تربط أروبا والعالم العربي-الإسلامي علاقات تاريخية وثقافية وسياسية واقتصادية بل وعلاقات صراعية أيضا. فثمة تاريخ مشترك يربط بين هذين العالميين وهو تاريخ من التحالف والتعاون، وتاريخ من الصراع والاحتدام لمدة قرون. وفي جدليتي الصراع والتعاون كان هذا التاريخ تارة تاريخ فلسفات وأخرى تاريخ أديان وثالثة تاريخ فتوحات، وتلاقح حضاري وأخيرا تاريخ أطماع واستعمار. 1-الفضاء المتوسطي: فضاء صراعي يلعب العامل الجغرافي أثرا كبيرا في الاحتكاك بين ضفتي المتوسط إلا أن خط الحدود أو فاصلة التواصل لا تتمثل فقط في هذا الحوض، وإنما في الفكر والاقتصاد والتعارف. هذه العناصر جعلت هذين العالمين المتناظرين والمتكاملين يصنعان منهما تاريخا مشتركا وذاكرة حية تحمل الحلو والمر، إنها ذاكرة الأنا والآخر والمرآة التي تعكس صورة النفس لدى الأخرى، ذاكرة شعوب المتوسط هكذا كان يؤمن ويردد جاك بيرك، وفرديناند بروديل، وطه حسين، وافلاكوست وغيرهم من رواد المتوسطية. أولا : الأنا والآخر: قضت مشيئة الخلق بارئ الكون أن يقترن الخلق و الجعل بالاختلاف والمغايرة والتنوع في الأنفس والآفاق وأن يجعل بني آدم «شعوبا وقبائل» مختلفين ليعرف أحدهم الآخر وحكم عليهم «لايزالون مختلفين ولذلك خلقناهم». فإذا كانت الاختلافات الدينية أوسع ميادين الافتراق قد أسفرت عن تمزق المجتمع البشري، مذاهب وعقائد شتى بلغت ذروتها مع الحروب الصليبية ومجازر المائة عام بين الكاثوليك والبروتستانت وفتنة المورسكيين فإن دواعي الاختلاف لم تبرح تفرق بين بني الإنسان إلى يومنا هذا، حيث تصاعد الحديث عن ما يسمى ب»صدام الحضارات». عموما ينتمي مفهوم الأنا والأخر في أصله إلى الفكر الأوروبي، فالفلسفة الأوروبية الحديثة هي أساسا فلسفة «الأنا» (الذات)، الإنسان ذات في مقابل العالم الذي هو موضوع لها. والفكرة المؤسسة لفلسفة الذات هاته هي الكوجيتو الديكارتي: «أنا أفكر إذن أنا موجود». ومن هنا كان كل وجود غير وجود الأنا هو آخر بالنسبة لها. وبالتالي فعلاقة التغاير هي علاقة بين الأنا والآخر ابتداءا سواء كان هذا الآخر هو الأشياء المادية المحسوسة أو الله أو الشيطان...3 إن الشبكة التي يرى العقل الأوروبي من خلالها وبواسطتها شبكة تهيمن فيها علاقة أساسية هي علاقة «الأنا» و «والآخر» لا علاقة آخر لآخر. مما يبين أن التدافع والصراع بين العالمين المسيحي والإسلامي في صيغته القديمة: «دار الحرب» و «دار الإسلام» تم التأصيل له في الفكر الغربي قبل الفكر الإسلامي. ثانيا: دار الإسلام ودار الحرب. كيف يتحدد مفهوم هذين المصطلحين؟ وكيف شرع الإسلام للعلاقات بينهما وبين ساكنيهما؟ أولا دار الحرب عبارة تطلق على البلاد التي أهلها في حرب مع المسلمين، أي الذين ليسوا مسلمين، ولا تربطهم مع المسلمين معاهدة صلح أو أمان... ثانيا دار الإسلام تطلق على بلاد المسلمين أينما كانوا وهي دار سلام ولا يجوز التحارب بين أهلها – المسلمين- إلا إذا تعلق الأمر بقتال»المحاربين»، وهم قطاع الطرق الخارجين عن النظام العام الذين يعتدون على أرواح الناس وأموالهم. ليس لهذا التصنيف، في الفقه الإسلامي، أية دلالة إيديولوجية تجعل معنى «دار الحرب» ينصرف بالتحديد إلى جهة معينة «كالغرب» أو دين معين كما يفهم من ذلك المستشرقون من أجل تكريس ما يسمونه «الصراع الأبدي» بين «الإسلام» و «الغرب»، وبعبارة أخرى تنتمي مقولة «دار الحرب» في كتب الفقهاء إلى ما يعبر عنه اليوم بالقانون الدولي، إذ يتناولون من خلالها العلاقة بين دار الإسلام وبين الدول الأخرى غير الإسلامية. إن الترسبات التي تراكمت عبر التاريخ في علاقة ضفتي المتوسط، والتي خضعت بالأساس إلى رؤى معيارية وأخلاقية أطرتها متتاليات ضدية من قبيل الأنا /الآخر، دار الإسلام/دار الحرب... طرحت بالأساس في وقتنا الحاضر إشكالية انعدام التواصل الثقافي بين هذين العالمين. ثالثا: مشكلة التواصل الثقافي. يشتمل الحوض المتوسطي على 18 بلد، و400 مليون نسمة ومساحة تقدر ب 800 كيلومتر مربع في منطقة استراتيجية مهمة جدا، لكن هذا الفضاء يعاني من عدة مشاكل منها: عدم المساواة بين المجالين، مشكلة التفاوتات والفقر ليس فقط بين البلدان ولكن داخل البلدان أيضا، تتراوح بين 1% و 20%، فالشمال يستقطب لوحده 87% من موارد المنطقة مما يدل على أن هناك خلل، إضافة إلى أن كيفية اشتغال «النظام العالمي الجديد» خاصة جانبه السياسي تعمل على توطيد هذه التفاوتات، إلا أن أبرز مشكلة، في اعتقادنا المتواضع، تطرح على هذا الصعيد هي مشكلة التواصل الثقافي. أي مشكلة السلم والتواصل باعتبار التواصل الثقافي هو ذلك الجهد الذي ينبغي أن يبذله كل منا للوصول إلى الآخر ففيما يخص الدين الإسلامي وما يكتب عنه كل يوم يلاحظ أن هناك حقدا موجها ضده في الغرب في حين لا يلاحظ هذا الحقد من قبل الإسلام ضد الثقافات والديانات الأخرى. نفس هذا الموقف نجده عند المثقفين الغربيين أي هناك تحامل المسلمين على الغرب ولا يوجد أي تحامل من الغرب على الإسلام. ويتضح هذا الأشكال وسوء الفهم بين الطرفين من خلال تأمل الصور التالية، فصورة العربي تتراوح في أذهان الأوروبي بين الصورة الرومانتيكية ( قصص ألف ليلة وليلة، وكتب الرحالة الأوروبيين عن الشرق..) وصورة المتعصب الديني ( الحروب الصليبية، وظهور اليمين المتطرف في أوروبا والجماعات الأصولية في العالم العربي الإسلامي ) وصورة العربي كثائر ( الجزائر وفلسطين) وكعدو للغرب وصديق للسوفيات (عبد الناصر، وجورج حبش...) والعربي كمليونير ينفق ببذخ (شيوخ النفط) وأخيرا صورة العربي كإنسان متخلف وخانع (بقايا الإرث الاستعماري من ناحية ووجود مهاجرين عرب في المهن الدنيا في الدول أروبا الغربية من ناحية أخرى) وفي المقابل تتراوح صورة الأوروبي في أذهان العربي بين صورة الأوروبي كمستعمر وكمستغل، والأوروبي كمتحضر ومتقدم صناعيا والأوروبي كإنسان مادي منحل، والأوروبي كصديق...وفي كلتي الحالتين فإن هذه الصور متناقضة ولكل صورة أصل تاريخي نشأت فيه لذلك فإن المستقبل الأفضل للعلاقات العربية الأوروبية يفرض تكثيف التفاعل والحوار وخلق فضاءات للنقاش العمومي بين ضفتي المتوسط لبناء حوار حضاري متميز بعيدا عن أدبيات الصدام والصراع. على أن هذه التجليات الصراعية بين ضفتي المتوسط لا يمكنها بأي حال من الأحوال أن تغض طرفنا عن التمظهرات الايجابية والنقط المضيئة في محطات التعاون لهذا الفضاء. 2- الفضاء المتوسطي فضاء تعاوني. بادئ ذي بدء اهتمت أوروبا الجنوبية بشكل خاص بإقامة علاقات تعاون ثقافية واقتصادية ، وسياسية مع دول المحيط الجيوبوليتيكي لها، كان ذلك من خلال الحوار العربي الأوروبي ثم الشراكة الأورو متوسطية وصولا إلى سياسات الجوار الأوروبي. إن الفضاء المتوسطي كان منذ قديم العصور ممرا للمحاربين والتجار وحاملي الثقافات. أولا:ممر للمحاربين: تاريخ المنطقة يزخر طوال فتراته بصراعات مختلفة إما صراع على إحدى الضفتين أو صراعات بين الضفتين ويحصل عن هذا أن تاريخ المنطقة يتميز بتقطعات للوحدة المتوسطية كفضاء تعاوني لا صراعي،ذلك أن المنطقة بحكم جغرافيتها مفتوحة لمتحاربين أو لطامعين. لا ينتمون إليها ويدلنا على هذا حروب القرن 20 التي تمت فيها المواجهة الحربية بين البريطانيين والأمريكيين والألمانيين في ليبيا وتونس وايطاليا وكذا الصراع العربي – الصهيوني والخلاف بين اليونان وتركيا حول قبرص. فبالرغم من كونه ممر للمحاربين فقد كان هذا الفضاء أيضا ممرا للتجارة الدولية. ثانيا : فضاء للتجارة: إن حوض المتوسط كان منذ قديم العصور ممرا تجاريا أثرى مدنا تجارية تاريخية كجنوة وتريستا ومرسيليا وبرشلونة.... لكن هذا الحوض سار يشكو نقصا في النشاط التجاري منذ أن انتقلت الحركة الاقتصادية العالمية إلى ماوراء المحيط الأطلسي ، بحكم العلاقات بين أمريكا وشمال أوروبا والآن صارت الدول المتاخمة للحوض المتوسطي بعد انتظام الدول الأوروبية في الاتحاد الأوروبي تبحث عن سبيل لتنشيط الحوض المتوسطي بإقامة تعاون يؤدي إلى شراكة تستهدف تبادل المصالح. ولم يكن الحوض المتوسطي ممرا للمحاربين وفضاء للتجار فقط بل كان ولا يزال فضاء للثقافات وملتقى للحضارات. ثالثا: فضاء للثقافات: إنها ثقافات غنية بالعطاءات التي قدمتها للإنسانية ، ففي المنطقة ظهرت أولى المدارس الفلسفية وفيها ظهرت الديانات الموحدة الثلاث وفيها ظهر الحساب والفلك وفن الملاحة البحرية، ولم تفلت المنطقة من حرب بين الثقافات والأديان لكن هذا صار من قبيل التاريخ القديم. ويدعونا اليوم التقدم الإنساني في المفاهيم والقيم إلى إقامة تعاون مثمر بين الثقافات على أكثر من صعيد. إن على التنوع الثقافي للحوض المتوسطي أن يقاوم انتشار الحضارة الوحيدة الطاغية بتقنياتها ففي هذا موت للثقافات المتعددة والمتجاورة. ويرى بعض الباحثين أن هناك ازدواجية في نظرة «الغرب» إلى الضفة الجنوبية من المتوسط، ففي هذا السياق يقول المفكر عبد الله العروي «إن الغرب كان يدافع عن العقل الكوني أي الوحدة الذهنية للبشر عندما كان يعتقد أنها تخدم مصالحه ولما تبين له عكس ذلك راح يدعو إلى التنوع الثقافي»، ويضيف» ذلك خطأ وهذا خطأ وهل كتب علينا أن نصحح خطأ بنقيضه؟» . وبالرغم من حدة المصادمات التي وقعت على ضفاف هذا البحر فقد كانت هناك صور رائعة من التواصل الإنساني بين ملوك وأمراء وشعوب هذه البلاد وبخاصة بين الدول الأوروبية في الشمال والدول الإسلامية في الجنوب، وكما كان الصدام سجالا متكافئا فقد كان السلام اختيارا إراديا ناتجا عن الحوار البناء الذي يؤكد حتمية التعايش بين حضارتين وثقافتين وهويتين.