إذا فهم المسلم هذه الأصول، وأحاط خبرا بهذه المقدمات التي بسطنا جزء من معانيها، آن لنا أن ننتقل إلى بعض المواد الشرعية من كتاب واحد من مدونة الأسرة، وهو كتاب: انحلال ميثاق الزوجية، لنقدم منه نماذج عدم أخذ المدونة بالمذهب بالمالكي، مع بيان فلسفة اختيار الخروج عن المذهب في هذه المواد. نماذج من مدونة الأسرة في كتاب الطلاق ويتركز موضوع العرض حول المقاصد الآتية: قراءة فقهية في بعض المواد التي خرجت فيها مدونة الأسرة على مشهور المذهب المالكي. الوقوف على فلسفة الاختيار من خارج المذهب المالكي. بيان الموقف الشرعي من هذه الفلسفة، وقد سبق بيان شيء من ذلك. أولا عدم الإشهاد على الطلاق ليس بطلاق نص المدونة: نصت المدونة أن عدم كتابة الطلاق لا يعد طلاقا، وهذا عائد إلى الأصل الذي بدأت به في جعل الطلاق استثناء وليس أصلا. وعدم التوسع في أمره لأتفه الأسباب. فمن طلق امرأته في بيته، أو حتى أمام الناس، فلا يعد عمله طلاق، ما لم يشهد القاضي عليه، ويعمل به. ففي المادة86إذا لم يودع الزوج المبلغ المنصوص عليه في المادة83 أعلاه، داخل الأجل المحدد له(شهر) اعتبر متراجعا عن رغبته في الطلاق، ويتم الإشهاد على ذلك من طرف المحكمة. وفي المادة138 يجب الإشهاد بالطلاق لدى عدلين منتصبين للإشهاد، بعد إذن المحكمة به، والإدلاء بمستند الزوجية. وهاهنا قررت المادة أن الإشهاد على الطلاق له حكم الوجوب، وقررت أن الطلاق لا يكون إلا إن أذنت المحكمة به. المقصود من هذه المواد: التقليل من الطلاق. حماية الأسرة والأطفال ما أمكن. القائلون بهذا الرأي من الأئمة والعلماء 2 وهو قول ابن عباس وعطاء والسدي وهو أحد قولي الشافعي والإمام أحمد وغيرهم. قال عطاء: النكاح بالشهود، والطلاق بالشهود، والمراجعة بالشهود. فمن لم يشهد فليس طلاقه بطلاق وإن تلفظ به. كما لم يعتبر صلى الله عليه وسلم طلاق ابن عمر وإن تلفظ به عندما وقع طلاقه بدعيا. وهو قول الظاهرية والشيعة الجعفرية أيضا. المستند الشرعي لهذا الاختيار: 1 قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذَا طَلَّقْتُمُ النِّسَاءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَأَحْصُوا الْعِدَّةَ وَاتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَتِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لَا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذَلِكَ أَمْرًا فَإِذَا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فَارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَأَقِيمُوا الشَّهَادَةَ لِلَّهِ ذَلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كَانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ}(الطلاق:12). إنه أمر مغلظ منه عز وجل، يقول العلامة الشيخ أحمد محمد شاكر: فمن أشهد على طلاق فقد أتى بالطلاق على الوجه المأمور به، ومن أشهد على الرجعة فكذلك، ومن لم يفعل فقد تعدى حد الله الذي حده له، فوقع عمله باطلا، لا يترتب عليه أي أثر من آثاره(نظام الطلاق في الاسلام:ص85). فالآية واردة في موضوع إنشاء الطلاق الذي كان سياق الكلام من أجله، فلا يقع الطلاق إلا بشاهدين عدلين: وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ. 2 حتى لا يقع التجاحد بين الزوجين 3 حتى لا يتهم في إمساكها 4 لئلا يموت أحدهما فيدعي ثبوت الزوجية ثانيا الطلاق المعلق ليس طلاقا نص المدونة: من قال لزوجته: أنت طالق إن فعلت كذا، أو ذهبت عند فلانة، أو قال لزوجته: إن تركت هذا الأمر، أو إن لم تفعلي ما قلت لك فأنت طالق. فقول هذا القائل الذي علق الطلاق على فعل الزوجة لشيء، أو على تركها شيئا، لا يعد طلاقا. فنصت المدونة في المادة 93 على ما يلي: الطلاق المعلق على فعل شيء أو تركه لا يقع. القائلون بهذا الرأي من الأئمة والعلماء لا يقع بالتعليق طلاق عند الظاهرية والشيعة الجعفرية، وقال به من الشافعية أحد أصحاب الشافعي أبو عبد الرحمان البغدادي وأبو عبد الرحمان بن يحيى بن عبد العزيز الشافعي، وأبو ثور. وهو قول شاذ. في المذهب المالكي اشتهر به أشهب. قال مبيناً مذهبه الظاهري: من قال: إذا جاء رأس الشهر فأنت طالق، أو ذكر وقتا ما، فلا تكون طالقا بذلك: لا الآن، ولا إذا جاء رأس الشهر. برهان ذلك: أنه لم يأت قرآن ولا سنة بوقوع الطلاق بذلك. وقد علَّمنا الله الطلاق على المدخول بها، وفي غير المدخول بها، وليس هذا فيما علمنا {ومن يتعد حدود الله فقد ظلم نفسه}. وأيضاً فإن كان كل طلاق لا يقع حين إيقاعه، فمن المحال أن يقع بعد ذلك في حين لم يوقعه فيه؛ المحلى: المسألة1971ص.1785 فزعت إلى المذهب الظاهري وإلى القول الشاذ في المذهب مدونة الأسرة كما سبق. وقد كان فقهاء المالكية يرون وجوب تأديب من لم يقل بوقوع الطلاق المعلق، قال العبدوسي منتقدا قول أشهب: إن العمل بخلاف قول أشهب، وإنه يؤدب من أفتى به(المعيار: الونشريسي). وقد قوى هذا الشاذ ابن القيم وانتصر له بالقول: إن قول أشهب هو الفقه بعينه، لأنه يستند على قاعدة في المذهب المالكي والحنبلي، وهي معاملة الشخص بنقيض مقصوده، ثم قال أيضا: ولا ريب أن هذا الذي قال أشهب أفقه من القول بوقوع الطلاق .. ومكان أشهب من العلم والإمامة غير مجهول. وذهب ابن تيمية إلى وجوب النظر في المقصود من الطلاق، فإن كان القصد التخويف أو دفعها لعمل شيء أو تركه، فهو في معنى اليمين بالطلاق، تجب فيه كفارة الحنث في اليمين.(الفقه المقارن للأحوال الشخصية: بدران أبو العينين بدران: 1/337). المستند الشرعي لهذا الاختيار: عدم وجود نص من كتاب أو سنة يعول عليه: إن الطلاق على عصر النبوة إما ناجزا وهو المعمول به عندهم، وإما استمرار العلاقة الزوجية. وإذا كان الطلاق زمن النبوة بالإجماع ما كان باتا ناجزا، فخلافه ليس موافقا لسنة القرن المشهود له بالخيرية. وقد ذهب ابن حزم إلى أن من علق طلاقه على شرط أو أضافه إلى المستقبل لم تطلق زوجته، لحصر صيغة الطلاق بلفظ: أنت طالق. الطلاق المعلق زواج مؤقت: إن توقيت الزواج يخالف ديمومة النكاح واستمراره. فالأصل في النكاح على وجه التأبيد لا التأقيت. وعندما يعلق الطلاق فإنه حتما يجعل الزواج مؤقتا، فينافي بذلك مقصد الزواج، وعليه لا يقبل ما يشوش على الديمومة والاستمرار. فمن قال لزوجه: أنت طالق إن فعلت كذا، فزواجها مؤقت بفعل ما ذكره الزوج. قال في إعلام الموقعين: ولا يصح تعليق الطلاق، كما لا يصح تعليق النكاح4/ص.101 وعليه: إذا كان الزواج المعلق ليس زواجا، فالطلاق المعلق مثله في الحكم، وقد استدل به ابن حزم رغم ظاهريته وعدم قوله بالقياس. فلو قال الرجل:+أنكحتك ابنتي إذا صار كذا وكذا؛، لم يقع باتفاق العلماء. قال ابن حزم: ثم لو كان القياس حقا لكان هذا منه باطلا، لأنكم مجمعون على أن النكاح إلى أجل لا يجوز، وأن ذلك النكاح باطل، فهلا قستم الطلاق إلى أجل على ذلك. وقالوا: قد أجمعوا على وقوع الطلاق عند الأجل، لأن من أوقعه حين نطق به فقد أجازه، فالواجب المصير إلى ما اتفقوا عليه. المسألة1971ص.1787 قوله صلى اله عليه وسلم من اشترط شرطا ليس في كتاب الله ، فهو باطل وإن كان مائة شرط متفق عليه، والطلاق إلى أجل مشترطٌ بشرط ليس في كتاب الله تعالى، فيصير باطلا(المحلى:01/215). الطلاق المعلق تتداخل فيه النيات: وحيث إن الغالب على قصد الأزواج من الطلاق المعلق التهديد والزجر وليس الرغبة فيه، فليس من المعقول أن نخالف مقاصد الأمور الغالبة عند الناس. ثالثا الحلف بالطلاق ليس طلاقا نص المدونة: اعتبرت مدونة الأسرة الحلف بالطلاق لا يقع، ففي المادة 91 : الحلف باليمين أو الحرام لا يقع به طلاق. فإذا قال الرجل لزوجته: والله العظيم أنت طالق، أو غيرها من من أساليب القسم الشرعية المعتبرة. فإن قسمه هذا لا يعد طلاقا، وإن أقسم ألف قسم. وإنما قلت المعتبرة، لأن القسم غير الشرعي لا تترتب عليه الأحكام الشرعية، وإنما الواجب أن يتوب من كفره . لقوله صلى الله عليه وسلم: ليس منا من حلف بالأمانة، من حلف بغير الله فقد أشرك. القائلون بهذا الرأي من الأئمة والعلماء وهذا مذهب ابن حزم : قال ابن حزم: واليمين بالطلاق لا يلزم سواء بر أو حنث لا يقع به طلاق، ولا طلاق إلا كما أمر الله عز وجل، ولا يمين إلا كما أمر الله عز وجل على لسان رسوله. صلى الله عليه وسلم المسألة 1970ص.1784 وهو اختيار شيخ الاسم ابن تيمية وغيره من الأئمة قبله وبعده، قال رحمه الله: وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْحَالِفَ بِالطَّلَاقِ وَالْعَتَاقِ لَيْسَ لَهُ غَرَضٌ بِالطَّلَاقِ وَلَا هُوَ مُتَقَرِّبٌ بِالْعِتْقِ؛ بَلْ هُوَ حَالِفٌ بِهِمَا؛ وَأَمَّا الطَّلَاقُ فَقَدْ قِيلَ: إنَّ فِيهِ كَفَّارَةً . وَقِيلَ : لَا كَفَّارَةَ فِيهِ. وَهَذَا الثَّانِي قَوْلُ دَاوُد وَأَصْحَابِهِ . وَالشِّيعَةُ يَقُولُونَ: لَا يَقَعُ بِهِ الطَّلَاقُ وَلَا يَلْزَمُهُ كَفَّارَةٌ . وَهُوَ قَوْلٌ ضَعِيفٌ وَإِنْ كَانَ الْقَوْلُ بِلُزُومِ الطَّلَاقِ وَعَدَمِ التَّكْفِيرِ ضَعِيفًا أَيْضًا وَهُوَ أَضْعَفُ مِنْهُ. وَالْقَوْلُ بِلُزُومِ الْكَفَّارَةِ هُوَ الْمَأْثُورُ عَنْ طَاوُوسٍ وَغَيْرِهِ؛ وَهُوَ مُقْتَضَى أَقْوَالِ الصَّحَابَةِ وَبِهِ أَفْتَى جَمَاعَةٌ مِنْ الْمُفْتِينَ الْمَالِكِيَّةِ وَغَيْرِهِمْ وَلَا رَيْبَ أَنَّ الطَّلَاقَ أَوْلَى أَلَّا يَقَعَ مِنْ الْعِتْقِ فَإِذَا أَفْتَى الصَّحَابَةُ بِأَنَّهُ لَا يَقَعُ الْعِتْقُ فَالطَّلَاقُ أَوْلَى؛ وَلَكِنَّ أَبَا ثَوْرٍ لَمْ يَبْلُغْهُ فِي الطَّلَاقِ شَيْءٌ فَقَالَ؛ الْقِيَاسُ يَقْتَضِي أَنَّ الطَّلَاقَ لَا يَقَعُ أَيْضًا؛ إلَّا أَنْ يَكُونَ فِيهِ إجْمَاعٌ فَهُوَ أَوْلَى أَنْ يُتَّبَعَ. ا.ه.33/197 ابن تيمية. وعموما فإن القائلين بعدم وقوع الطلاق بالحلق جمهور من العلماء سلفا وخلفا، قال ابن القيم: وهذا مذهب خلْقٍ من السلف والخلفإعلام الموقعين:4/ص.98 ومن هؤلاء طاوس أجل أصحاب ابن عباس الذي كان يقول: الحلف بالطلاق ليس شيئا. وقد علق ابن القيم على مذهب طاوس بالقول: وقد وافقه أكثر من أربعمائة عالم ممن بنى فقهه على نصوص الكتاب والسنة دون القياسإعلام الموقعين:4/.98 المستند الشرعي لهذا الاختيار: 1 إذا حلف الزوج على طلاق زوجته فلا يعد حلفه طلاقا وإن حنث في يمينه، لأن الحلف بالطلاق يتنازعه موضوعان: موضوع اليمين، وموضوع الطلاق. فمن أدخله في الأول لم يقل بالطلاق، وإنما على الحالف أن يكفر عن يمينه الذي نصت عليه الآية القرآنية. ومن أدخله في الثاني قال بلزوم الطلاق. وقد أخذت المدونة بالقول الأول وهو أنه لا يقع به طلاق، وهو قول مهجور شاذ في المهب المالكي. تقول المادة 91 من مدونة الأسرة: الحلف باليمين أو الحرام لا يقع به طلاق. 2 من السنة: ما ورد في صحيح البخاري قال ابن عباس: الطلاق عن وطر، والعتاق ما أريد به وجه الله.(فتح الباري:ج9/ ص392/393). 3 وقد قال به من السلف كثيرون: قال في إغاثة اللهفان ج2/ص88 الطريق الثانية: طريق من يقول: لا يقع الطلاق المحلوف به، ولا العتق المحلوف به، ويلزمه كفارة اليمين إذا حنث فيه. وهذا مذهب ابن عمر وابن عباس وأبي هريرة وعائشة وزينب بنت أم سلمة وحفصة. 4 وهو قول الإمام مالك: لقد نص ابن القيم أن هذا فقه الإمام مالك، قال في الهدي: قد قال مالك : إذا قال أنت طالق البتة وهو يريد أن يحلف على شيء ثم بدا له فترك اليمين فليست طالقا لأنه لم يرد أن يطلقها وبهذا أفتى الليث بن سعد والإمام أحمد حتى إن أحمد في رواية عنه يقبل منه ذلك في الحكم. اتهمه السبكي بالتبديل والتغيير، ونقل من منكراته مسألة الطلاق المعلق(طبقات الشافعية:2/64 66). الشاذ في المذهب المالكي هو: ما قد يكون مدركه قويا، ولكن تفرد بالقول به آحاد الفقهاء. فوصف بالشذوذ بسبب التفرد المقابل للمشهور، وبعدم كثرة القائلين به(أصول الفتوى والقضاء في المذهب المالكي: محمد رياض: ص543). قواعد المنهج المنتخب إلى قواعد المذهب: المقري:2/ص.23 وأما أشهب فهو: أشهب بن عبد العزيز بن داود بن ابراهيم، وأشهب لقب. من أصحاب مالك الذين أخذوا عنه، وأصبحت له الرياسة بمصر بعد ابن القاسم(ت204ه)، وكان يقال: أشهب أفقه من ابن القاسم مائة مرة. وقال الشافعي: ما رأيت أفقه من أشهب. وسئل سحنون عن ابن القاسم وأشهب: أيهما أفقه؟ فقال: كانا كفرسي رهان انظر: ترتيب المدارك: 1/583الخ، الديباج: 1/ ص268.269 وأما ابن القيم فقال عنه:أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاقإعلام الموقعين:4/ص.97 إعلام الموقعين: 4/.97أشهب: أيهما أفقه؟ فقال: كانا كفرسي رهان انظر: ترتيب المدارك: 1/583الخ، الديباج: 1/ ص268.269 وأما ابن القيم فقال عنه:أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاقإعلام الموقعين:4/ص.97 إعلام الموقعين: 4/.9774/.977َ= Gd؛ؤb)ا؟: 4/.97أشهب: أيهما أفقه؟ فقال: كانا كفرسي رهان انظر: ترتيب المدارك: 1/583الخ، الديباج: 1/ ص268.269 وأما ابن القيم فقال عنه:أشهب من أصحاب مالك، بل هو أفقههم على الإطلاقإعلام الموقعين:4/ص.97 إعلام الموقعين: 4/.9774