ما من شك أن المجلس الأعلى للحسابات بات اليوم يشكل مؤسسة في ترسيخ مبادئ المساءلة والشفافية في تدبير الشأن العام، وممارسة الرقابة العليا على كل مؤسسات الدولة، فالوتيرة التي يتحرك بها والمهنية العالية التي يشتغل بها تستحق كل التنويه والتثمين، فعلى الرغم من ضعف الإمكانات المالية المخصصة له (لم تتجاوز الميزانية المخصصة له 89 مليون درهم منذ سنة 2006)، وعلى الرغم من محدودية الموارد البشرية (270 موزعة بين القضاة والأطر العليا والمتوسطة والأعوان بالنسبة إلى المجلس الأعلى و 154 بالنسبة إلى المجالس الجهوية للحسابات ما بين 2006 و2009)؛ إلا أن الأداء العام للمجلس فيما يخص مراقبة وتدبير الأجهزة العمومية ومراقبة استعمال الأموال العمومية، خاصة في الجماعات المحلية، كان أداء مقنعا، لكن هذا الدور الكبير الذي يقوم به المجلس في المراقبة والتدقيق المالي وفي الكشف عن أعطاب التدبير المالي لمؤسسات الدولة لا ينبغي أن يمنعنا من تسجيل بعض الملاحظات المهمة: - يبدو أن المهام التي يضطلع بها هذا المجلس لا ينبغي أن تحصر على المستوى الإجرائي فقط، أي في مجرد التوصيف والدلالة على مواطن الخلل، وإنما ينبغي أن يكمل دوره بتفعيل دور التأديب المتعلق بالميزانية والشؤون المالية، وكذا الإحالة على وزير العدل من أجل تحريك المتابعة القضائية. فالمجلس على لسان رئيسه الأول السيد أحمد الميداوي يشير إلى أن بعض الحالات قد أحيلت على وزارة العدل من أجل تحريك المتابعة القضائية، لكن الرأي العام لا يملك أي معطى بخصوص هذه الحالات، ولم يبلغ إلى علمه أن أحدا توبع قضائيا بسبب ارتكابه جنحا في تدبيره لمالية المؤسسة التابعة للدولة، وهو ما يستوجب من المجلس أن يفعل هذه الوظيفة بما يحصن المال العام من التلاعب به. - إن المجلس الأعلى للحسابات ينشر تقريره السنوي الذي يتضمن ملاحظاته بخصوص موافقة مالية المؤسسة للقواعد المحاسباتية والمالية، ومدى احترامها للمساطر القانونية، لكن هذه التقارير لا تتضمن القرارات النهائية للمحاكم المالية، وهو ما ينبغي أن يعاد فيه النظر حتى يسهم المجلس فعلا في ترسيخ الشفافية في تدبير المال العام. -إن وضعية الموارد المالية والبشرية التي يشتغل بها المجلس الأعلى للحسابات، وكذا المجالس الجهوية تدعو فعلا إلى الرثاء، إذ لا يعقل ألا يكون لمؤسسة دستورية تضطلع بمهمة كبيرة في حجم مراقبة التدبير المالي لمؤسسات الدولة مقرات خاصة بها في عدد من الجهات، وأن تضطر في العديد من المدن إلى كراء مقرات لا تليق بالدور الذي تقوم به، كما أنه من المؤسف حقا ألا يكون في هذا المجلس على طول أربع سنوات منذ سنة 2006 أكثر من 221 من القضاة المحققين، وأقل من 60 إطارا عاليا. صحيح أن الجرعة الوطنية حسب تعبير الرئيس الأول للمجلس الأعلى للحسابات تتجاوز بإرادتها اقتصاد الندرة في الموارد المالية والبشرية، وتقدم أداء متميزا، لكن هذا الوضع في دولة ترفع شعار عقلنة مواردها المالية وترسيخ ثقافة الشفافية يعتبر عرقلة واضحة لعمل المجلس. لقد كان من المنتظر حقا من هذه الحكومة أن تنظر إلى وضعية هذا المجلس وأن توليه الموارد المالية والبشرية الضرورية؛ حتى يقوم بالدور المنوط به، لكن يبدو أن ثقافة ترسيخ الشفافية وثقافة المساءلة لا تدخل ضمن الأولويات المالية لهذه الحكومة. إن التعبير الوحيد عن اهتمام الحكومة بقطاع من القطاعات هو الغلاف المالي الذي تمنحه له، وبما إن المجلس الأعلى للحسابات على جلالة الدور الذي يقوم به لا يحظى بأكثر من 89 مليون درهم، فإن الحكومة مطالبة حقيقة بتفسير هذا الإهمال الذي تبديه لهذا المجلس وللشفافية التي يرمز لها.