من أجل تلافي انهيار البورصة وتجمد أسواق الإقراض مما قد يؤدي لإصابة كل الأنشطة الاقتصادية بالعدوى، تخلت السلطات الأمريكية عن الإنقاذ الجزئي للتحول نحو خطة إنقاذ شاملة. وزير المالية السيد هنري بولسن ورئيس الاحتياطي الفدرالي السيد بين بيرنانكي، اقترحا أن تشتري السلطات العامة، الديون المصرفية المشكوك فيها حتى سقف 700 مليار دولار. وفي خضم المعركة الانتخابية، يتردد الكونجرس الأمريكي أمام التزام مالي بهذا الحجم، لم يسبق أن حدث ولن يكون له مقابل، ويهدد بتفجير عجز الموازنة، كما يشكل ضربة جديدة لقيمة الدولار. حتى إن أحد النواب لم يتردد بالتنديد بهذه الاشتراكية المالية، التي يعتبرها غير أمريكية. وكما دائما في ظروف مشابهة، أذكت العاصفة المالية العديد من الخطابات حول ضرورة تهذيب الرأسمالية، والاستعجال الطارئ لعودة القواعد والنظم، والحاجة لمعاقبة المذنبين. بل يذهب البعض أبعد من ذلك: وول ستريت التي عرفناها لن تستمر بعد اليوم، كما أعلنت ذلك... صحيفة وول ستريت. الحقيقة أن في الأحداث الحالية ما يفقد الصواب، وأن تتوالى الحالات الحرجة بشكل متسارع، حيث اعتبرت كل واحدة منها وقت حدوثها على أنها قمّة الأزمة، وإذا بها تمحى أمام ما هو أشد خطورة وأكثر استعراضية، قد تضافرت كلها من أجل إغراق السلطات الحكومية والرقابية في هاويات من الفوضى والضياع.ربما كانت مذلة التهمة بالاشتراكية هي التي دفعت الواحد تلو الآخر ليقرر، في أسبوع الثاني من سبتمبر، وبعد أن استنفذتهما عملية الإنقاذ الضخمة لمؤسستي فاني ـ فريدي، وليضطرا على الفور أن يكملا جهودهما لإنقاذ مصرف ليمان!، أن يخفف عن كاهله وأن يُفهم المجتمع المالي أن التفاوض في المرحلة المقبلة سيجري من دونهما. وإذا وضعنا جانبا نواحي المضايقات الشخصية، يمكن أن نتفهم موقف الثنائي الفدرالي ـ الخزانة (الاحتياطي الفدرالي ـ ووزارة الخزانة). إذ تبدو السلطات قلقة، وليس من دون حق، من السوابق التي تخلقها كل من عمليات التدخل التي تقوم بها، ومن أن أصحاب المصارف الخاصة قد يذهبون نحو إعلان الإفلاس، حيث يدركون أنه في اللحظة الأخيرة يجب على أحد أن يتدخل لإنقاذ رهاناتهم، كما جرى أساسا الأمر مع بير شتيرن وفاني ـ فريدي. هنا تصاب الأخلاق بصدمة من هذه التسهيلات، فمن الصعب تمالك الأعصاب أمام مشهد عالم المال الصلف والمحقق للثروات عندما تكون الأمور على ما يرام، والذي يلجأ من ثم عند الأزمات إلى أن يختبئ في كنف السلطات العمومية، وذلك لكي يستجدي منها أشكال الحماية والاستثناءات. لكن وللأسف، وكما في الغالب، الأخلاق هي أكثر الوسائل المتاحة لتضليل التحليلات، مع أن هذا لا يعني على أية حال القول إن السخط الذي تنتجه ليس مشروعا، ولا حتى إنه لا يجب رسملتها لمراكمة مصدر قوة سياسية للضرب لاحقا بشدة. لكن فقط لاحقا، إنما حتما سيتم تحليل وتوضيح طبيعة ما جرى. والحال أن هناك خطرا منظوميا (أي معمما)، أي إن هناك إمكانية، نتيجة كثافة الالتزامات بين المصارف، من أن تؤدي عملية إفلاس إحدى الفعاليات، وفق مبدءِ موجات الصدمة المتلاحقة، إلى إطلاق شلال من الإفلاسات الجانبية. ويجب تذكير بعض الليبراليين، أنه في تعبير خطر منظومي هناك كلمة منظومي، أي إن المقصود هو المنظومة. أي مجمل المؤسسات المالية الخاصة، المعنية احتمالا بانهيار شامل. وأنه، في حال أردنا فعلا أن نكون أكثر وضوحا، بمجرد أن تصبح منظومة عالم المال، وبالتالي القروض، في حالة دمار، لا يبقى هناك، بكل بساطة، أي إمكانية لأي نشاط اقتصادي. لا يبقى شيء. فهل هذا كاف لاستشراف ثقل الانعكاسات الهائل؟ ومهما كان ذلك مضنيا، لا بديل من الاستنتاج أنه بمجرد أن تنفجر فقاعة مالية ويتسلح الخطر المنظومي، يفقد المصرف المركزي تقريبا كل هامش للمناورة: فعملية (خطف الرهائن) المتمثلة في كون عالم المال الخاص قادرا على ربط مصيره الأسوءِ بكل نواحي الاقتصاد الأخرى، على أساس أن انهيار هذا سيفضي حتما إلى انهيار الآخر، والتي تفرض بالنتيجة تدخل السلطات الحكومية لنجدتها، عملية (خطف الرهائن) هذه لا يمكن إذن مجابهتها في خضم الأزمة. ولهذا فإن إعادة النظم والقواعد بشكل ملحوظ إلى عالم المال لا يمكن القيام بها إلا ضمن إطار هدف استراتيجي يقضي بمنع تكون الفقاعات مجددا، إذ بعدها سيكون الأوان قد فات. هكذا لا يمكن مكافحة الخطر المنظومي إلا عبر استئصاله، إذ بمجرد أن يعود للوجود، وخصوصا إذا ما استعاد نشاطه، ستكون الجولة قد خسرت. وإذا لم يبد الاحتياطي الفدرالي رغبة جدية في هذا الاستئصال، فإنه يعي على الأقل إلى أية درجة تتم السيطرة عليه استراتيجيا في اللعبة التي يتواجه فيها مع عالم المال الخاص المأزوم، والذي يبدو، وللمفارقة، في حالة قوة بقدر ما هو يحتضر. لذلك فهو يخضع، وإن على مضض، للإيعاز المتلاحق من مختلف المصارف المنهارة لكي يهب إلى إنقاذها، إلا إذا أراد أن يسمح بوقوع كارثة لا يمكن إصلاحها.ولأن مشكلة مصرف ليمان أصغر بكثير من المشاكل الأخرى، فقد فكر ثنائي الفدرالي ـ الخزانة أنه وجد أخيرا فرصة في أن يكون لديه الخيار. ولم يرد أن يفوتها تحت أية ذريعة. فهذا، سيجعله يدفع عن الآخرين، مع كل الغضب الذي تطلب الأمر ابتلاع حده عند التسليم بلي الذراع في كل المرات السابقة. لكن، مهما كانت مناسبة التفريج عن الغضب التي منحتها، كانت فرصة ليمان تتطلب، في أية حال، بأن تقيم بكل عناية قبل أن تسلم روحها. إذ نظرا إلى حجم هذا المصرف، وإلى تعرض سائر المصارف المتعاملة معه، يجوز التساؤل عما إذا كان إفلاس ليمان يجعل منه خطرا منظوميا أم لا ؟ صحيح أن ليمان كان أقل تعرضا للمشتقات المالية من نظيره مصرف بير شتيرن، 29 مليار مقابل 13400 مليار.. إلا أن ليمان سيغطي في أية حال على وورلد كوم في لوائح المجد، إذ أصبح صاحب أكبر عملية إفلاس في تاريخ الولاياتالمتحدة بحيث وصل مجموع ديونه إلى 613 مليار دولار. وبالطبع إنه ليس هناك ما يعادل هذا الإفلاس من الناحية التقنية، إذ أن ليمان يملك موجودات أصول، وأن إجراءات التصفية تهدف تحديدا إلى تسييلها.لكن ما قيمة هذه الأصول حقيقة؟ هنا تكمن المسألة كلها. فهناك في الحد الأدنى 85 مليار دولار من السندات الهالكة (منها 50 مليارا من مشتقات القروض العقارية المخاطرة)، التي نوت خطة شرائها التي درست في عطلة نهاية أسبوع 1412 سبتمبر، قبل أن تجهض في النهاية، أن تشتريها وتعزلها في مصرفٍ للموجودات السيئة مخصص لذلك. خمسة وثمانون مليارا، هذه كانت قيمتها في ذلك الوقت، لكن يجوز التساؤل عما سيبقى منها بعد انتهاء عمليات التصفية والبيع، حتى وإن كانت السلطة الأمريكية، التي كانت تعي خطر رؤية انهيار قيمتها أكثر، أرادت القيام بعملية تصفية منظمة، أي عملية تمتد على بضعة أشهر.مهما كان، فإن انهيار قيم الموجودات يبدو قاسيا، وليس فقط كمشكلة تتعلق بمصرف ليمان وحده. إذ أن قاعدة المحاسبة القانونية المعيارية تقوم على التسعير وفق السوق، أي احتساب الموجودات بحسب قيمة السوق الفورية، وسوف تجبر كل المؤسسات المالية الأخرى على أن تجري بدورها عملية إعادة تقييم أصولها المضخمة على أساس بيع التصفية الخاصة بليمان، مع تناقص القيم الإضافية الذي يمكن تخيله. ولكن مخاطر تناقص القيمة الدفترية الجانبية ليست الوحيدة القائمة... إذ تضاف إليها مخاطر القيم المقابلة المرتبطة بواقع أن الصفقات العديدة التي كانت ليمان ملتزمة بتنفيذها ستبقى دون سداد. وأخيرا، هناك خطر تنشيط منتجات مقايضة القروض غير المسددة، هذه المشتقات المالية التي تمنح من يشتريها ضمانة ضد الخسائر في قيمة موجوداتها المختلفة من السندات. فإذا كان هناك من اشترى هذا التأمين، فيعني ذلك أن هناك في الطرف الآخر شركات تأمين ضامنة. وهكذا فإن إفلاس ليمان سيفعل حتما عمل الـس التي تم إصدارها لضمان ديونها، وهنا ستكون التعويضات المتوجب دفعها كبيرة جدا. الحقيقة أن الثنائي الفدرالي ـ الخزانة قد اعتمد على مجموع هذه المخاطر لكي يتملص من عملية إنقاذ ليمان وإقناع أصحاب المصارف في السوق المالية بأن يأخذوها على عاتقهم، لأن ذلك بالتأكيد في مصلحتهم. لكن لا صوت لمن تنادي، إذ لم تصدر أي خطة من القطاع الخاص في أثناء عطلة نهاية الأسبوع الجنونية. ذلك لأن وول ستريت هي حالة مجردة، تغطي مجموعة من المصالح الخاصة والمتنافرة أحيانا. وكانت خطة الشراء، التي أجبر فشلها مصرف ليمان على إعلان إفلاسه، تعمل لكي يتم شراء الجزء الصحي من المصرف من قبل مصرفي باركليز وبنك أوف أمريكا (وقد تحول هذا الأخير في النهاية صوب ميريل لينش، وحصر أضرار الجزء السيئ بواسطة تمويل جماعي من السوق. إلا أن السوق المالية، والمقصود هنا أولئك الذين رغم أنهم لا يملكون القدرة على شراء الشظايا الجميلة، والذي طلِب منهم أيضا أن يساهموا في امتصاص انتقاص قيمة الموجودات السيئة، هؤلاء لم يقبلوا أن يلعبوا بكلفة كبيرة دور الخادم، من أجل السماح لاثنين من المحظوظين بأن يستأثروا بجواهر التاج، تاركين للآخرين عملية إصلاح القصر المتهدم. عالم اقتصاد فرنسي، باحث في المركز الوطني للأبحاث العلمية