كثر هم الذين توقعوا, أو لا يزالوا يتوقعون, حسم الانتخابات الأمريكية الحالية, انتخابات نونبر للعام 2008, لفائدة باراك أوباما. متتبعون وخبراء ومحللون ومراكز دراسات وبيوت استطلاع وما سواهم, الكل أو الغالبية العظمى من ذات الكل, تتوقع هزيمة نكراء لمرشح جمهوري, أخذ بجريرة سلفه الجمهوري, الذي عاث في العالم بطشا وفسادا, أو تمت مؤاخذته على عصبيته بالمواجهات التلفزية, كما بالحملة الانتخابية على الأرض, أو تم توجيه اللوم لمشروع له متقادم, طاعن في الشيخوخة, شيخوخة حامله ذاته, بظل دولة لم تعد نفس الدولة, وشعب لم يعد نفس الشعب, وآمال لم تعد ذات الآمال. الكل يتوقع فوز أوباما, ويراهن عليه, ويعتبر انتصاره بانتخابات نونبر, ليس فقط نصرا على مرشح جمهوري متعال, خشن الخطاب, مشخصن للنقاش, حقود في نبرته ونظراته للمرشح الأسود , بل وثأرا لفصيل من الشعب الأمريكي ظلم واضطهد, وارتكبت الفظاعات باسمه, وإنصافا لسود لطالما صنفوا ضمن الخانة الثانية والثالثة, بمقياس الثروة والجاه والنفوذ, كما بمقياس السلطة والحكم. من الوارد أن يترتب عن انتخاب أوباما بعض من التحول بالداخل الأمريكي, المتأزم ماليا واقتصاديا ونفسيا, كما على المستوى الدولي القريب والبعيد, المكتوم على أنفاسه, والمتذمر أيما يكن التذمر, من سنين بوش المدمرة, وفترتي حكمه الطويلتين. ومن الوارد أن يتراجع مد المحافظين الجدد بقوة, هم الذين رهنوا حاضر أمريكا ومستقبلها, وضخوا في عروقها وشرايينها العنصرية والكراهية والتعالي, لدرجة باتت الأمبراطورية رمزا لمقولة الكل مع الكل ضد الكل, تستفز هنا وتبتز هناك, وترفع لواء الحرب على الأعداء مباشرة, وترفعه بوجه الأصدقاء بالطرق المضمرة, المشارفة على الخشونة وشد الأعصاب. ومن الوارد أيضا, فضلا عن كل ذلك, أن يخف الضغط من حولنا, شعوبا وأمما, أفرادا وجماعات, وأن يتراجع عنف السياسات الأمريكية, المرتكزة على مسوغة الحرب العالمية على الإرهاب , ومحاور الشر, والأعداء المفترضين, وما سوى ذلك من مسوغات ودفوعات, جرفت بمسالكها الأخضر واليابس, وباتت الشعوب, كل الشعوب, بموجبها إما إرهابية بالجملة والتفصيل, بالطابع أو بالتطبع, أو متواطئة مع الإرهاب, ممولة له, أو آوية لعناصره بهذا الشكل أو ذاك, أو حاضنة لمنظومته بمناهج التربية والتعليم. كل ذلك وغيره وارد, على الأقل بالاحتكام إلى ما صرح به أوباما ذاته, ووعد, وأيضا بالقياس إلى ما صرح به ماكين, وما رفع من وعيد, لا يختلف كثيرا عن وعيد ابن حزبه, الراحل عن السلطة بعد حين. إلا أنني لست من المغالين في التفاؤل, ولا من الدافعين بالحماسة, ولا من الحالمين, الرافعين من منسوب الأمل إلى مداه الأقصى: + فأوباما لا ولن ينطلق من فراغ, على الأقل بسياسته الخارجية, حيث التوافق قائم بين الحزبين على الحد الأدنى, سواء تعلق الأمر ب الأعداء الحقيقيين , أم تجاوزه ليطاول الأعداء الافتراضيين , المنظور إليهم من زاوية تهديدهم المحتمل للأمن القومي, وللمصالح الأمريكية المترامية الانتشار هنا وهناك. الرجل سيكون بالتالي وحتما, محكوما بمنظومة في الفعل والتفاعل, لا يستطيع الفكاك منها بسهولة ويسر, أو التبرم عنها كثيرا, تحت هذا الظرف أو ذاك. وإن تسنى له التجرؤ لدرجة التجاوز عليها, فسيلجم قطعا بفعل وقوة لوبيات المصالح الكبرى, وبإكراهات الأمبراطورية في جوانب تفوقها, كما في مكامن إخفاقاتها, كما في حساسية وضعها أمام القوى الصاعدة بوجهها, المنافسة لها في المكانة والصدارة. + وأوباما سيكون محاصرا بالتزامات سابقه في البيت الأبيض, بالعراق كما بأفغانستان, كما بسلوك ذات الرئيس (الرئيس بوش أقصد) فيما تم اعتماده بإزاء إيران وسوريا وروسيا وكوريا وما سواها. لن يستطيع الرئيس الأمريكي, إن كان أوباما, الإفلات من عقال تواجد عسكري أمريكي واسع بالعراق مثلا, أو بأفغانستان, وإن تسنى له بعض من ذلك, فسيكون بتوافق مضمر بين الحزبين, وليس بصورة انفرادية من لدنه, أو من لدن أركان في إدارته. هو وعد بسحب قوات بلاده من العراق, والجمهوريون يسابقون الزمن ليتم ذلك, ويحسب لفائدتهم, عندما يتم تمرير الاتفاقية الأمنية مع حكومة الاحتلال بالمنطقة الخضراء. وعلى هذا الأساس, فسواء قرر أوباما سحب الجنود الأمريكان من العراق أم لا, فإن ذات الاتفاقية تضمن للأمريكان تواجدا طويل المدى, سيمكنهم بتحصيل حاصل, من تحاشي البقاء بالعراق إلى ما لا نهاية. + ثم إن أوباما سيكون في حال فوزه بالانتخابات, مقيد اليدين بفعل لوبي صهيوني, متغلغل أيما يكن التغلغل بمفاصل الدولة, مهيمن بمجال المال والأعمال والإعلام, وله, بمعظم القضايا المرتبطة بإسرائيل والفلسطينيين, القول/الفصل, في التشريع كما في التنفيذ, كما في المراوغة لربح الوقت. بهذه النقطة أيضا, أزعم أن الإدارة الأمريكية لن تغير من طبيعة سلوكها بإزاء قضية الشرق الأوسط , وإذا ما تسنى لأوباما تحريك العجلة بجهة حل القضية إياها, فسيكون ذلك من باب خدمة إسرائيل, لا من باب إنصاف الفلسطينيين. بتقليب كل عناصر الصورة إذن, يبدو أن أقصى ما يمكنه أوباما إنما التأثير في بعض التفاصيل الثاوية بالهامش, على أن لا مجال للفعل من لدنه كبير, فيما تعارف الأمريكان على تسميته بالأمن القومي أو بالمصالح الحيوية, أو بالعلاقة مع الحليف التاريخي, المرابط بقلب الأمة العربية لأكثر من خمسين عاما من الاستيطان القسري. بالتالي, وبالبناء على ما سبق, أتصور أن المراهنة على باراك أوباما إنما هي من باب المراهنة على الشكل, فيما الجوهر سيبقى على حاله, سواء بالنظر إلى مؤسسة الرئاسة, أم بالاحتكام إلى نظام الحكم السائد...هناك بالولايات المتحدةالأمريكية, حيث اللوبيات هي مصدر ذات الحكم, موجه أشرعته, تارة ذات الشمال وتارات أخرى ذات اليمين.