكمة النقابيين وكل المحاكمات في ما يسمى بالمس بالمقدسات... ومن البديهي أيضا أنه لا يمكن أن نتحدث عن احترام الحق في المحاكمة العادلة في ظل قضاء ينخره الفساد . وقد أكدت إحدى دراسات جمعية مناهضة الرشوة بالمغرب أن القضاء هو الجهاز الذي تنتشر فيه الرشوة بشكل أكبر. إن الجواب عن هذا الوضع هو احترام شروط وضمانات المحاكمة العادلة وهو كما يستوجب قيام قضاء مستقل والذي ينص عليه دستور ديمقراطي شكلا ومضمونا وتصديقا وقضاء نزيها وكفئا لا يمكن تشييده إلا في إطار دولة الحق والقانون التي يعتبر القضاء المستقل شرطا من شروطها وأيضا إحدى الضمانات لاستمرارها. } لا أشك أنكم تدركون أهمية الديمقراطية في إقرار التنمية المستدامة في أي بلد، كيف تتمثلون العلاقة الجدلية ما بين الديمقراطية والتنمية؟ >> تعتبر التنمية في المرجعية الدولية لحقوق الإنسان "عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية شاملة تستهدف التحسين المستمر لرفاهية السكان بأسرهم والأفراد جميعهم على أساس مشاركتهم، النشطة والحرة والهادفة، في التنمية وفى التوزيع العادل للفوائد الناجمة عنها"، كما أن "إعمال الحق في التنمية يستوجب احترام حق الشعوب في تقرير المصير الذي بموجبه يكون لها الحق في تقرير وضعها السياسي بحرية وفى السعي إلى تحقيق تنميتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية بحرية"، وبذلك ينص الإعلان العالمي للحق في التنمية على ضرورة أن تتخذ الدول خطوات لإزالة العقبات التي تعترض سبيل التنمية والناشئة عن عدم مراعاة الحقوق المدنية والسياسية، فضلا عن الحقوق الاقتصادية والاجتماعية والثقافية.لهذا، فالعلاقة بين الديمقراطية والتنمية يتضح من خلال أن التنمية لا تعني فقط الجانب المتعلق بالحقوق الاقتصادية ولكن أيضا باحترام الحقوق السياسية وكافة الحقوق . والنظام السياسي الذي لا يحترم التوزيع العادل لفوائد التنمية كما جاء في الإعلان المذكور يعرقل الحق في التنمية للشعب، كما لا تكون التنمية دون احترام الحق في المشاركة التي تتطلب احترام الحقوق السياسية والمدنية للمواطنين والمواطنات. انطلاقا من هذا، نعتبر في الجمعية أن الدستور المغربي الحالي الذي يعرقل قيام الديمقراطية هو معيق أيضا للتنمية كما نعتبر أن الانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان السياسية مرتبطة ارتباطا وثيقا بالانتهاكات الجسيمة لحقوق الإنسان الاقتصادية والاجتماعية ونطالب باستمرار بجعل حد للمتورطين في الصنفين والذي في كل الأحوال غالبا ما يكونون نفس المنتهكين.