نشرت جريدة التجديد في السابق مقالا للسيد حسام تمام بعنوان أهل السنة والجماعة، اعتقاد الأمة المستعلية على الفتنة والفرقة. والفكرة المركزية للمقال صحيحة ومهمة جدا تركز على أن ظهور مصطلحي أهل السنة وأهل السنة والجماعة كان عنواناً على رفض الفرقة والفتنة، والتمسك بوحدة الأمة وأصلها، ولم يكن ذلك إنشاء لفرقة داخلها. لكن وردت في المقال ثلاث مصادرات غير صحيحة وفي نفس الوقت خطيرة تسربت من كتابات معاصرة وبعضها رسائل علمية نوقشت في جامعات عالمية، وهذه بدورها استقت معلوماتها من كتابات المستشرقين. أما أطروحتهم المركزية فهي أن السنة أو سنة النبي كمصدر للدين والتشريع في الإسلام لم تبرز إلا في القرن الثاني للهجرة ولم تكن معروفة في عهد النبي صلى الله عليه وسلم ولا عهد الصحابة والتابعين. ثم برز مصطلح أهل السنة بعد ذلك لتبرير توجهات معينة. وهم بذلك يهدفون إلى هدم الأساس الثاني للإسلام. وهذا الفخ الذي نصبه أولئك المستشرقون وقع فيه الكثيرون ممن لم يستوعبوا تطور الفكر الإسلامي ولا تطور العلوم الإسلامية في القرنين الأول والثاني الهجريين، على الرغم من أن توفر المادة العلمية اليوم بشكل غير مسبوق يتيح إبطال تلك الدعاوى بالأدلة العلمية والتاريخية. ومن آخر تلك الدراسات ـ مثلا ـ كتاب السنة بين الأصول والتاريخ لكاتبه حمادي ذويب الذي يذهب فيه إلى أن مفهوم سنة الرسول لم يكتسب أهميته باعتباره مفهوما أصوليا إلا في زمن متأخر، ذلك أنه من الصعب الجزم بأن الرسول نفسه قد استخدمه (ص 44). ويؤكد في مواضع عدة أن الشافعي هو الذي فرض السنة بكونها مجموعة الأحاديث النبوية الصحيحة وبصفتها المصدر الموضوعي الثاني أو الأصل الثاني للشريعة بعد القرآن (ص 45)، وقال أيضا: وقد اكتسبت السنة هذه المنزلة الأثيرة إثر اعتبار الشافعي لها وحيا من نمط يختلف عن وحي الكتاب (ص46). والنتيجة التي يريد الكاتب أن ينتهي إليها بعد تحليل طويل فيه الكثير من التجاوزات المنهجية والمعرفية هو اعتبار مفهوم سنة النبي مفهوما نسبيا وتاريخيا من صنع الفقهاء والأصوليين (ص 59)، واعتبار تأسيس حجية السنة أصلا ثانيا من أصول الفقه هو عمل تاريخي إنساني (ص 310). ونظرا لخطورة الدعوى وتسربها إلى العديد من الكتابات كان من اللازم توضيح وجه الصواب فيها. أما المصادرات الثلاث الخاطئة في نظري فهي كالتالي: 1 ـ اعتبار الشافعي هو من أعطى للجماعة أصلها الشرعي ومن جعل منها إطارا مرجعيا للأمة حين يجعل من الإجماع الركن الثالث من مصادر الدين 2 ـ الادعاء بأن مصطلح (أهل السنة) ظهر بعد نحو قرنين ـ بدايات القرن الثالث الهجري ـ ردا على الفتنة المذهبية التي اجتاحت الأمة مع نشأة الفرق. فلاحظ التدقيق ببداية القرن الثالث كأن الكاتب استقرأ نصوص قرنين فلم يجد للمصطلح وجودا. 3 ـ الادعاء بأن أحمد بن حنبل أول من تحدث بمصطلح (أهل السنة والجماعة). ويدقق قائلا: وكان النص الذي كتبه والذي عرف بعقيدة أحمد أهم نص يحدد معالم (أهل السنة والجماعة) وفيه يقول ـ بعد بيان معتقدهم ـ هذه المذاهب والأقاويل التي وصفت مذاهب أهل السنة والجماعة. والصحيح أن الادعاءات الثلاث غير صحيحة بالمرة. فالمصطلحات الثلاثة كانت موجودة منذ القرن الأول في كلام فقهاء الإسلام من الصحابة وغيرهم، والشافعي وأحمد وغيرهما إنما دققا وشرحا ولم ينشئا من الصفر. وأورد هنا نماذج سريعة لتلك الاستعمالات. مصطلح الإجماع 1 ـ أما مصطلحا الجماعة والإجماع فقد استعملا منذ عهد الصحابة والتابعين. والأصل الشرعي للجماعة لم يعطه الشافعي، بل ورد في نصوص نبوية صحيحة معروفة. وقد ذكر الكاتب نفسه أن الحسن بن علي لما تنازل سنة 14 من الهجرة لمعاوية بن أبي سفيان خليفة للمسلمين، واجتمع الأمر عليه بعد تفرق أصبح العام عام الجماعة في إشارة إلى استعادة الأمة وحدتها السياسية مجدداً بعد تفرق. أما الإجماع فإنه وإن لم يرد صراحة في النصوص النبوية على الراجح فإن الشواهد الكثيرة تؤكد مراعاته في الممارسة العملية للاجتهاد الفقهي والسياسي. لكن كتاب عمر بن الخطاب إلى شريح القاضي يؤكد وجود الوعي بمصادر التشريع الثلاث الأولى والالتزام بتراتبيتها قبل أن يدونها الشافعي في كتابه الرسالة. يقول عمر بن الخطاب: ( إذا وجدت شيئا في كتاب الله فاقض به، ولا تلتفت إلى غيره، وإن أتاك شيء ليس في كتاب الله فاقض بما سن رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولم يسن رسول الله صلى الله عليه وسلم فاقض بما أجمع عليه الناس، وإن أتاك ما ليس في كتاب الله ولا سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يتكلم فيه أحد قبلك، فإن شئت أن تجتهد رأيك فتقدم، وإن شئت أن تتأخر فتأخر، وما أرى التأخر إلا خيرا لك)1. وروى علماء التابعين أن منهج الخليفتين أبي بكر وعمر في معرفة الحكم الشرعي يتبع ذات الترتيب. فقال ميمون بن مهران: (كان أبو بكر الصديق إذا ورد عليه حكم نظر في كتاب الله تعالى، فإن وجد فيه ما يقضي به قضى به، وإن لم يجد في كتاب الله نظر في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن وجد فيها ما يقضي به قضى به، فإن أعياه ذلك سأل الناس: هل علمتم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قضى فيه بقضاء؟ فربما قام إليه القوم فيقولون: قضى فيه بكذا وكذا، فإن لم يجد سنة سنها النبي صلى الله عليه وسلم جمع رؤساء الناس فاستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به، وكان عمر يفعل ذلك، فإذا أعياه أن يجد ذلك في الكتاب والسنة سأل: هل كان أبو بكر قضى فيه بقضاء؟ فإن كان لأبي بكر قضاء قضى به، وإلا جمع علماء الناس واستشارهم، فإذا اجتمع رأيهم على شيء قضى به2. فهل هناك وضوح منهجي أكبر من هذا؟ وهل هناك كلام أصرح من هذا في حجية الإجماع عندهم؟ وقبل الشافعي كان أئمة عديدون يعتمدون الإجماع مصدرا ثالثا للأحكام الشرعية، وورد ذلك في كلامهم باستفاضة. ولعل مالك بن أنس أستاذ الشافعي من أكثرهم حديثا عنه. يقول الشيخ محمد أبو زهرة: لعل مالكا رضي الله عنه أكثر الأئمة الأربعة ذكرا للإجماع واحتجاجا به، فإنك تفتح الموطأ فتجده في مواضع كثيرة يذكر الحكم في القضية على أنه الأمر المجتمع عليه. ثم ذكر بعض الأمثلة من نصوص مالك. أما مدلول الإجماع عنده فقد شرحها مالك بنفسه قائلا: وما كان فيه الأمر المجتمع عليه فهو ما اجتمع عليه أهل الفقه والعلم ولم يختلفوا فيه3. لقد كان عمل الشافعي في الرسالة سابقة في التأليف في أصول الفقه، لكن ما سجله من اعتبار الإجماع الركن الثالث أو ـ على الأصح ـ المصدر الثالث للاستنباط الفقهي ليس إنشاء من عنده بل هو تقرير لقاعدة موجودة وملتزم بها من قبل. مصطلح أهل السنة 2 ـ لننظر الآن في مصطلح أهل السنة، وهل فعلا لم يظهر إلا في بداية القرن الثالث الهجري. إن المصادر تخبرنا أن أول من أثر عنه هذا اللفظ الصحابي الجليل عبد الله بن عباس رضي الله عنهما، فقد اشتهر قوله في تفسير الآية من سورة آل عمران (يوم تبيض وجوه وتسود وجوه): تبيض وجوه أهل السنة، وتسود وجوه أهل البدعة4. كما أثر عنه قوله: النظر إلى الرجل من أهل السنة يدعو إلى السنة وينهى عن البدعة، عبادة5. أما في عصر التابعين وتابعيهم فقد استعمل مصطلح أهل السنة بكثافة أستغرب أن تخفى على الذين يظنون أو يدعون ظهوره في بداية القرن الثالث. وسأعطي هنا بعض الأمثلة فقط، وإلا فاستيعاب النصوص الوافرة في هذا المقام غير ممكن. النص الأول هو قول لمحمد ابن سيرين لا يفيد فقط في استعمال المصطلح، ولكن يفيد أيضا في كونه استعمل في صفوف العلماء مبكرا مقابل مصطلح أهل البدع. وبالتالي فإنه وإن اختلفت بعض دلالاته مع مرور الزمن ومع تعدد المدارس العقدية والفكرية، إلا أن دلالته الأصلية لم تتغير كثيرا. يقول ابن سيرين المتوفى سنة 110 من الهجرة، أي في بداية القرن الثاني: لم يكونوا يسألون عن الإسناد، فلما وقعت الفتنة قالوا: سموا لنا رجالكم، فينظر إلى أهل السـنة فيؤخـــذ حديثهم وينظر إلى أهل البدع فلا يؤخذ حديثهم6. كما قال الحسن البصري (ت 110 هـ): يا أهل السنة ترفقوا رحمكم الله فإنكم من أقل الناس7. واستعمل العديد من علماء القرن الثاني مصطلح أهل السنة مقابل الفرق المخالفة لهم في أصول العقائد. فقد سئل الإمام مالك (ت سنة 179 هـ) من أهل السنة؟ قال: أهل السنة الذين ليس لهم لقب يعرفون به لا جهمي ولا قدري ولا رافضي8 ويقول الفضيل بن عياض (ت 187هـ): يقول أهل السُّنة: الإيمان المعرفة والقول والعمل فمن قال الإيمان قول وعمل فقد أخذ بالوثيقة، ومن قال الإيمان قول بلا عمل فقد خاطر فإنه لا يدري أيقبل إقراره أو يرد عليه بذنوبه. وروي عن وكيع بن الجراح (ت 197هـ) أنه كان يقول: أهل السنة يروون ما لهم وما عليهم، وأهل البدعة لا يروون إلا ما لهم9. وقال الحميدي: سمعتُ وكيعاً يقول: أهل السنة يقولون: الإيمان قول وعمل، والمرجئة يقولون: الإيمان قول، والجهمية يقولون: الإيمان المعرفة45. مصطلح أهل السنة كان إذن شائع الاستعمال في القرنين الأول والثاني، لكن سيعرف تطورا في المفهوم مع مرور الوقت، وخصوصا بعد أن امتحن أحمد بن حنبل في أمور العقيدة وصار يلقب بإمام أهل السنة. مصطلح أهل السنة والجماعة 3 ـ نأتي الآن إلى مصطلح أهل السنة والجماعة الذي ظهر هو أيضا واستعمل قبل أحمد بن حنبل بحوالي قرن من الزمان وخصوصا أن الرسول صلى الله عليه وسلم قد أمر بالسنة وأوصى بها، وأمر بالجماعة وأوصى بها، ونهى عن خلافها ومفارقتها، والخروج والشذوذ عنها. فهذا أبو حنيفة النعمان (ت 150هـ ) يقول في كتابه الفقه الأوسط في بيان مذهب السلف في صفات الله تعالى قوله: لا يوصف الله تعالى بصفات المخلوقين، وغضبه ورضاه صفتان من صفاته بلا كيف، وهو قول أهل السنة والجماعة، وهو يغضب ويرضى، ولا يقال: غضبه عقوبته ورضاه ثوابه، ونَصِفُه كما وصف نفسه أحدٌ لم يلد ولم يولد، ولم يكن له كفواً أحد، حيٌّ قادر سميع بصير عالم، يد الله فوق أيديهم، ليست كأيدي خلقه، ووجهه ليس كوجوه خلقه 10 وهذا سفيان الثوري (ت161هـ) يقول: إذا بلغك عن رجل بالمشرق صاحب سنة، وآخر بالمغرب فابعث إليهما بالسلام وادع لهما، ما أقل أهل السنة والجماعة11. وكلا الإمامين توفيا قبل ولادة أحمد بن حنبل بأكثر من ثمانين سنة. لماذا هذه التدقيقات؟ إن الدفاع عن السنة واجب في زمن العولمة حيث تزداد الشبهات وتقوى. ودعاوى تأخر بروز مصطلحات السنة وأهل السنة ما هي إلا مقدمة لهدم الأصل الثاني في الإسلام. وتأثيرها السلبي على الكثير من أبناء المسلمين اليوم لا يخفى. ومقصودي في هذه العجالة توضيح أن الحقائق التاريخية والعلمية تبطل تلك الدعاوى جملة وتفصيلا، لكن عدم المعرفة بها يوقع في الغلط إن هذه الاستدراكات لا تنقص من قيمة الأفكار الواردة في مقال الأستاذ حسام تمام، وهي الأفكار التي أتفق معها في المجمل، فعسى أن تتعبأ الجهود لحفظ الأمة على منهاج أهل السنة والجماعة بعيدا عن البدعة والفرقة آمين. ------------------ 1 ـ ابن قيم الحوزية: أعلام الموقعين: 1/16 ـ 26 2 ـ نفسه. 3 ـ أبو زهرة: مالك، حياته وعصره ـ آراؤه وفقهه، ص .752 4 ـ تفسير القرطبي: 4/،761 تفسير ابن كثير: 2/،67 تفسير البغوي 4/)36 5 ـ تفسير القرطبي: 7/.141 6 ـ رواه مسلم في مقدمة صحيحه ص .51 7 ـ أبو القاسم هبة الله اللالكائي: شرح أصول اعتقاد أهل السنة والجماعة 2/75 8 ـ ابن عبدالبر النمري: الانتقاء في فضائل الثلاثة الأئمة الفقهاء .53 9 ـ أبو الحسن الدارقطني: السنن (1/62) 10 ـ أبو حنيفة: الفقه الأوسط ـ 65 11 ـ اللالكائي: شرح السنة 1/،46 وانظر ابن الجوزي في تلبيس البليس ص .9