أكد الأستاذ بنباصير الباحث في السياسة الجنائية الوطنية والدولية ومدير مجلة الواحة القانونية أن مؤشر الجريمة عرف خطا تصاعديا مهولا؛ فاق في معدله كل التوقعات النظرية والميدانية...، واعتبر أن آليات الزجر التقليدية كالمؤسسات السجنية، ومراكز التأهيل والتهذيب، زاغت عن مسار سكتها المعهود كمؤسسات إصلاحية وتربوية، لتتحول إلى مجرد مسكنات وقتية محدودة الفعالية. عرفت أرقام الجريمة وفق التقارير الرسمية تناميا ملحوظا في الآونة الأخيرة، بماذا تفسرون ذلك؟ بالفعل؛ بإلقاء نظرة خاطفة على مختلف التقارير ذات الصبغة الرسمية تحيلنا إلى نتيجة حتمية مفادها أن مؤشر المد الإجرامي بالمغرب شهد في الآونة الأخيرة تزايدا ملحوظا في معدله الدوري في الوقت الذي لم تكن خلاله الموسوعة الجنائية بما عرفته مؤخرا من ديناميكية ملحوظة على مستوى التوجيه أو التشريع محط رضى من المتتبعين أو عموم المخاطبين بالقاعدة الجنائية، وإن كان ذلك لا يقصي بأي حال من الأحوال عنصر التفاؤل بشأن تطور استراتيجية السياسة الجنائية المحلية لمحاربة المد الإجرامي المتصاعد؛ بشكل يجعلها قادرة على مسايرة التطور المتسارع للظاهرة الإجرامية، ومؤهلة لمجابهة إفرازاته داخل الحياة اليومية، وبالفعل؛ فمؤشر الجريمة عرف خطا تصاعديا مهولا فاق في معدله كل التوقعات النظرية والميدانية. أما الفاعل الرئيسي في الجريمة وهو المجرم فقد انسلخ بدوره من تصوره التقليدي كفرد منحرف عديم المؤهل المعرفي، وفاقد المستوى الثقافي أو العلمي، بل أصبح في العديد من المناسبات ينحدر من مكون مجتمعي على قدر كبير من التأهيل العلمي والمقدرة الفكرية، إلى درجة جعلته يطور الأساليب والتقنيات الحديثة في مجال التعامل اليومي ليسخرها في أفعاله ومخططاته الإجرامية. ومن جهتها فإن آليات الزجر التقليدية كالمؤسسات السجنية ومراكز التأهيل والتهذيب، زاغت عن مسار سكتها المعهود كمؤسسات إصلاحية وتربوية، لتتحول إلى مجرد مسكنات وقتية محدودة الفعالية، وعاجزة عن التموقع في موضعها الصحيح كأداة لمجابهة الظاهرة الإجرامية، إلى درجة أن هذه المؤسسات وعلى غرار مثيلاتها لدى بعض الأنظمة المقارنة، لم تعد سوى مواقع لتجنيد محترفي الإجرام إن صح التعبير بذلك... ولتأكيد مصداقية هذا التصور نستشهد بما ورد بالكتاب الأبيض المعد من قبل الحكومة البريطانية سنة ,1990 والتي أقرت خلاله وبشكل صريح أن السجن ما هو إلا وسيلة باهضة التكاليف لتحويل الأشرار إلى أشخاص أكثر شرا.... وعموما فقد أكدت الإحصائيات الرسمية ارتفاع نسبة الظاهرة الإجرامية، وتنوع تمظهراتها الميدانية وطبيعة مرتكبيها، وإن كانت لم تخرج في سياقها العام عن دائرة السيطرة، سواء من حيث النوع أو من حيث الكم، ولم تصل بعد إلى مايصطلح على تسميته بالخطوط الحمراء، وقد تزامنت هذه الموجة مع ظرفية زمكانية راهنة متميزة ومشحونة بجملة من الإكراهات والتقلبات، الأمر الذي دفع بالسلطات القضائية والأمنية وفعاليات المجتمع المدني ومهمتمي الشأن الأمني والحقوقي بالمغرب إلى التفكير في إيجاد آليات بديلة وإقامة شراكة واقعية وفاعلة في سبيل تكثيف الجهود ومضاعفتها لرأب الصدع، وسد مختلف الثغرات التي اعترت الاستراتيجيات الجنائية السابقة في مواجهة الظاهرة الإجرامية، ولاسيما بالنسبة للجنح المرتكبة ضد الأشخاص والأموال، والسعي لردع كل التصرفات المخالفة للقانون والمضادة للنظام والعقد الاجتماعي، عبر إقرار آليات جديدة، محكمة وفعالة للوقاية منها، بالرغم مما نشاهده أحيانا من جرائم جديدة لم نكن نعاين نظيرا لها على المسرح الإجرامي بالمغرب سابقا، من قبيل الجرائم المنظمة وجرائم الأموال والجرائم الإلكترونية والمعلوماتية. ما رأيكم في حصيلة العمل القضائي المغربي؟ الحصيلة الميدانية للعمل القضائي بالمغرب تفيد أن هذا الأخير في غضون السنوات الأخيرة وإلى حدود سنة ,2009 تجاوز المعدل النموذجي للاعتقال المتعارف عليه لدى أغلب الأنظمة القضائية المقارنة المحدد في 1,0 في المائة من مجموع التعداد التسكاني، إذ أصبح يتراوح بالمغرب مابين نسبة 0,2 في المائة، ونسبة 25,0 في المائة.. وهي حصيلة تفيد أن هذا الأخير في غضون السنوات الأخيرة وإلى حدود سنة ,2009 تجاوز المعدل النموذجي للاعتقال المتعارف عليه لدى أغلب الأنظمة القضائية المقارنة المحدد في 1,0 في المائة من مجموع التعداد التسكاني، إذ أصبح يتراوح بالمغرب مابين نسبة 0,2 في المائة، ونسبة 15,0 في المائة، وفي هذا الصدد نبادر بالإشارة إلى حقيقة علمية وحصيلة ميدانية طالما نادينا عبر مؤلفاتنا ودراساتنا وعروضنا الخاصة بضرورة الانتباه إلى انعكاساتها، ورصد تداعياتها الميدانية، ذلك أن ناقوس الخطر ومراجعة الأوراق، دق معلنا الحقيقة المرة التي طالما حاول البعض تجاهلها أوعلى الأقل إرجاء الحسم فيها إلى حين. والواقع أن المؤسسة القضائية بالمغرب في سياق محاربة الظاهرة الإجرامية في الآونة الأخيرة، أصبحت تعيش إكراهات متضاربة، وحالات من المد والجزر، الأمر الذي أثر سلبا على حصيلة عملها، وحاد بها في الكثير من الأحيان عن تجسيد المضامين العامة للتوجه الجنائي الجديد، فهي إن فعلت أوبالأحرى إن استمرت في تفعيل أسلوب الاعتقال كآلية محورية منفردة واحتكارية لمجابهة المد الإجرامي وما نراها صائبة في ذلك تكون باستراتيجيتها هذه تنحو في منحى معاكس للتوجهات الجنائية الجديدة التي سطرت خطوطها العريضة السلطات الرسمية والقضائية العليا لاحظ القراءة النقدية الصريحة للسيد وزير العدل السابق السيد عبد الواحد الراضي، مؤخرا، عندما نعت مؤسسات النيابات العمومية بالمغرب بالتشدد المبالغ فيه، والحياد عن التوجهات العامة للسياسة الجنائية، واللجوء المفرط إلى الاعتقال كآلية الأكثر امتيازا لمجابهة الجريمة والإقصاء غير المبرر لتطبيق بدائل العقوبات السالبة للحرية)، بيد أن هذا الواقع يتعين أن لا يحجم عنا حقيقة ميدانية موازية مفادها أن مبادرة المؤسسة القضائية إلى ترشيد سياسة الاعتقال، وتفعيل آليات بدائل العقوبات السالبة للحرية، سواء من قبل مؤسسة النيابة العامة، أو مؤسسة التحقيق، أو قضاء الحكم؛ لم يكن لينظر إليه بعين الرضى من قبل من عموم الرأي العام الذي وفي غياب فتح جسور التواصل مع فعالياته، ومد قنوات النقاش البناء والحوار المنتج والصريح مع تمثيليته- يتبنى للأسف رؤية سطحية مجانبة لحقيقة واقع الأمور، ويتحكم في بلورة توجهه أفكار جاهزة تفتقر إلى التحليل العلمي، وتعالج الظاهرة في نطاق ضيق بمعزل عن ابعادها الحقيقية ومحيطها العام. يحاكم منذ السنة الماضية العديد من بارونات المخدرات، في نظركم هل السبب يرجع إلى أن المغرب تحول إلى فضاء مناسب للتجارة في المخدرات؟ تعتبر هذه الجرائم من الصور الكلاسيكية لجرائم غسل الأموال، حيث تدر على أصحابها أموالا خيالية في فترة وجيزة وبأقل مجهود يذكر، ويرجع ذلك بالأساس إلى ضآلة مصاريف هذه التجارة مقارنة مع الأرباح الصافية المتزايدة والمترتبة عنها كعائدات مالية، فضلا عن الارتفاع الصاروخي للمدمنين على استهلاكها داخل أوساط جميع الشرائح الاجتماعية سيما فئة الشباب منهم. ومن أخطر رواسب هذا النوع من الجرائم كون أصحابها، يوفرون لها غطاءا لوجيستيكيا وماليا مهما، يؤهلها لاستقطاب عدد من المتعاونين بمن فيهم عناصر السلطات الأمنية أوالجمركية بل وحتى العسكرية...، أكثر من ذلك فإن جرائم الاتجار في المخدرات، وما يرتبط بها من جرائم تبعية تتعلق بغسل الأموال والعائدات المتحصلة عنها، يمكن أن تخترق حتى المؤسسات المركزية لبعض الدول وأبرز نموذج لهذه الحقيقة، نستحضر مآل رئيس بانما PANAMA، ( نورييغا )، الذي أطاحت به وبتدخل عسكري الولاياتالمتحدةالأمريكية ، بعد اتهامه الشخصي والمباشر في جرائم غسل الأموال المتحصلة عن عائدات الاتجار في المخدرات، وأدين بعد ذلك من طرف السلطات القضائية الأمريكية بأربعين سنة سجنا نافذة... ويمكن القول أن جرائم الاتجار في المخدرات تعتبر الجرائم الأم والمرتع الأصل الذي تولدت عليه جرائم غسل الأموال ب وفي أواخر الثمانينات من القرن الماضي وبالضبط في دجنبر 1988 أبرمت بالعاصمة النمساوية فيينا اتفاقية دولية لمكافحة أنشطة ترويج المخدرات ، ولقد كانت المنطلق الذي شد انتباه عموم المهتمين إلى مخاطر أنشطة غسل الأموال المتحصلة من عملية الاتجار في المخدرات وتأثيرها السلبي، و الكارثي على النظم الاقتصادية والاجتماعية لمختلف دول المعمور، ومن جهته فإن المغرب ، لم يتوان في الانخراط في المجهودات الدولية الرامية إلى تعزيز سبل التصدي لظاهرة الاتجار في المخدرات التي أضحت تشكل تهديدا حقيقيا لكيانه ولا سيما بحكم موقعي الاستراتيجي المهم والحيوي كحلقة وصل بين القارة السمراء وجارتها القارة العجوز، وفي هذا السياق فقد بادر إلى المصادقة على العديد من الاتفاقيات ذات الصلة بهذا الموضوع. واقتناعا من المغرب بضرورة التصدي لظاهرة الاتجار في المخدرات فقد قرر ملائمة تشريعاته الجزائية مع مختلف الاتفاقيات الدولية المناهضة لهذه الجرائم وأصدر ترسانة تشريعية متكاملة، زاوجت بين سبل الوقاية الأولية وبين آليات الردع الجزائي. في نظركم، هل استطاع المغرب اليوم مواجهة تبعات هذه الجرائم؟ إذا كان المشرع المغربي قد أقر نصوصا تشريعية عديدة لمحاربة آفة الاتجار في المخدرات، وإذا كان العمل القضائي الوطني من جهته قد قطع أشواطا معتبرة في إطار تموقعه كجبهة ثانية للتصدي لظاهرة الاتجار في المخدرات، كما يتجلى ذلك من خلال أحكامه الصارمة في حق محترفي هذا النوع من الجرائم، فإنه لم يستطع رغم ذلك أن يتخذ مسلكا موحدا في مواجهة تبعات هذه الجرائم، وخاصة بالنسبة للعائدات المالية التي تخلفها بالنظر لوجود فراغ تشريعي يسد هذه التغرة كما هو الشأن بالنسبة لاجتهاد المجلس الأعلى الذي دأب عليه قضاء محاكم الدرجة الأولى والثانية وأقر بحصر المصادرة في قضايا المخدرات في المجال المالي الذي لا يشمل العقارات ، وأيضا الاشكالية القائمة بشأن مدى ومجال المصادرة في قضايا في قضايا المخدرات وحقوق الأغيار ومعايير اتباث حسن النية وتأثيرها في الاحتفاظ بهذه الاموال لفائدة مستحقيها أو مصادرتها لفائدة الخزينة العامة . وإشكالية المسؤولية الجنائية المالية للأشخاص الاعتباريين المتورطين في قضايا المخدرات ب. ويتعين الاعتراف أن مثل هذه الثغرات الناجمة عن فراغ تشريعي يتطرق لهذه المسألة ويحسم فيها بنص تشريعي صريح ، وما رافقه من تضارب وتناقض على مستوى العمل القضائي المغربي بصدد مجموعة من الاشكاليات المبرتبطة به، قد فتح المجال على مصراعيه أمام لجوء مجرمي المخدرات إلى اختيار قنوات أخرى لتصريف عائداتهم المالية المتأتية من هذه التجارة المحظورة وتوظيفها في مشاريع مشروعة كالاستثمارات العقارية والسياحية والتوظيفات المالية التجارية والممارسات المصرفية المتنوعة ، وقد ساهمت هذه العوامل في ميلاد لوبي جديد سرعان ما أضحى يتحكم في زمام المبادرة داخل اقتصاد السوق المحلي في غفلة من أعين أجهزة المراقبة وسلطات التتبع والرقابة المالية ، الأمر الذي يسمح بتراكم ثروات طائلة غير مشروعة ساهمت إلى حد كبير في إضعاف البنية الاقتصادية الوطنية خاصة أن تحركاتها المالية تمت خارج نطاق السوق الرسمية مستغلة في ذلك غياب الأداءات الجبائية ب لكن الخطير في الأمر أن غسل الأموال المتأتية من الاتجار في المخدرات لم تقف عند حدود عتبات الانعكاسات الاقتصادية والاجتماعية ، بل امتدت لتشمل حتى الجانب الأمني ، خاصة بعدماتنبهت الحركات الإرهابية لأهمية هذه العائدات وحاولت استغلالها لمصلحتها الشخصية ، مستندة في ذلك إلى مبدأ ، الغاية تبرر الوسيلة ، وهكذا تقوت هذه العائدات واكتشف أصحابها سبلا اخرى اتخدوها كملجأ لإخفاء مصدرها، ليعمدوا بعد ذلك إلى غسلها وإعادة إدماجها بطريقة قانونية داخل السوق الرسمية حتى يتاتى لهم الاستفادة من إعادة توظيفها في تمويل أنشطتهم الجرمية ومخططاتهم الإرهابية على المدى البعيد. وتظافر كل هذه العوامل والمعطيات الميدانية، لتجعل المغرب يفكر ليس فقط في إيجاد آليات قانونية لمجابهة جرائم الاتجار في المخدرات فحسب ، بل أيضا لمجابهة كل عملية تستهدف غسل الأموال المتحصل عليها، خاصة أن موقع المغربي الاستراتجي المتميز كحلقة وصل بين إفريقيا وأوربا، واعتماده سياسة الانفتاح، وانخراطه في تحديات الألفية الثالثة، ومضاعفات العولمة عجلت بجعل رقعته الترابية مطمعا لتجار المخدرات على المستوى الدولي.