يرى عبد اللطيف كداي، أستاذ علم الاجتماع بكلية علوم التربية بالرباط، أن تعقد الحياة الزوجية نفسها، والتغير الذي طال منظومة الزواج برمتها وتغير النظرة إلى الزواج من قبل الشباب أنفسهم ساهمت في تزايد نسبة العنوسة في المغرب والعزوف عن الزواج لدى الرجال والنساء على حد سواء. - كيف ترصدون وضعية المرأة العانس في مخيال المجتمع المغربي؟ أعتقد أن المجتمع المغربي لديه الكثير من الأمثلة والحكايات التي وصمت المرأة العانس بالكثير من الدلالات، فقد كانت النظرة دائما إلى المرأة العانس داخل الأسرة أولا نوعا من العار، حيث لا يقبل أفراد الأسرة، بوجود عانس بينهم، مما قد يدفع الآباء وخاصة الأمهات إلى الاستعانة بالشعوذة والأولياء الصالحين لدفع هذا النحس وسوء الطالع ولجلب عريس لابنتهم، باختصار، فعدم القبول بوجود العانس داخل الفضاء الأسري تغذيه تلك النظرة المجتمعية للعانس عموما، يكفي أن نشير إلى المصطلح العامي المتداول الذي تُنعت به المرأة العانس «البايرة» وما يحمله من دلالة سلبية ومهينة للمرأة فالمصطلح يرتبط بالأرض، عندما نقول بارت الأرض أي فسدت ولم تعد صالحة للزراعة، وهذه إشارة واضحة إلى أن الفتاة التي بلغت السن التي حددها المجتمع ولم تتزوج لا تستطيع الإنجاب أو على الأقل تكون خصوبتها ضعيفة ومن ثم لا يقبل بها العرسان... - ما هي الأسباب التي أدت إلى تزايد نسبة العنوسة في المغرب؟ بالإضافة إلى تأخر سن الزواج، حيث بينت الإحصائيات الصادرة مؤخرا أن سن الزواج بالنسبة للرجل أصبح هو 32 سنة تقريبا سنة 2008، في حين كان يقدر ب27 سنة خلال عام 1987، وبالنسبة للمرأة انتقل من 23 سنة خلال 1987 إلى 28 سنة حاليا، أي إننا نلاحظ اليوم تأخر سن الزواج بشكل عام لدرجة أن بعض المؤشرات تغيرت إجمالا لدى بعض الفئات العمرية. هناك أيضا مشكلات العطالة في أوساط الشباب وكثرة المتطلبات المادية المرتبطة بالزواج أو بتشكيل أسرة جديدة، كالبحث عن المسكن والعمل القار...، ناهيك عن التغير الذي طال نظام الأسرة أيضا، اليوم أصبح لزاما على الشباب المقبل على الزواج أن يستقر لوحده بعيدا عن الأسرة مما يتطلب تكاليف مادية باهظة، ففي السابق كان الأبناء المتزوجون حديثا يستقرون مع آبائهم ويظلون تحت رعايتهم مدة من الزمن، مما يوفر للأسرة الجديدة نوعا من الرعاية والحماية لتتعود على الحياة الجديدة، ويضمن لها حتى الاستقرار والاندماج التدريجي في إطار المجتمع، لكن هذا أصبح غير ممكن اليوم. ينضاف إلى ذلك تعقد الحياة الزوجية نفسها، والتغير الذي طال منظومة الزواج برمتها وتغير النظرة إلى الزواج من قبل الشباب أنفسهم، في السابق شكل الزواج مناسبة للاستقرار النفسي والعاطفي وإشباع الرغبات الجنسية والحصانة من الجانب الديني زيادة على وظيفة التناسل، اليوم لم يعد الزواج الضامن لهذا الاستقرار في إطار من تعدد العلاقات خارج مؤسسة الزواج بفعل كثرة المغريات المعروضة أمام الشباب... - إلى أي حد تغير مفهوم الزواج لدى المغاربة؟ كما أسلفت القول، هناك تغيرات عميقة طالت منظومة الزواج في مجتمعنا، ولعل أبرز ما يوضح ذلك، هو تغير مستوى طموح المرأة نفسها، في الماضي كان حلم الفتاة هو الحصول على زوج، اليوم إذا تأملنا أحلام الفتيات سنجدها مختلفة، أكيد أن الزواج لا يحتل الأهمية الكبرى بالمقارنة مع الوظيفة أو العمل القار، الفتاة التي تنهي دراستها في سن يقارب ال30 سنة تفكر في الاستقرار المادي أولا، ثم بعد ذلك يأتي الزواج، لأن الزواج لم يعد في حد ذاته آمنا بالنظر إلى الارتفاع السريع لمؤشرات الطلاق، فيكفي أن نشير إلى أن عدد القضايا المتعلقة بالطلاق سنة 2004 بلغت 34127، وفي سنة 2008 وصلت إلى 55376 قضية، حسب البيانات الصادرة عن وزارة العدل، أي أنها ستتضاعف خلال خمس سنوات فقط. وهذا في حد ذاته مؤشر خطير على عدم الاستقرار الأسري ومن شأنه أن يغير مفهوم الزواج، خاصة إذا استحضرنا أن كل عائلة لديها شخص مطلق امرأة كانت أو رجل.. ولا شك أن وجود مشاكل من هذا القبيل قد يضاعف من العراقيل والصعوبات المطروحة أمام الزواج. - هل صحيح أن العنوسة قد تكون مشكلة أكبر لدى الرجال أكثر من الفتيات؟ لا أعتقد أن العنوسة تشكل مشكلا كبيرا لدى الرجال وحدهم أو بحدة أكثر بالنسبة لهم، هي مشكلة للطرفين، قد تكون المرأة العانس هي التي تعاني في أول الأمر في الفئة العمرية 40-50 سنة ومعاناة الرجال تكون فيما بعد هذا العمر أي ما بعد 50 سنة عندما تبدأ الصحة في التدهور. وبمقارنة بعض المؤشرات الصادرة سنة 2008 عن المندوبية السامية للتخطيط يتبين أن نسبة النساء العوانس (اللواتي يعشن بمفردهن) ارتفعت من 2.9 % سنة 1999 إلى 3.5 % سنة 2007 وهي مرشحة للارتفاع أكثر في السنوات المقبلة، بالنظر إلى اتساع هامش الاستقلالية والعزوف عن الزواج لدى الرجال والنساء على حد سواء. - ما هي الخطورة التي تشكلها العنوسة على النسيج الاجتماعي والديمغرافي في المغرب؟ نحن نحتاج في الحقيقة إلى أبحاث سوسيولوجية كثيفة حول الظاهرة، لمعرفة كافة الجوانب المرتبطة بها وأيضا التأثيرات المتعددة الأبعاد على النسيج الاجتماعي والاقتصادي للبلد، لنستطيع أن نجيب عن أسئلة مطروحة بإلحاح، أكيد أن للعنوسة والعزوف عن الزواج تأثيرا على النمو الديمغرافي وعلى الوضع الصحي المرتبط بتأخر الزواج، وله أيضا آثار على التماسك الأسري والاجتماعي، ودرجة التضامن بين أفراد المجتمع، لدرجة تدفعنا إلى القول إن هذه الظاهرة مؤشر دال يهدد كيان الأسرة، ويدفع في اتجاه زوالها. ففي الوقت الذي لا نمتلك فيه دراسات تبين حجم الظاهرة وتداعياتها، قد نتساءل أيضا ما دور الجمعيات النسائية تحديدا عما إذا قامت بدورها في التحسيس، وهل أشارت إلى المعضلة كما تسلط الضوء على قضايا أخرى كالعنف والاغتصاب الزواجي... - كيف أسهمت تطورات المجتمع المغربي في تنامي ظاهرة العنوسة؟ لا شك أن تغير مستوى الطموح لدى المرأة كما أسلفنا كان له أثر واضح على الظاهرة، فالانتظار حتى الانتهاء من المسلسل الدراسي ورحلة البحث عن العمل، يجعلان المرأة غير قادرة على البداية في الغالب مع زوج المستقبل من الصفر، هذا دون إغفال أن الأسرة النووية صعبت من مأمورية الزواج، بالنظر إلى التكاليف الباهظة التي يتطلبها فتح بيت عائلي، كما أن الانفتاح الذي عرفه المجتمع في العقود الأخيرة دفع إلى إمكانية وجود علاقات خارج إطار مؤسسة الزواج. الزواج حاليا بات يُنظر إليه من قبل شريحة واسعة من الشباب على أنه نهاية المطاف وليس بدايته، بالنظر إلى المتطلبات والشروط التي يجب التوفر عليها لدخول غمار هذه التجربة. - كيف تنظرون إلى ظهور ما يسمى ب«العنوسة المختارة» لدى فئة واسعة من الموظفات اللواتي يتمتعن بالاستقلالية في عملهن؟ أعتقد أن العمل حرر المرأة كثيرا وأسهم في استقلالها عن الأسرة ومن الطبيعي أن نلحظ في السنوات الأخيرة تنامي العنوسة في أوساط النساء الموظفات، وقد يعود ذلك إلى رغبتهن في الغالب، لكن هناك أيضا إكراهات حقيقية تعترضهن، فمسار الحصول على وظيفة كان شاقا ومتعبا، والمرأة الموظفة تفضل أن تكون ظروف زواجها أفضل من واقع حالها، وهذا ما قد لا يتوفر في كل الأحوال مما يجعلها تختار كرها حياة العنوسة في غياب بديل مقنع.