بدءا يجب أن نؤكد مجددا أنه لا مجال لاستنساخ التجربة التركية، ولا مجال لنجاحها في المغرب لأن السياق غير السياق ولأن المجتمع غير المجتمع والرجال غير الرجال . لكن ذلك لا يمنع من أن نقرأها قراءة فاحصة وواعية ، ونستفيد من إيجابياتها الكثيرة ونستحضر خصوصياتها . ولعل ما يدفع إلى ذلك ويشجع عليه هي أنها هي التجربة الوحيدة الناجحة في المنطقة التي تقول ـ بالرغم من التهديدات المحيطة بها ـ بأن الأمة أهل كي تنجح تجربة ديمقراطية ، وكي تقدم للعالم تجربة ناجحة في مجال الديمقراطية . دواعي هذا التحول المطلوب بناء على ذلك نقوم برصد أولي للدواعي التي تشجع على الانتقال إلى منطق التدبير في العمل السياسي خاصة مع استحضار السياق الدولي والمغربي حيث يمكن التأكيد على الدواعي التالية: 1ـ العولمة الاقتصادية والسياسة حيث تدل كل المؤشرات على تراجع موقع السياسة في البلاد العربية ومنها المغرب وتراجع تأثير القرار السياسي الداخلى في ظل العولمة السياسية والاقتصادية ، حيث : أ ـ انكمش دور الدولة القطرية مع هيمنة العولمة وترحيل القرار السياسي إلى خارج الأوطان ( هيمنة القطب الوحيد ) ب ـ تراجع السياسي بالمقارنة مع ما هو اقتصادي حيث الدور الأكبر اليوم للمال ولحركيته وسلطته وللشركات المتعددة الجنسية ج ـ تصاعد حدة الاختراق الثقافي والهيمنة الثقافية مع تطور وسائل الاتصال وتراجع المفاهيم التقليدية في هذا المجال من قبيل مفهوم السيادة الثقافية ، أي عجز الدولة وميكانيزماتها في التصدي لظواهر الاختراق ومن ثم ضرورة حلول المجتمع بإمكانياته وآليات مقاومته المدنية والشعبية، وذلك يعني إعادة الاعتبار للأدوار الأساسية في الحركات الإسلامية أي أدوار الدعوة والتربية والتكوين وأدوار العمل الثقافي. 2ـ أزمة السياسة في العالم وأزمة السياسة في العالم العربي الإسلامي وظهور نزوعات انتكاسية نحو الاستبداد والاستفراد بالساحة من قبل بعض الأنظمة التي أظهرت بعض المؤشرات نحو الانفتاح السياسي ، وهي تراجعات يتضاءل معها حجم الرهان على المدخل السياسي في الإصلاح ويتضح معها انحذار سقف المدخل السياسي على الرغم مما يستهلكه من وقت وجهد وطاقة . ومرد ذلك إلى تراجع خطاب الدمقرطة الذي ظهر لدى بعض الأوساط الغربية خاصة حين تبين أن إعمال الديمقراطية الحقة لن يحمل في المدى المنظور سوى الحركات الإسلامية . ودون مراعاة هذا المعطى مع ما يرتبط به من إعادة انتشار استراتيجي على مستوى الاهتمام ،فإنه من المتوقع أن تتزايد مساحات الإحباط وتتقوى عوامل العزوف الداخلي عن المشاركة كما تعزز ذلك العزوف عند عامة المواطنين . 3 ـ موقع الإصلاح السياسي من المشروع الإصلاحي العام في تصورنا المؤسس ، ونتحدث هنا تحيدا عن تصور حركة التوحيد والإصلاح حيث إن ميثاق حركة التوحيد والإصلاح قد العمل السياسي في مجالات العمل وذلك يعني أن الإصلاح السياسي ليس سوى مدخل من مداخل الإصلاح ليس هو المدخل الأوحد . 4 ـ القضية الرابعة : ترتبط بمفهوم السياسة وبمفهوم الحزب السياسي في الدولة المعاصرة ـ السياسة تدبير للشأن العام أ ـ فالحزب في الدولة المعاصرة : أداة لتنظيم المواطنين الذين يتقاسمون اختيارات سياسية وبرنامجية معينة ب ـ والوظيفة الأساسية للحزب السياسي هو تدبير الشأن العام إما من خلال موقع التسيير أو من خلال موقع المعارضة . ج ـ ومنطق السياسة يقول إن العمل السياسي عمل تنافسي تداولي مما يقتضي تنسيب العمل السياسي والاجتهاد السياسي واعتباره اجتهادا سياسيا في ظل المرجعية الإسلامية . والسياسة شئنا أم أبينا ومهما تطهرنا أخلاقيا فهي مجال للتدافع عن المصالح وحتى إن لم تكن تلك نيتنا ولم يكن ذلك هو سلوكنا فإن الآخرين لن ينظروا إلينا إلا على أننا ننافسهم على مصالحهم بل نفسد عليهم تلك المصالح . ج ـ ومراعاة طبيعة الدولة المعاصرة واستحضار خصائصها تفرض علينا الانتباه إلى أنها قائمة على التمييز بين السلط، وإلى مأسسة الأعمال والتخصص فيها بدل الصورة البسيطة الأولية التي كانت السلط فيها ممركزة أو يمكن أن تجتمع في شخص واحد. ومن بين أهم صور ذلك التمييز بين السلطة الدينية والسلطة السياسية، وهو تمييز ينبغي أن لا يفهم على أنه نزوع علماني بقدر ما هو ضرورة تنظيمية (مثلا لم يعد المسجد بؤرة لكل الأنشطة بل بدأت تتميز عنه عدة أنشطة (النشاط التعليمي والعلمي بنشأة المدارس والجامعات، فلم يعد المسجد الأداة الأساسية للتواصل والإعلام). وحتى إذا سميناه علمانية ولا غرو في ذلك، فالأمر لا يتعلق بعلمانية شاملة أو علمانية استئصالية وإنما هي علمانية وظيفية لا تتعارض بأن تبقى المرجعية العليا للإسلام وأحكامه ومقاصده وقيمه ومبادئه. وعلى هذا الأساس لا يمكن أن نعتبر أعضاء الحركات الإسلامية الذين ينشغلون بالدعوة والتربية وليس لهم انتماء سياسي بأنهم يمارسون العلمانية بمفهومها السلبي وإنما يمارسون مهامهم في إطار تمييز مفيد لإتقان الأعمال وإحسان أدائها. ـ وتنبغي الإشارة إلى أن هذا التميز الوظيفي، حيث نشأت بوادره الأولى مباشرة بعد وفاة الرسول صلى الله عليه وسلم حيث بدت تدريجيا تنفصل الوظيفة التربوية والدعوية عن الوظيفة السياسية التنفيذية، وهذه عن الوظيفة القضائية، ومن ثم فالتمييز هو ضرورة تنظيمية، وضرورية للإحسان والإتقان. (نظرية تقسيم العمل عند ابن خلدون كضرورة من ضرورات العمران البشري). ومن فوائد هذا التمييز أيضا، فضلا عن الإتقان والإحسان التمييز بين العمل الدعوي والسياسي، بين مجال ممارسة خطاب الهوية ومجال ممارسة خطاب التدبير يمكن من افتكاك العمل الدعوي من ارتهانات العمل السياسي الحزبي وتقلباته ، ويجعل منه عملا جامعا ليس متناثرا بتقلبات السياسة. 5 ـ خصوصية الواقع المغربي وخصوصية الحركة الإسلامية المغربية. وإذا أضفنا إلى ذلك كله الخصوصيات المغربية وخصوصية الحركة الإسلامية في المغرب، حيث إن المجال الديني هو مجال منظم من طرف الدولة ويقع تحت الإشراف المباشر لـ أمير المؤمنين وأن حركتنا لا تقدم نفسها منافسا أو نقيضا للشرعية الدينية القائمة بل تدعمها، وأن حركتنا خرجت من اٌلإشكالية المشرقية: إشكالية إقامة الدولة إلى الإسهام في إقامة الدين. وإذا استحضرنا قوة رصيد التدين في المغرب ووجود فاعلين آخرين يسهمون في دعم التدين في المجتمع وأن حركتنا تبنت نظرية تقسيم الأعمال والتمييز بين المجال الدعوي والمجال السياسي أي نظرية التخصص أو نظرية تقسيم الأعمال، حيث صار مقررا في أدبيات الحركة حيث تهتم الحركة بالتربية والدعوة والتكوين، فتقرر أن دعم التوجه نحو منطق التدبير والعمل بمقتضاه وتحضير شروطه أصبح من الأولويات التي وجب اعتمادها . وتجدر الإشارة إلى أن هذا الانتقال الذي ينبغي أن يكون هادئا ومتدرجا ومدروسا لا ينبغي أن يغيب عنا الحقائق التالية: ـ إننا لا ندعو إلى استنساخ التجربة التركية بحذافيرها، فالواقع غير الواقع، والدولة هنا إسلامية وهي هناك علمانية ، لذلك فإن الانتقال إلى منطق التدبير لا يتنافى مع تناول قضايا الهوية بشرطين أساسين : عدم التمركز حول خطاب الهوية وتضخمه في الإحساس والشعور والمبادرة بل أن يأخذ حجمه الطبيعي، كما ينبغي تناول قضايا الهوية من خلال آليات الخطاب السياسي الحزبي أي تناولها من مطلق السياسات العمومية، اي الرقابة البرلمانية أو المبادرة التشريعية. ـ إن حضور المرجعية الإسلامية وقضايا الهوية لا يكون فقط من خلال القضايا ذات الطبيعة الأخلاقية، كما أنه ليس من الضروري أن تحضر بطريقة مباشرة، ولكن يمكن أن تحضر كمنطلقات صريحة أو ضمنية في العمل السياسي أو العمل البرلماني أو كمقاصد وعبر مختلف آليات العمل السياسي أي من خلال برامج سياسية واقتصادية تحقق مقاصد حفظ الدين وحفظ العقل وحفظ المال وحفظ النسل وحفظ العرض. وهكذا لن تبقى قضية الهوية خطابا دفاعيا أو شعاراتيا، كما أنها لن تبقى موروثا تاريخيا محنطا محروسا يخشى عليه من عبث العابثين وهجوم المتربصين، وإنما تصبح هوية حية وفاعلة، لن تبقى الهوية ميراثا بل تتحول إلى إبداع متجدد نصنعها باستمرار. طالبان أم اربكان أم أردوغان؟ وهكذا وحسب السياق والظروف قد يكون أردوغان أكثر خدمة للهوية من أربكان ناهيك عن طالبان . لقد ذهبت طالبان تبحث عن هويتها في هدم ثماثيل بودا التي سكت عنه الصحابة والتابعون، وانشغلوا ببناء الإسلام في النفوس، لأنهم لم يعتبروا في يوم من الأيام أن أصناما خرساء بإمكانها أن تزعزع عقيدة المسلمين أو تجعلهم يرتدوا على أعقابهم كافرين. كما أن أصنام قريش لم تستفز المسلمين الموحدين وقد ظلوا يطوفون على الكعبة وهي فيها وعلى جوارها إلى عام الفتح، فلم يهدمها النبي صلى الله عليه وسلم إلا بعد أن كانت قد تهدمت في النفوس. كما أن سعي أربكان لبناء السوق الإسلامية المشتركة وإعادة ربط تركيا بالعالم الإسلامي لم يكن أكثر خدمة لهوية تركيا من طلب اردوغان الانضمام للاتحاد الأوروبي. فقد كشف هذا الطلب النفاق الأوروبي وعودة بعض أطرافه إلى خلفيتهم الدينية المسيحية لمنع انضمام تركيا. لقد جاءته بذلك شهادة عميقة أنه كان أكثر قدرة على تأكيد حقيقة انتماء تركيا، وأن تركيا إن كان عسكرها يفرض العلمانية بالسلاح، فليس بإمكانه أن يسلخ شعبها عن انتمائه الإسلامي، وأنه يمكن إثبات ذلك بالديمقراطية وبحقوق الإنسان إذا أرادوا، وبالعلمانية إذا أرادوا، وبالدفاع عن الحرية في الجامعة والشارع وفي السياسة والاجتماع والاقتصاد، وإثبات أن أدعياء الديمقراطية والعلمانية هم في الحقيقة هم أكبر خصومها. وفي هذا تميز نجم الدين أردوغان ليس عن طالبان بل أيضا على أستاذه نجم الدين أربكان.