يراهن المعنيون بوضع سياسة جنائية جديدة بالمغرب تتجاوز السلبيات والثغرات المسجلة ،وترتكز على رؤية واضحة ومستقبلية لأسس التجريم والعقاب ثم الإدماج في إطار احترام حقوق الإنسان والمجتمع، وشروط المحاكمة العادلة، يراهنون على تجديد القانون الجنائي الحالي الذي يرجع تاريخ صدوره إلى سنة1962 مع تحديد الاختصاصات وخلق معيار واضح لتقدير العقوبة في حديها الآدنى والأقصى، وكذا على تجميع القوانين العقابية المبعثرة في مدونة قانون جنائي واحد، كما يسعون من خلال إيجاد بدائل عن العقوبات الحبسية في شكل غرامات مثلا وتسويات بالتراضي إلى تدبيرأفضل للإمكانيات القليلة الموجودة، في ظل الخصاص الكبير في عدد القضاة، بحيث يفصل 3000 قاض في 3 ملايين و400ألف قضية سنويا وهو ما يستحيل معه الحديث عن شروط المحاكمة العادلة والمتأنية، كما أن السجون مكتظة مما يستحيل معه الحديث عن سياسة الردع والإصلاح والتربية وإعادة الإدماج التي كانت المقصد من السجن، هذا دون الحديث عن ضياع الوقت وتعطيل الإنتاجية وهدرالمال بحيث قدر وزير العدل ما سماه بربح الضائع بحوالي 100 مليار سنتيم سنويا، خاصة وأن 10ملايين من الفئة النشيطة تتردد على المحكمة في كل سنة. وفي هذا السياق تدارست الندوة العلمية حول السياسة الجنائية: واقع وافاق التي عقدت بمدينة مكناس على مدار ثلاثة أيام11,10,9 من الشهر الجاري ستة محاور أساسية ، افتتحها محمد بوزوبع وزير العدل بكلمة ضمنها أرقاما وإحصائيات لها دلالتها من حيث عدم فعالية ونجاعة السياسة الجنائية المغربية الحالية وقصورها عن الحد من الانحراف والإجرام الذي ينعت بالبسيط . انصب المحور الأول حول تعريف السياسة الجنائية ومفهومها وآليات وضعها وتنفيذها، حيث أوضح الأستاذ الطيب الشرقاوي مديرالشؤون الجنائية والعفو بأنها السياسة التي تهتم بالعقوبات وبدائلها وبالأحكام القضائية والعدالة الإصلاحية، ومعاملة المجرمين وحماية الضحايا من خلال البحث في كيفية منع الجريمة، وقال بأن هناك خيارين إما اعتماد التعريف الضيق المضمن في قانون المسطرة الجنائية الجديد في المادة15 التي تنص على أن وزير العدل هو الذي يشرف على تنفيذ السياسة الجنائية ويبلغها إلى الوكلاء العامين للملك الذين يسهرون على تطبيقها، وبالتالي تصبح السياسة الجنائية هي إعمال السياسة الحكومية في الميدان القضائي عن طريق النيابة العامة، الأمر الذي يطرح تساؤلات حول العلاقة بين النظام السياسي والنظام الجنائي ويطرح إشكالية التمييز بين السياسة الجنائية والدعوى العمومية التي هي فقط وسيلة لتطبيقها، أو اعتماد المفهوم الموسع للسياسة الجنائية حيث تكون السياسة الجنائية هي مجموع القرارات والتدابير الإجرائية الملموسة التي تقدم بكيفية حيوية إجابة جنائية لظاهرة الجريمة. غير أن الأستاذ الشرقاوي سجل في عرضه بعدما أدلى بإحصائيات تبين استفحال وكثرة القضايا التي تدرج في إطار الجنح أو الانحراف البسيط، أن السياسة الجنائية المغربية تعرف أزمة عامة في مواجهة ظاهرة الجريمة خاصة في ظل تصاعدها وظهور أنواع جديدة الإجرام.مستعرضا مظاهر تلك الأزمة من قبيل: -انتقاد نظام سير العدالة الجنائية لبطئه وعدم فعاليته الناتجة عن تضخم القضايا المعروضة على المحاكم بحيث تروج سنويا ثلاثة ملايين و400ألف قضية يحكم فيها 30000قاضي عبر ربوع المملكة. - تصاعد وتيرة الاعتقال لسيادة الاعتقاد بكونه ناجع للحد من الجريمة وان عزل السجين سيجبره على ترك ما سجن من أجله الأمر الذي ملأ السجون وحال دون تحقق وظيفتها التربوية والإصلاحية. و بخصوص من يضع السياسة الجنائية فقد أكد وزير العدل لجريدةالتجديد أن السلطة التنفيذية هي من تفعل ولكن وزارة العدل ومن ثم الحكومة اختارت منهج إشراك كل المعنيين . أما المحور الثاني فانصب على موضوع سياسة التجريم في علاقتها من جهة بتوطيد الأمن من خلال قراءة الوضع الراهن لسياسة التجريم بالمغرب ومن أجل تحيين الترسانة الجنائية بإضافة أفعال جديدة إلى قائمة الأفعال المجرمة أو تعديل أركانها أو عناصرها أو إلغاء أخرى من هذه القائمة نتيجة للمصادقة على اتفاقيات دولية أو لزوال الداعي إلى تجريمها. وتميز هذا المحور بطابع اقتصادي ومالي محض بحيث ركزت المداخلات على الحماية الجنائية للاقتصاد الوطني وعلى الغش الضريبي وتبييض الأموال وغسلها، وكذا جريمة الشيك بدون رصيد التي طرحت بصددها اقتراحات واجتهادات ذهبت لحد إزالة الطابع الجرمي عنه وبالتالي استبعاد السجن كعقوبة بالنسبة للمتهم ،وذهب وزير العدل إلى حد مطالبة الآ بناك بإعادة النظر في معايير تسليم دفاتر الشيكات، مقترحا في الوقت نفسه عدم تسليمها للموظف البسيط ولمن يقل رصيده عن مبلغ يتم تحديده ، وذلك للتخفيف على المحاكم خاصة بعدما أثبتت الإحصائيات بأن الموظفين البسطاء هم المعنيون اكثر من غيرهم بجنحة أو جريمة شيك بدون رصيد. المحور الثالث خص موضوعا حساسا عرف نقاشا داخل الندوة ويتعلق الأمر بملاءمة القوانين بالمقتضيات القانونية الزجرية الوطنية التي ينبغي ملاءمتها مع الاتفاقيات الدولية التي صادق عليها المغرب، حيث ظهر أن هناك أقلية لا ترى جدوى من الكلام عن شيء اسمه الخصوصية أو الهوية الوطنية وتؤمن بعولمة القيم وربما سياسة التجريم والعقاب و من تم عولمة القضاء، وأن هناك أغلبية تؤيد منطلقات الملائمة مع ماهو مشترك إنساني ومبادئ وحقوق وقيم لاتمس بخصوصيات المجتمع المغربي المسلم ، وهو ماعبر عنه وزير العدل بقوله في كلمته الافتتاحية: إذا كانت الضرورة تفرض أن نتوفر على قانون يخدم الواقع وينسجم مع التطور التشريعي الحاصل في العالم في هذا المجال. فإن هذا لا يعني أن نكرس قانونا وطنيا لا يراعي خصوصيات المجتمع المغربي الثقافية والاجتماعية والعقائدية السمحة. وقد تطرق الأستاذ الجامعي إدريس بلماحي في هذا الباب لملاءمة القوانين الجنائية المغربية مع الاتفاقيات الدولية في مجال حقوق الإنسان والقانون الدولي الإنساني، فيما قدم الوكيل العام للملك لدى محكمة الاستئناف بوجدة نماذج للقوانين الجنائية المغربية تمت ملاءمتها مع الاتفاقيات الدولية في منع الجريمة سواء في ما يتعلق بمكافحة المخدرات أوالإرهاب والجريمة المنظمة عبر الوطنية. وركزالمحور الرابع على السياسة العقابية من حيث رصد الوضع العقابي الحالي وتقديم مقترحات بديلة للعقوبات السالبة للحرية، وخاصة في ما يتعلق بالجرائم التي تنعت بالبسيطة ولا تتجاوز الأحكام بشأنها سنتين ، والتي تشكل ما يقرب من 08 من القضايا المطروحة على المحاكم ، وذلك من خلال البحث عن تشريع عقابي يحقق المراد دون إفراط في استعمال العقوبات السالبة للحرية، وسن سياسة جنائية اجتماعية تنبني على العدالة التصالحية والتفكير في إصلاح وتأهيل وادماج المحكومين بالسجن في المجتمع بعد نهاية العقوبة. وفي هذا السياق قدم الدكتور مدحت رمضان أستاذ القانون الجنائي المصري بحثا متكامل(75 ص) تحت عنوانبدائل الدعوى الجنائية والعقوبات السالبة للحرية قصيرة المدة (تبسيط الإجراءات الجنائية) طرح تبني الصلح أو التصالح والوساطة بغرض التسوية الحبية للنزاعات والقضايا الجنائية، مسلطا الضوء على تجارب العديد من الدول في الموضوع. وفي السياق نفسه تقدم الدكتور والأستاذ الجامعي حبيب بيهي بعرض حول عقوبة الإعدام بين الحد والإلغاء، حيث استعرض وجهات نظر أدلة فريقين في الموضوع، الأول يدعو للإبقاء على العقوبة المذكورة لكونها وسيلة عادلة وفعالة للردع العام والخاص ،ومن شأنها تخفيض معدل الجريمة ومنع العود إليها، وكذا المحافظة على استقرار المجتمع وأمنه وسلامة مصالحه العليا ، والثاني يدعو لإلغاء عقوبة الإعدام نهائيا بحجة أنها ليست النموذج الأمثل في السياسة العقابية وغير منطقية لاحتمال وقوع الأخطاء القضائية، فضلا عن كونهاقاسية وتتنافى مع إنسانية الإنسان وما إلى ذلك من الحجج. وأمام هذا الواقع فإن الدول تنهج إحدى المسالك الثلاث إما: - الإلغاء النهائي لعقوبة الإعدام - الإلغاء الواقعي بتعطيل النص بعدم تطبيقه وعدم إصدار المحاكم بأي عقوبة إعدام - الحد من حالات التجريم التي تطالها عقوبة الإعدام ، وحالات الحكم والتنفيذ مع الإبقاء على العقوبة في حدود الجرائم المتسمة بنوع من الخطورة. وقد اختار المغرب عمليا المسلك الثالث حسب ما صرح به وزير العدل للصحافة يوم السبت الماضي على هامش الندوة المشارإليها . كما أنه يفكر في تقليص الحالات الثلاثة والعشرين التي ينص فيها التشريع المغربي على عقوبة الإعدام في حالات أقل بكثير. أما المحور الخامس والسادس فتدارس تطوير آليات العدالة الجنائية سواء فيما يتعلق بالطب الشرعي والخبرة الجنائية أو الشرطة القضائية وعلاقتها بالقضاء، كما تدارس موضوع استقلال القضاء الجنائي ودور مساعدي القضاء في تحسين أداء العدالة الجنائية. فيما غابت مداخلة دور الإعلام في تطوير أداء العدالة الجنائية التي كان من المقرر في برنامج الندوة أن يلقيها يونس مجاهد الكاتب العام للنقابة الوطنية للصحافة. محمد عيادي