المدقق في مواقف الجماعة العلمانية في مصر، يرى أنه تحاول فرض الشروط على الحركة الإسلامية وتياراتها المختلفة، رغم أن مواقف الجماعة العلمانية نفسها تحتاج لوقفه. فقد ظهر من مختلف مواقف العلمانيين أن لديهم عدة اتجاهات تمثل مشكلة حقيقية أمام أي تطور ديمقراطي، بل بات واضحا أن التحقق الكامل للحركة والديمقراطية قد يتم عرقلته بفعل مواقف النخبة العلمانية. ومع هذا تحاول النخبة العلمانية توجيه سهام النقد إلى الحركات الإسلامية والأحزاب الإسلامية، وكأن الأخيرة لا تتوافق مع شروط الديمقراطية والمدنية، وغيرها من المصطلحات. لذا يصبح من المهم النظر في تلك القضايا وتحديد معاني المصطلحات، وموقف القوى المختلفة منها، لنعرف التحديات التي تواجه التحول الديمقراطي في مصر. فجماعة العلمانيين في معظمها ترفض أن تسمى بهذا الاسم، وترفض العنوان العلماني، ولكنها في الوقت نفسه تتخذ مواقف تبنى أساسا على الخيار العلماني. ولأن النخبة العلمانية تعتقد أن العنوان العلماني مرفوض جماهيريا، لذا تحاول أن تجد لنفسها اسم آخر، وهو العنوان المدني. وبهذا تقدم نفسها للجماهير على غير حقيقتها. فالمدنية تعني العمل القائم على الإرادة الشعبية الحرة، والذي لا تحتكر فيه فئة السلطة أو الوصاية، وتعني التقدم والتحضر، وتعني كل ما هو معادي للنظم العسكرية والاستبدادية. ولكن المدنية ليس عكس الدين، فالدين مدني أساسا، لأنه معتقد يؤمن به الناس باختيارهم ويمثل توجههم الفكري والسلوكي. ولا يمكن القول أن المجتمع المتدين ليس مدنيا، وإلا أصبح المجتمع المصري مجتمع غير مدني. وتقسيم القوى السياسية إلى قوى مدنية وقوى إسلامية، يعني ضمنا أن القوى الإسلامية ليست مدنية، رغم أنها تجمع من البشر له رؤيته التي يعرضها على الناس، مثله مثل كل من له رؤية يعبر عنها ويعلنها على الناس. والحقيقة أن المقابلة الأدق هي بين القوى الإسلامية والقوى العلمانية، وغالب القوى التي تطلق على نفسها قوى مدنية، هي في الواقع قوى علمانية، ولكنها تخفي العنوان العلماني، وتخفي معه المواقف العلمانية، فتخفي بالتالي حقيقة تصوراتها عن الناس. فغالب القوى غير الإسلامية، تريد تنحية دور الدين كمنظم أعلى عن المجال السياسي، بحيث لا يصبح المجال السياسي محكوما بالقواعد والمبادئ الدينية، ومادامت القيم العليا للنظام السياسي ليست دينية بل بشرية، فهذه هي العلمانية. لذا لا يوجد في مصر إلا فريقين أساسين، الفريق الإسلامي والفريق العلماني، وداخل كل منهما تيارات شتى. والجماعة العلمانية في مصر، في أغلبها رفضت نتائج الاستفتاء إلا قلة قليلة منها. ومعنى هذا، أنها لا تؤمن بالإرادة الشعبية الحرة، وترى أن لها دور الوصاية على الناس، لذا تحاول فرض دستور من خلال لجنة معينة، تفرض فيها النخبة العلمانية حضورها بأكثر مما تمثله في الشارع المصري، لأنها تظن أن لها موضع يتيح لها الوصاية على الناس. ومعنى هذا أن النخبة العلمانية لها فهم مختلف للديمقراطية، والتي تمثل أداة لمعرفة رأي الأغلبية، حيث يكون القرار في النهاية للأغلبية. ولكن النخبة العلمانية ترى أن رأي الأغلبية مقيد بموافقة النخبة العلمانية، وهي النخبة الحاضرة إعلاميا، والتي تمكنت من فرض نفسها إعلاميا، من خلال أدوات إعلامية يمتلكها تحالف المال والإعلام العلماني. وهذا الموقف غير ديمقراطي، مما يعني أن غالب النخبة العلمانية لا تؤمن بالديمقراطية الكاملة، بل بالديمقراطية المقيدة بدور مميز للنخبة العلمانية، وهو ما يعني أن الجماعة العلمانية ترى أن النخبة العلمانية الإعلامية لها حق الوصاية على الشعب، وهو ما يعني أن تلك الجماعة ليست ديمقراطية ولا مدنية حتى، لأنها تعطي لطبقة حق الوصاية، وكأنها تريد بناء دولة دينية علمانية، تحكم فيها طبقة الكهنة العلمانيين، وتكون لها حق الوصاية، وحق القرار الأخير، وحق مخالفة رأي الأغلبية. والنخبة العلمانية الإعلامية أيضا، ترى أنه من الممكن بقاء المادة الثانية من الدستور والتي تحدد هوية الدولة والتشريع بالهوية الإسلامية. ولكن المتابع لمواقف أغلبية النخب العلمانية، يجد أنها تفعل هذا للهروب من الموقف الجماهير الذي يمكن أن يتصدى لأي محاولة لتغيير هذه المادة أو العبث بها، ومعنى هذا أن النخبة العلمانية تعرف أن هذه المادة تمثل رأي الأغلبية في المجتمع، ولكن مواقف النخبة العلمانية تؤكد أنها لا تعمل من خلال إطار هذه المادة، ولكن تعمل من خارجها، أي أنها توافق عليها شكلا، ولا تقبل التقييد بها، مما يعني أن الجماعة العلمانية في مصر، ترى أن من حقها العمل دون التقييد بمادة في الدستور هي مادة فوق دستورية، وهي في الوقت نفسه المادة المنظمة للمواد فوق الدستورية. ومرة أخرى نجد أننا أمام تصور غير ديمقراطي وغير مدني، حيث ترى النخبة العلمانية أن وجود هذه المادة غير ملزم لها، وتعطي لنفسها الحق بالعمل السياسي خارج إطار الدستور، وكأن المادة الثانية موضوعة كشكل فقط. والمراد من ذلك، هو بناء نظام علماني رغم وجود مادة تحدد هوية الدولة بالمرجعية الإسلامية. لذا نجد النخبة العلمانية تحاول البحث عن صيغة توقف تأثير المادة الثانية، وتحد من دور القوى الإسلامية، بل وتجرم دور القوى الإسلامية رغم أن مرجعيتها مستمدة من مرجعية الدولة المقررة دستوريا في المادة الثانية من الدستور. لذا يبدو أن القوى العلمانية لا تريد الالتزام برأي الأغلبية ولا بالديمقراطية الكاملة، ولا بمواد الدستور المعبرة عن خيارات الشعب، ومع ذلك تحاول فرض الشروط على القوى الإسلامية، رغم أنها خرجت عن كل قواعد العملية السياسية القائمة على الإرادة الشعبية الحرة. وخلاصة ذلك، أن الجماعة العلمانية في مصر، والتي تسمي نفسها بالنخب المدنية، تحاول القيام بدور الوصي على الشعب، وإقامة حكم علماني يفرض على الشعب.