مسيرة الرباط التضامنية مع غزة كانت بلا شك التعبير الواضح عن الحضور القوي للقضية الفلسطينية في ضمير الشعب المغربي ووجدانه، لكنها كانت أيضا تعبيرا عن دعم المغاربة لخيار المقاومة والصمود ورفضها لكل المناورات الدبلوماسية التي تستهدف القضية وقوى المقاومة، وهو درس كان من الأجدى لفلول الطرح الانهزامي من المهرولين أن تعيه بكل وضوح، فالذين يبرئون العدو الصهيوني من جرائم التقتيل واستهداف الأطفال والنساء وإشاعة الكراهية والحقد في المنطقة، ويزدرون بقوى المقاومة ويتهمونها بالتسبب في الدمار ربما يستيقظون من خيالاتهم وأوهامهم، ويصححون ولاءاتهم ويعودون إلى أمتهم حينما يرون هذه التظاهرات الشعبية العارمة في كل أنحاء العالم تتضامن وتعاطف وتنصر إرادة الصمود والممانعة ضد جرائم حرب الإبادة الصهيونية الموجهة ضد شعب أعزل محاصر ومجوع. لكن، هذه التظاهرات والمسيرات العارمة، التي تحيي في النفوس معاني الوحدة الإسلامية، وتعزز قيم التضامن داخل الأمة، وترفع المعنويات وتقوي إرادة الصمود والممانعة ضد العدو الصهيوني، هذه التظاهرات بهذه المقاصد التي تحققها، صارت تطرح سؤال ماذا بعد؟ وهل لا تملك الشعوب العربية والإسلامية غير خيار الخروج إلى الشارع ورفع شعارات الدعم والنصرة لشعب فلسطين في محنته؟ إن التطورات الأخيرة التي حصلت على مستوى الموقف الإقليمي صار يعزز إمكانية أن يقوم الموقف الشعبي بدور كبير في اتجاه الضغط على المواقف الرسمية في اتجاه تعديل معادلة الصراع في المنطقة، فالموقف التركي والإيراني والسوري والقطري يعطي إشارات لإمكانية أن تستثمر اللحظة السياسية لرفع سقف الموقف العربي إلى مستوى التعبير عن مطالب المقاومة الثلاثة: الوقف الفوري لإطلاق النار، فتح المعابر، رفع الحصار الظالم عن قطاع غزة، وأن هذه الإمكانية ليس أمرا مستحيلا بمنطق فن الممكن، وإنما هي مسألة إرادة سياسية لم يعد مبررا لأي نظام عربي أن يستثمر تطورات الموقف الإقليمي لتعديل سقف مطالبه بهذا الاتجاه. فما على الدول العربية سوى أن تبصر هذه التحولات بعمق، وأن تعيد النظر في أساليب تحركاتها ومبادراتها الدبلوماسية، وهو الشيء الذي لم يحصل للأسف، إذ استبعد خيار عقد القمة العربية الاستثنائية بسبب رفض مصر وعدم تحمس السعودية لها، وراح وفد عربي رسمي بمشاركة المغرب للأمم المتحدة للمطالبة بإصدار قرار أممي بوقف العدوان ضد غزة من غير رؤية عربية موحدة في الموضوع، وهو الخطأ الجسيم الذي صب كرات الثلج على كل المبادرات التي حاولت رفع سقف الموقف الإقليمي ضد الكيان الصهيوني، وأعطى للكيان الصهيوني من خلال دعم المبادرة المصرية مبرر التوغل لتفكيك البنية العسكرية لحركة حماس. من الضروري، في ظل هذه التحولات في الموقف الإقليمي، وفي ظل أخطاء الدبلوماسية العربية أن يتحول الموقف الشعبي من خطاب العواطف وتحريك المشاعر إلى ضغط سياسي على الموقف الرسمي ليساير الموقف الإقليمي، ويسهم في تعديل معادلة الصراع في المنطقة، ويدفع الكيان الصهيوني إلى عدم الإقدام على أي خطوة دون الأخد بعين الاعتبار الموقف العربي كقوة داخل معادلة الصراع في المنطقة. للأسف لحد الآن، لا يبدو أن الكيان الصهيوني يراعي شيئا اسمه الموقف العربي الرسمي بدليل أنه لم يلتفت، مجرد الالتفات لما يسمى المبادرة العربية للسلام، وفي المقابل، يضرب ألف حساب للمقاومة في لبنان والمقاومة داخل فلسطين وبشكل خاص في غزة. لهذا الاعتبار، ونظرا لتطور الموقف الإقليمي في المنطقة، فقد صار من الضروري أن تحول الأشكال التضامنية إلى ضغط سياسي حقيقي على لأنظمة حتى تقطع نهائيا مع جميع أشكال التطبيع مع الكيان الصهيوني، وأن ترفع سقف موقفها السياسي إلى درجة التعبير عن إرادة سياسية باتجاه تعديل معادلة الصراع داخل المنطقة لغير جهة العدو الصهيوني. للأسف، لم يكن الموقف المغربي الرسمي مسايرا للتحولات التي طرأ على الموقف الإقليمي، في الوقت الذي كان ينتظر منه أن يضغط في اتجاه خيار عقد قمة عربية استثنائية لتوحيد الموقف العربي واستثمار اللحظة السياسية لتعديل معادلة الصراع داخل المنطقة، فقد ساير المبادرة المصرية، وساير خيار تشكيل لجنة وزارية عربية للتوجه إلى مجلس الأمن برئاسة وزير الخارجية السعودي الأمير سعود الفيصل والأمين العام للجامعة العربية عمرو موسى وعضوية وزراء خارجية الأردن وسورية وفلسطين وقطر وليبيا والمغرب للمطالبة بوقف العدوان على غزة من غير رؤية عربية موحدة في الموضوع. وإذا كان الموقف المغربي الرسمي لم يرتفع إلى مستوى التعبير عن التضامن الحقيقي مع الشعب الفلسطيني الذي يقتل ويجوع ويحاصر في غزة، فإن حركات التضامن الجماهيرية مع محنة الفلسطينيين في قطاع غزة ينبغي أن توجه بوصلتها للضغط السياسي على الموقف الرسمي المغربي في اتجاه رفع سقفه على الأقل ليكون في مستوى مسايرة التحولات الإقليمية للموقف في المنطقة.