في هذا الحوار يكشف محمد مصطفى القباج، الناشط الحقوقي الدولي في جنيف، عن الأزمة القيمية التي يعاني منها النظام الدولي، ويؤكد بأن حقوق الإنسان أصبحت تستعمل من قبل دول الشمال للضغط على دول الجنوب وفرض منظومتها القيمية عليها، ويعتبر القباج أن هدف دول الشمال هو تسجيل نقط ضعف حقوقية على دول الجنوب، وترتيبها وتوزيع النقط عليها وتسييس ملف حقوق الإنسان للتحكم فيها. وينتقد القباج النظرة الجزئية لحقوق الإنسان التي تركز على بعض الحقوق الجزئية وتتغافل الحقوق الأساسية للإنسان، كما ينتقد المنظمات الحقوقية التي تساير القيم الغربية وتحاول أن تفرض فهمها الخاص لحقوق الإنسان دون مراعاة قيم المجتمعات العربية، مما قد يعرض أمنها وسلمها الاجتماعي للضرر. ويعتبر أن الديمقراطية مسار ذاتي وإفراز داخلي وأنها لا يمكن أن تفرض من الخارج، وأن أولويات المرحلة القادمة أن تتعزز المكتسبات الديمقراطية التي تتحققت على مستوى الوعي الثقافي للشعوب، وأن يتم التركيز في المرحلة االقادمة على ردم الهوة بين النخب الحاكمة والشعوب، والدفع بمكونات المجتمع المدني للضغط على النخب الحاكمة من أجل أن يعم المسار الديمقراطي المناشط كلها. * كيف تقيمون التعاطي الدولي مع مسألة حقوق الإنسان؟ **الواقع أن التعاطي الدولي مع حقوق الإنسان لا يتسم بالموضوعية، فدول الشمال تستخدم حقوق الإنسان سيفا مسلطا على رقاب دول الجنوب، وهو أمر تبرره العلاقة بين دول الشمال ودول الجنوب، والتي تتسم بالهيمنة من جهة دول الشمال والتبعية من جهة دول الجنوب. وبصفتي ناشطا دوليا في حقوق الإنسان في جنيف، ومن خلال خبرتي وتجربتي داخل المنظمات الدولية، تبين لي أن حقوق الإنسان على مستوى الأممالمتحدة أصبحت عبارة عن منتوج ورقي يضم العديد من التقارير التي لا تحظى بأي قيمة ما دامت عبارة عن أوراق، وانطلاقا من تجربتي تبين لي أن دول الشمال تحاول أن تبحث عن كل نقط الضعف للتسرب إلى دول الجنوب لفرض أفكار ومواقف وتوجهات تفرض بها الهيمنة على دول الجنوب، أو لتوزيع النقط على الدول، وبدون شك، هناك نوع من الاستعمال ومن تسييس حقوق الإنسان في توجيه العلاقة وضبطها بين دول الشمال ودول الجنوب. هذا في الجانب الأول، أما الجانب الثاني، فيتعلق بالأزمة القيمية التي يعيشها نظام الأممالمتحدة على مستوى مواثيقه وتوجهاته، وعلى مستوى غياب العدالة الدولية. والملاحظ أن النظام الدولي يحاول أن يخفي هذا الضعف الدولي، وذلك بحرف الأمور وتصريفها إلى دول العالم الثالث في شكل قضايا حمائية، وقضايا الحصار، ومكافحة الإرهاب وغيرها من القضايا كنوع من حرف الاتجاه وتحويل النظر عن الأزمة الداخلية والأزمة القيمية التي يعيشها النظام الدولي. والكل يعلم هذا ويعرف أن هناك أزمة في هذا النظام، ويدرك أن هناك حاجة إلى إعادة النظر في النظام الدولي. هذا التقييم ليس تقييما ذاتيا خاصا بي، ولكنه تقييم يتقاسمه العديد من الناشطين الدوليين في أمريكا اللاتينية وفي جنوب إفريقيا، وشخصيا التقيت بخبير ورائد دولي في حقوق الإنسان هو إسكوتو دوكمان، الآن فرس معركته هو تغيير ميثاق الأممالمتحدة، وإنتاج ميثاق جديد، لأن الميثاق الحالي أصبح باليا ومستهلكا ولم يعد مناسبا للتحول العام الذي يعرفه العالم في ظل العولمة. * انطلقت في العالم العربي في العشر سنوات الأخيرة مسارات عدة للدمقرطة، كيف تقيمون هذا المسارات، وهل تحققت إنجازات مهمة على مستوى الدمقرطة وحقوق الإنسان أم أن العالم العربي لا يزال بعيدا عن السكة الديمقراطية؟ ** أفضل أن يطرح هذا السؤال على مستوى الشعوب وليس الأنظمة والحكام، لأن الهوة الصارخة بين القاعدة الشعبية وبين النخبة الحاكمة تشكل عطبا عميقا وعائقا حقيقيا أمام الديمقراطية في الوطن العربي. الذي يلاحظ أن هناك توجها عاما يسود العالم العربي خ على مستوى الشعوب ومكونات المجتمع المدني- نحو ترسيخ ثقافة وقيم ومعايير حقوق الإنسان. وأعتقد أن المسار الشعبي لو استطاع أن يفرض نفسه على النخب الحاكمة لانعكس ذلك على وضعية الديمقراطية وحقوق الإنسان في الوطن العربي. ولذلك، أنا أرى أن مسار الديمقراطية وحقوق الإنسان قطع أشواطا مهمة على مستوى مكونات المجتمع المدني، لكنه لم يصل بعد إلى درجة التأثير على درجة تحكم النخب الحاكمة في كل السلطات وإمساكها بجميع المناشط. ولذلك، أعتقد أن المسار الديمقراطي يسير لكن بنوع من التردد والخجل، وذلك بسبب عوائق داخلية وخارجية. وأعتقد أن الحاجة ماتزال ماسة بالنسبة للنخب الحاكمة إلى تعميق الفكر والنظر في قضية جدوى الديمقراطية وضرورتها وأهميتها الاستراتيجية في تحقيق الإصلاح، لكن للأسف، يبدو أن حكوماتنا في العالم العربي هي أشبه ما تكون بحكومات تصريف أعمال تحل مشاكل ظرفية ولا تمتلك استراتيجيات ولا أولويات واضحة. * تطرح بعض مكونات المجتمع المدني فكرة المزاوجة بين الحراك والدينامية الداخلية في الإصلاح واستثمار الضغط الخارجي لفرض الديمقراطية على الحكام، ما هو موقفكم، هل تعتقدون أن الديمقراطية هي خيار ذاتي للأمة؟ أم أنكم مع استثمار الضغوط الخارجية لفرض مسار الدمقرطة في العالم العربي؟ ** أولا، لا يمكن أبدا فرض الديمقراطية من الخارج. الديمقراطية هي إفراز داخلي ذاتي يقوم على تغيير العقلية، وتمكينها من أفكار ومعارف وقناعات جديدة، وامتلاك الوعي السياسي والثقافي، بغير هذا لا يمكن أن تفرز ديمقراطية من الداخل. ولذلك، نحن في وطننا العربي لم يتبلور هذا الوعي الداخلي، وطبيعي أن الحراك الذي ينتج عنه لن يبرز إلى الساحة، فلا زلنا لم نحول الأشخاص من رعايا إلى مواطنين يشعرون بالانتماء إلى الكيان السياسي. نعم لدينا شعور بالوطنية، لكن الوطنية هي مجرد وجدان، وهي في أحسن أحوالها مسألة شعورية عاطفية، أما المواطنة فهي قائمة على علاقات موضوعية وقانونية وقائمة على تعاقد مدني، فهذه هي الأمور التي تجعلني في حيرة من التردد الذي نعيشه كنخب من قضية الديمقراطية. * يلاحظ أن المنظمات الدولية الحقوقية تتعامل بشكل انتقائي مع قضية حقوق الإنسان في الوطن العربي، إذ تركز بشكل كبير على قضية المرجعية وضرورة سمو المواثيق الدولية على القوانين الوطنية، كما تفرض قضية مواءمة القوانين الوطنية مع مقتضيات هذه المواثيق، وتركز على قضايا بعينها مثل إشراك المرأة في المؤسسات السياسية عبر فرض نظام الكوطا، بينما يتم تغافل أبعاد أساسية في المشروع الديمقراطي وقضايا حقوق الإنسان، كيف تفسرون ذلك؟ ** عيب الشمال، وبشكل خاص أمريكا، أنها تعتقد أن قيمها كونية عالمية، وأن أي صوت يرتفع للتشكيك في كونية هذه القيم وعالميتها يعتبر صوتا مرفوضا. إنهم لا يعتبرون أن الأمر يتعلق بتنوع ثقافي، وأن من حق الإنسان أن يكون لديه تنوع ثقافي، وإنما يعطون لقيمهم صفة المطلقية، وينفون عن القيم الأخرى هذه الصفة، بل يرفضون كل تشكيك في كونية قيمهم. وهذا في اعتقادي فيه عيب منطقي كبير، لأن القيم ليست مطلقة، وإنما هي قيم متحركة ونسبية ومتحولة، فقيم أوربا في القرن التاسع عشر ليست هي قيم أوربا اليوم، وفي عصر التنوير لم تكن القيم التي نظر إليها فلاسفة الأنوار هي القيم التي تعيشها أوربا اليوم. كل شيء يتطور ويتغير. المشكل أن الغرب اليوم يتمسك بما يعتبره قيما مطلقة كونية عنده، ويعتبر أن قيم الآخر ينبغي أن تعدل أو تغير لتكون منسجمة مع قيمه، بل إنهم يعتبرون كل متشكك في إطلاقية وكونية قيمهم إما يجب أن يصحح أفكاره أو يعاقب أو يحاصر. وهذا شيء غير معقول. * ما رأيكم في مسألة التركيز على بعض الجوانب واستبعاد الوحدات الأساسية في مسائل حقوق الإنسان؟ إنهم يبحثون دائما عن نقط ضعف في العالم العربي حتى يتمكنوا من استثمارها. نقط ضعفنا اليوم هي المرأة وهي الطفل، وكذلك نقطة ضعفنا هي علاقة الدين بالسياسة. وكل هدفهم أن يجعلوا من نقط الضعف هذه مطية لإبراز أحقيتهم في التدخل. ** الملاحظ في المغرب مثلا بروز نفس يركز أو يختزل قضايا الديمقراطية وحقوق الإنسان في مسألة الحريات الفردية مثال قضية الشذوذ الجنسي وحق المواطن في الإفطار في النهار من شهر رمضان وغيرها من القضايا الجزئية. كيف تنظرون إلى هذه النزعة في التعاطي مع حقوق الإنسان؟ هذا يؤكد ما قلته بأن هناك استعمالا لحقوق الإنسان من أجل فرض منظومة قيمية معينة على بلداننا. فالقيم الأوربية التي يعتبرونها كونية ومطلقة تقول بهذه الحريات، إذا ظهر نوع من المعارضة لهذا الاتجاه، فالغرب يتدخل بحجة عدم وجود حرية للتعبير وعدم وجود حرية الرأي وعدم وجود حرية المعتقد. أعتقد أن التعاطي مع حقوق الإنسان بهذه الفلسفة قد يضر المجتمعات في كيانها وأمنها وسلامة نسيجها الاجتماعي. وأعتقد أن أكبر حق من حقوق الإنسان والمجتمع هو حق السلم، فإذا كان المجتمع يعارض هذه الحقوق، فمعنى ذلك أن هناك خللا في التوازن بين دول الشمال والجنوب، وأن هناك إرادة للهيمنة تريد أن تفرض نمطا خاصا من الفهم لحقوق الإنسان ولو على حساب تهديد الأمن والسلم الاجتماعي. * هل يمكن للديمقراطية أن تنجح في الوطن العربي بدون تقارب بين الإسلاميين والعلمانيين؟ ** أنا لا أقبل هذه الثنائية التي تصنف مكونات المجتمع إلى علمانيين وإسلاميين، واعتقادي أن الإسلام يمايز بين الدين والسياسة، ويجعل للسياسة مدخلها وللدين مدخله. مؤكد أن هناك علاقة بين الشأن العام والشأن الخاص في الإسلام، لكن أعتقد أن ما يلزمنا اليوم هو فتح حوار عام تحضر فيه مختلف مكونات الطيف الفكري والسياسي، لنتداول فيه النقاش حول سؤال: ما الأنسب لبناء دولة قانونية تضمن الحقوق، وتجعل من المسار الديمقراطي خيارا لا رجعة فيه دون الدخول في إشكالات جزئية وهامشية. * يلاحظ في الأنظمة العربية أنها تعامل الحركات الإسلامية بنوع من الاستثناء بالمقارنة مع بقية الحركات الأخرى، لماذا في نظركم يتم التعاطي مع الإسلاميين بهذه الطريقة؟ ** أعتقد أن المسؤولية مشتركة بين الأنظمة والإسلاميين. لأن بعض الإسلاميين لا يعطون صورة حقيقية عن التوجه الإسلامي المرن والمعتدل والتقدمي. والعيب في الأنظمة أنها تريد دائما أن تبحث عن شيء ما ضعيف في البناء النظري والسياسي للإسلاميين كي تجعله مبررا للتعاطي الاستثنائي مع هذه الحركات. وأعتقد أن هناك العديد من المفكرين الإسلاميين في المغرب انتبهوا إلى هذه القضية وقدموا اجتهادات نظرية مهمة ينبغي أن تؤخذ بعين الاعتبار في هذا المجال. الحركة الإسلامية في المغرب أنتجت صيغة للتمايز بين الدعوي والسياسي، وجعلت وظائف الحركة هي التربية والدعوة والتكوين، بينما كانت وظيفة الحزب هي السياسات العمومية وتدبير الشأن العام؟ هذا تطور مهم ودليل تقدم، لكن في اعتقادي مايزال الأمر يحتاج إلى تطور أكثر. لا زلنا في حاجة إلى إنتاج نظري أكبر لأننا لا يمكن أن نبقى نحصر مصادر المعرفة الإسلامية في القرآن والسنة قط، بل لا بد من توسيع مصادر استلهام معارفنا ولا بد من الانفتاح على مصادر الفكر الإسلامي والفكر الإنساني أيضا. فهذه المصادر غنية أيضا ويمكن أن نستفيد منها لتطوير نظريتنا. وأعتقد أنه لا ينبغي لنا أن نستهين بالفكر الإسلامي، فهو يمتاز بثراء مدارسه ونظرياته ومرجعياته، ولذلك، مطلوب أن نوسع عملية الاجتهاد وأن ننفتح أكثر على التراث الإسلامي الثري. أما الجمود فقط على الكتاب والسنة، فهذا سيجعلنا أمام صعوبات لا نستطيع أن نخرج منها. * في نظركم ما هي أهم عوائق الدمقرطة في الوطن العربي؟ ** يمكن اختزالها في ثلاثة أو أربعة عوائق أساسية، في مقدمتها الأمية، وانتشار العقلية الذكورية، وغياب مواطنة حقيقية تقوم على الشعور بالانتماء للكيان السياسي، وأن العلاقات القائمة بين الأفراد والسلطة هي علاقات قانونية تعاقدية بالأساس، هذه كلها عوائق داخلية تمنع من التمكين للمسار الديمقراطي، ثم هناك عائق خارجي يتمثل في علاقة دول الشمال والجنوب ونزعات الهيمنة. فهذه عوائق بنيوية تجعل من المسار الديمقراطي في العالم العربي مسارا صعبا وعسيرا. لكن أعتقد أنه لا ينبغي أن نبقى متشائمين، فلا بد أن يكون لنا أمل في تجاوزها. * تحدثتم عن العوائق الداخلية وعن الإعاقة الخارجية لمسار الديمقراطية، كيف تتصورون معادلة الخروج من هذا المأزق؟ ** أعتقد أن المدخل للإصلاح هو أن يقوم نظام تربوي حقيقي، ولا بد من تماسك أسري، ودور تربوي حقيقي للأسرة، ولا بد من رفع مستوى الوعي الثقافي للمجتمع، هذه هي عناصر المعادلة التي يمكن أن تجعلنا قادرين على حمل رهان الديمقراطية. * ولكن ألا ترى معي أن النظام التربوي والتعليمي الذي طرحته كعنصر أساسي في المعادلة هو بيد الأنظمة السياسية؟ ** ولكن تتحكم فيه النخب. رجال التعليم يتحكمون فيه ويوجهون برامجه. وأعتقد أن بدأ هناك وعي عميق داخل رجال التعليم بوجود أزمة في النظام التربوي، ولعل الوعي بخطورة هذه الأزمة وبأبعادها هو المدخل للجواب. وأعتقد أن رجال التعليم وأساتذة الجامعات صاروا اليوم على وعي تام بأهمية البعد التربوي في ترسيخ الثقافة الديمقراطية والتربية على حقوق الإنسان.