آخر الإحصاءات التي تابعناها خلال الأسابيع الأخيرة حول ظاهرة العنوسة كانت من تونس والأردن بعد إحصاءات مذهلة من مصر، ففي الأولى ارتفع عدد النساء العازبات من 990 ألفاً في العام 1994 إلى أكثر من مليون وثلاثمائة في العام 2004، والنتيجة هي أن 38% من النساء قد أصبحن في عداد العوانس. في الأردن، وبحسب دراسة جديدة لجمعية العفاف، فقد انخفض المعدل العام للإقبال على الزواج بشكل تدريجي خلال العقدين الماضيين، وقد بلغت نسبة النساء العازبات في العام 2004 (40%) من النساء، أما نسبة النساء اللواتي لم يسبق لهن الزواج في الأعمار (15-49) فكانت 35% في العام 1979، فيما هي في العام 2004 (71,8%) . لا شك أننا إزاء ظاهرة خطيرة، وفيما يرى الحداثيون أن الحل هو "تمكين المرأة"، بحسب مصطلح تقرير التنمية الإنسانية العربية الأول، والذي سيخصص الجزء القادم (الرابع) منه لذات العنوان، فإن ما يلفت الانتباه في الحالة التونسية على سبيل المثال هو تزامن ارتفاع نسبة العنوسة مع ازدياد عدد العاملات من النساء، فعندما كانت العازبات في العام 1994، 990 ألفاً كانت النساء العاملات نصف مليون، وعندما ارتفعت العازبات إلى مليون و300 ألف كانت العاملات 733 ألف امرأة، ما يشير إلى تناسب طردي بين المسألتين. من المؤكد أن عنوسة المرأة العاملة هي أقل وطأة عليها وعلى أسرتها من عنوسة امرأة تجلس في البيت وتتعرض تبعاً لذلك لمشاكل نفسية، وربما اجتماعية واقتصادية، لاسيما بعد وفاة الوالدين، لكن العلاقة بين القضيتين تبقى مهمة في مجتمعات كثيراً ما تأخذ فيها المرأة مكان الرجل في العمل، وبخاصة الأعمال المكتبية في البنوك والدوائر الرسمية، الأمر الذي يحرمه من القدرة على الزواج، في حين يعجز عمل المرأة من دون الزواج عن تحقيق الإستقرار الاجتماعي والنفسي لها، كما يعجز في كثير من الأحيان عن تحسين الوضع الاقتصادي للعائلة بسبب الكلفة الكبيرة لخروجها اليومي من البيت، فضلاً عن مساهمته المحدودة في تحسين الوضع الاقتصادي العام قياساً بما يحدث في الغرب الذي يحتاج الأيدي العاملة لمصانعه ومؤسساته، وله القدرة المعقولة على التشغيل قياساً بالدول الفقيرة والنامية. ولا تسأل بعد ذلك عن تأثيرات خروج المرأة من البيت على الزوج والأبناء في مجتمعنا في ظل أسر لا يقل عدد أبنائها عن ثلاثة إلى أربعة في معظم الأحيان. يعيدنا ذلك كله إلى البعد الاقتصادي لمسألة العنوسة كما ذهبت دراسة جمعية العفاف، وهو بعد يتداخل بالضرورة مع البعد الاجتماعي الذي لا يقل أهمية، ذلك أن الإحصاءات لا زالت تشير إلى تساوي عدد الذكور مع الإناث في بلادنا، ومقابل كل أنثى لا تجد زوجاً ثمة بالضرورة شاب عازب أو آخر ترك البلاد وتزوج من أجنبية. ولو بحثنا عن السبب الحقيقي خلف عزوف ذلك الشاب عن الزواج فلن نجد سوى السبب الاقتصادي، ومن ورائه السبب الاجتماعي، ذلك أن من غير الضروري أن يكون الشاب العازف عن الزواج عاطلاً عن العمل حتى يعزف عن الزواج، إذ يكفي أن يكون ما يجنيه من دخل أقل من المعدل اللازم لإتمام عملية الزواج، والأهم لمتابعة كلفة المعيشة بعد الزواج. هنا تأتي المسألأة الاجتماعية، ليس فقط من باب العقد المبالغ فيها إزاء الزواج الثاني بالنسبة للقادرين، بل أيضاً، وهذا هو الأهم، من باب الطقوس الاجتماعية الأخرى، إذ وصلت كلفة الزواج إلى رقم كبير يحتاج الشاب إلى زمن طويل كي يؤمنه، والسبب بالطبع هو العادات الاجتماعية التي أخذت تضع سقفاً عالياً لشروط الزواج ومتعلقاته من الأثاث إلى البيت وكلفته ومساحته. من المؤكد أن ثمة حاجة لتحسين الوضع الاقتصادي، لكن أمراًَ كهذا لن يتم بين يوم وليلة، كما لن يتأثر بمناشداتنا، وإذا شئنا الدقة فإن ما نطمح إليه في معظم الدول العربية هو بقاء الحال على ما هو عليه وعدم التراجع، الأمر الذي يدفع إلى التركيز على البعد الاجتماعي المتعلق بشروط الزواج وكلفته، ومن بعده شروط الحياة المقبولة بالنسبة للشاب والفتاة حتى يتم الزواج ويستمر. من المؤكد أن لعبة المظاهر وحياة الاستهلاك قد أتت على الكثير من قيم الرضا والقناعة في حياتنا، وهو ما جعل استمرار الحياة أمراً في غاية الصعوبة، وإذا لم يحدث تغيير يعيد الإنسان إلى نهج الرضا بالقليل فإن الأمور ستسير من سيء إلى أسوأ، وستزداد ظاهرة العنوسة من عام إلى آخر، الأمر الذي سيترك آثاره على حياتنا الاجتماعية برمتها. نسأل الله اللطف والستر. ياسر الزعاترة