في معالجة مشكلة التأخر وتحديد المسلك إلى النهوض ظهر تيار التأصيل التوفيقي مع مجموعة من الفقهاء الذين إن كانوا أخذوا بفكرة صلاح هذه الأمة في آخرها بذات ما صلح به أولها، فإن التواصل مع الغرب، وحضور العامل الاستعماري وتحولاته التالية التي لم يشهدها الفكر الإسلامي من قبل، كان شرطا مناسبا لتبلور وعي تأصيلي توفيقي. فما أصول هذه النزعة التوفيقية في الفكر الإسلامي الحديث؟ يمكن أن نقول إن الوعي التوفيقي بدأ بوضوح مع رفاعة رافع الطهطاوي (1801 - 1873) وجمال الدين الأفغاني (1838 - 1897)، ثم استقر في شكل نسق فكري مع الإمام محمد عبده (1849 - 1905)، ليمتد من بعد إلى مختلف الأقطار العربية والإسلامية. وهنا يلاحظ أن التيار التوفيقي ظهر في وقت مبكر جدا، إذ منذ الطهطاوي، سنلاحظ حرصا واضحا على إنجاز جواب نهضوي توفيقي. وقد بدت عقليته التوفيقية جلية في كتاباته التالية: تخليص الإبريز في تاريخ باريز. و مناهج الألباب المصرية في مباهج الآداب العصرية.و القول السديد في الاجتهاد والتجديد و المرشد الأمين في تربية البنات والبنين. كما أن جمال الدين الأفغاني كان مسكونا في فكره وسجالاته بمنطق توفيقي، رغم أنه أقام إشكالية النهوض على مطلب الاستقلال عن الغرب. حيث كان يميز بين الاستقلال عن هيمنته، ومجابهة أطماعه الاستعمارية، وبين الاستفادة من إسهاماته العلمية وبعض محددات نمطه الحضاري المدني. فحتى في غمرة سجاله ضد الغرب لم يكن الأفغاني -سواء في كتابه الرد على الدهريين أو رسالته الناقدة لأطروحة إرنست رينان الإسلام والعلم- مناديا بالانغلاق على الأنا واكتفائه بميراثه الثقافي. غير أن المشروع الفكري الذي قدمه الإمام محمد عبده كان أوسع جواب توفيقي حول سؤال النهضة. بل يصح القول إن فكر الإمام عبده لم يبق نظر رجل مفرد، بل تحول إلى مدرسة فكرية شائعة، ناظمة للتفكير النهضوي في مختلف بقاع العالم الإسلامي: ففي الهند نلقى التيار التوفيقي محايثا لفكر محمد إقبال، الذي نراه حتى وهو بصدد معالجة المسألة العقدية يؤسس مشروعا في تجديد أساس الفكر الديني على تمثل مزدوج للإسلام من جهة ولتطور المعرفة الفلسفية والعلمية الأوروبية من جهة ثانية حيث يقول: لقد حاولت بناء الفلسفة الدينية الإسلامية بناء جديدا، آخذا بعين الاعتبار المأثور من فلسفة الإسلام، إلى جانب ما جرى على المعرفة الإنسانية من تطور في نواحيها المختلفة، واللحظة الراهنة مناسبة كل المناسبة لهذا العمل. وفي الشرق سيمتد فكر محمد عبده ونهجه مع الشيخ المراغي، وشيخ الأزهر عبدالحليم شلتوت، وأمين الخولي، والشيخ أبو زهرة... وغيرهم كثير. وفي الغرب الإسلامي سيتشكل ذات الموقف التوفيقي مع الشيخ الطاهر بن عاشور وبن باديس والإبراهيمي ومالك بن نبي، وأبي شعيب الدكالي ومحمد بن العربي العلوي وعلال الفاسي.