إن المشاكل البيئية التي تعاني منها الإنسانية حاليا في اعتقادي لا تعدو أن تكون نابعة في أساسها من تصور الإنسان الغربي الخاطئ لهذه الحياة،باعتباره رائدا لهذه الحضارة المادية التي جاءت نتيجة لنظرته الدونية والمادية إلى نفسه وإلى كائناته من داخل هذا الكوكب . وهي نظرة أبعدته عن معرفة كنهه وحقيقته وحقيقة هذه الكائنات من حوله ، فأفقدته مكانته وأهميته ، وبالتالي حقيقة دوره الذي كان ينبغي أن يقوم به في هذه الحياة... وقد انعكست هذه النظرة الدونية في إجابته عن تساؤلات كان في غنى عن طرحها، فرضها على نفسه مع تطور معرفته ، تتعلق بمبدئه ونشأة الحياة على هذا الكوكب ومدى ارتباطه بكائناته...... فهل هو يا ترى ذلك الكائن الحي الذي أنزله الله من الجنة إلى الأرض ليقوم بمهمة الاستخلاف كما أخبرت بذلك الكتب السماوية ؟ أم هو ذلك الكائن الحي الذي وجد نفسه بموجب نظرية النشوء والارتقاء أو الانتخاب الطبيعي متربعا على عرش هذا الكوكب؟ في صراع دائم مع كائناته الحية ،يريد التحكم فيها والسيطرة عليها بمنطق العقل الأسير لهواه أو بمنطق العلم الخادم لملذاته.... إن تبني الإنسان لهذا الطرح ، وهو طرح غربي حيواني محض، من شأنه أن يفقده الشعور بالتميز عن باقي الكائنات من حيث النشأة ، فيعتبر نفسه امتدادا لها وحلقة راقية في سلسلة غذائية تنتظر امتدادا لها أو نهايتها في يوم ما على يد كائن أرقى منها،كما سيولده إحساسا بالاستعلاء السلبي اتجاهها ، فيؤدي به ذلك إلى عدم الاكتراث بها إلا في الحدود الذي تتعرض فيها مصالحه أو وجوده إلى الخطر. فيضطر بعد ذلك إلى التوقف، وفي أحسن الأحوال إلى التراجع إلى الوراء بالقدر الذي يمكنه من إخفاء الخطر المحدق به ، كما أخبر بذلك قوله سبحانه وتعالى: ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس ليذيقهم بعض الذي عملوا لعلهم يرجعون{ الروم/4} وعندما يفقد الإنسان آدميته باعتباره امتدادا طبيعيا لتلك الكائنات الحية ،تفقد هذه الأخيرة أمميتها التي أقرها الله لها سبحانه في كتابه العزيز حيث يقول: وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم ، ما فرطنا في الكتاب من شيء{الأنعام/38} . فيصبح الإنسان ذلك الكائن الحي المتميز بشكله دون جوهره، القابل لأن يخضع بدوره كما هو الشأن لدى باقي الكائنات الأخرى ،للقوانين الطبيعية دون مراعاة خصائصه التي ميزه الله بها عنها.... وهكذا يدخل الإنسان ،بعد اكتسابه هذا الشعور ، دائرة الصراع مع غيره من الكائنات، مقلدا إياها في صراعها مع بعضها البعض ،ومعتبرا نفسه الحلقة الأرقى والأكثر ذكاء في السلاسل الغذائية فيحاول التحكم فيها والسيطرة عليها مستغلا ضعفها ،بدلا من أن يكون مسخرا وحاكما لها بميزان العدل الذي أمره به سبحانه في قوله : وأقيموا الوزن بالقسط ولا تخسروا الميزان{ الرحمن/7} من هنا تأتي أهمية نظرة الإنسان لنفسه ولباقي الكائنات من خارج الكون ، وهي نظرة علوية أقرها الإسلام وأراد منه أن يتعامل من خلالها مع هذا الكون وكائناته. فالإسلام حينما يعتبر الإنسان ذاك الكائن المتميز من حيث المنشأ والأهمية عن غيره من المخلوقات ، إنما يريد منه أن يعيش ويتعايش معها في حدود التسخير والانتفاع الذي لا يخرجها عن وظيفتيها اللتين خلقت من أجليهما، والمتمثلتين في وظيفة العبودية لله الواحد الأحد،ووظيفة التسخير سواء لبعضها البعض أو للإنسان فيما بعد،كما يدل على ذلك قوله تعالى في الكثير من آيه: ألم تر أن الله يسجد له من في السماوات ومن في الأرض والشمس والفمر والنجوم والجبال والشجر والدواب وكثير من الناس ، وكثير حق عليه العذاب{الحج/18} أولم يروا أنا خلقنا لهم مما عملت أيدينا أنعاما فهم لها مالكون . ودللناها لهم فمنها ركوبهم ومنها يا كلون.ولهم فيها منافع ومشارب . أفلا يشكرون. {يس/70ـ 72 } وما من دابة في الأرض ولا طائر يطير بجناحيه إلا أمم أمثالكم .ما فرطنا في الكتاب من شيء،ثم إلى ربهم يحشرون{الأنعام/38} ولقد كرمنا بني آدم وحملناهم في البر والبحر ورزقناهم من الطيبات وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلا{الإسراء/70} إن مثل هذه النظرة المتوازنة هي الكفيلة وحدها لتشعر الإنسان بإنسانيته وبنوع من الاستعلاء الإيجابي على هذه الكائنات، الممزوج بالشكر والحمد لله على نعمه والمؤدي إلى الاقتصاد في تسخيرها ، واستخدام موارد البيئة من غير استنزافها،معتقدا أن كل ما في هذا الكون خلق موزونا ، وما كان موزونا كان متناهيا ، وبالتالي آيلا للنضوب .... وعلى الجملة يمكن القول: ـ أن المشاكل البيئية التي تعرفها الإنسانية حاليا ،لا يمكن أن تحل أو تجد سبيلا إلى الحل إلا بعد أن يترسخ لدى الإنسان اعتقاد بأنها ظلال كئيبة لمشكل نجم عن نظرته لهذا الكون ، وأن البذور الحقيقية للحل تكمن في تبنيه للنظرة الإيمانية التي تجمع بين الرؤية الدونية ، أي من داخل الكون، والتي مفادها أن الإنسان هو ذلك الكائن الحي المنفعل والمتأثر بما يدور حوله كما هو الشأن بالنسبة لسائر الحيوانات ، والرؤية العلوية ،أي من خارج الكون والتي تجعل منه ذلك الكائن العاقل الذي خلقه الله في أحسن تقويم والمنزل من الجنة ليقوم بمهمة الاستخلاف في الأرض وإعمارها ، معتمدا في ذلك على قوانين وتعاليم خالقه ، ومستلهما منها أفضل السبل وأضمنها لسلامة الحياة على الأرض ،كما جاء ذلك في قوله سبحانه :إن هذا القرآن يهدي للتي هي أقوم ـأن اعتماد أي نظرة للبيئة تبتعد في مفهومها عن النظرة الإيمانية ستنتهي حتما آجلا أم عاجلا إلى اصطدام الإنسان بنواميس هذا الكون ،تختلف قوة اصطدامه بحسب ابتعاده أو اقترابه من الفهم الصحيح والشمولي للحياة على هذا الكوكب، ـأن اعتماد أي برنامج أو خطة إصلاحية للمشاكل البيئية لا تستند في أساسها إلى هذه النظرة الإيمانية من شأنها، وفي أحسن الأحوال أن تقلل من الأخطار والخسائر على الأرض، دون إلغائها نهائيا،وبالقدر التي تحمله هذه الخطة من قوانين رادعة ، وكذلك بمدى استعداد وقدرة الإنسان على تطبيقها، لأنه في ظل هذه الإصلاحات ،تبقى الرقابة الإلهية لدى الإنسان معطلة أو غائبة تماما،وهي الأهم في هذا كله،وهكذا يبقى الفساد قائما يقل ويزداد بحسب قدرة الإنسان على دفعه وتغييره، ـوأخيرا عندما تغيب هذه النظرة الإيمانية وتقل أو تنعدم تبعا لها الرقابة الإلهية ، فإن صلة الإنسان العبد بخالقه تنقطع أو تقل،وكذلك اعتماده عليه. ونتيجة لهذا تتعطل معية الله فيوكل العبد لنفسه الضعيفة الأمارة بالسوء فتزداد أخطاؤه، وبالتالي حجم فساده ومصائبه على الأرض.