حرية الاعتقاد ليست فقط حقا من الحقوق، ولكنها مقصد كلي من مقاصد الإسلام، وأن النصوص الحديثية التي يتوهم تعارضها مع هذا الأصل تبين مدلولها نصوص أخرى تشرح مفهوم الردة وتحيل معناها إلى الخروج المسلح على الجماعة، وليس مجرد تغيير دين أو تبديل معتقد في الموقف من المرجعية الإسلامية كلما ناقشنا موقف هذه النخبة الحداثية من المرجعية الإسلامية، وكلما كشفنا تعبيراتها المصادمة للمرجعية الإسلامية إلا وننعت بكوننا نتبنى التكفير صراحة أو ضمنا، وحتى نتجنب التعليق الذي يفضي إلى تصنيفنا في أحد خانات الحداثيين السوداء، يكون من الأليق أن نسائل صاحب المقال المذكور أن يفسر لنا العبارة التالية :لا أحد يشرح للمغاربة مضمون هذه المرجعية (أي الإسلامية) وما تحفل به من قتل وقطع أياد ورجم وجلد..... كيف يمكن للقارئ المغربي الذي لا ينتمي إلى الحركة الإسلامية أن يفسر هذه العبارة؟ وكيف يمكن للباحث المستنير الذي تسلح بكل أدوات تحليل الخطاب أن يتخذ هذه العبارة كعينة لكشف موقف صاحب المقال المذكور من المرجعية الإسلامية؟ وكيف يمكن لصاحب المقال أن يبين لنا بعد هذه العبارة أنها لا تحمل مشاعر عدوانية ضد المرجعية الإسلامية؟سنمسك عن التعليق حتى لا تصيبنا شرارات تهم الحداثيين، ونمضي إلى مناقشة القضايا التي عرضتها المجلة في سياق المقارنة بين الشريعة الإسلامية والمواثيق الدولية. المأزق المنهجي إن المقارنة بين ما ورد في أفهام واجتهادات منسوبة إلى المرجعية الإسلامية وبين ما استقر في المواثيق الدولية يتطلب الاتفاق على ضابط منهجي واحد يجري على المرجعيتين معا. المشكلة أن بعض المثقفين الحداثيين لا ينتبهون جيدا لهذا الاعتبار المنهجي وهم ينساقون في عملية المقارنة المتسرعة، فيعمدون إلى التعامل بانتقاء أو بانتهازية مع الاجتهادات الإسلامية التي قاربت بعض القضايا، في حين يعمدون إلى ما استقر من مواثيق دولية في الصيغة التي آل إليها الاجتهاد الكوني. الخطأ المنهجي الذي يرتكبه هؤلاء أنهم لا يلتزمون نفس الضابط المنهجي الذي اعتمدوه في التعامل مع المواثيق الدولية، فلا نجد مثقفا حداثيا يستعير نصا حقوقيا يعود إلى زمن غابر، وإنما يستدلون بما استقر من اجتهادات صارت لها حكم الكونية.غير أنهم في الجانب المقابل، حين يريدون محاورة الاجتهادات الإسلامية، لا يبحثون عن الاجتهادات التي استقرت وصارت ثوابت في الخطاب الإسلامي المتداول، وإنما يعمدون بانتقائية مخلة إلى البحث عن الاجتهادات السياقية والتاريخية، أو يستشهدون في غياب الضوابط الأصولية بالنصوص التي للعلماء فيها مقال بلغ حد التواتر بين طلبة العلم. وإذا كانت الحداثة في أحد معانيها تشترط العقلانية وسعة الأفق في التعامل مع الآخر ومنتوجه الفكري، فكان الأولى للذي يريد فعلا أن يخوض نقاشا علميا أن يأتي بالاجتهادات المستقرة والمتداولة لدى الحركات الإسلامية (وهي الآخر، والطرف المحاور في القضية) بدل أن يضيق واسعا، وينتقي ما يتوهم أنه يسعفه في إثبات رجعية أحكام المرجعية الإسلامية واستنارة مقتضيات المواثيق الدولية، وسنبين من خلال هذا المقال المزالق التي تسبب فيها اعتماد هذه الازدواجية في الضوابط والمعايير. الحق في الحياة الحق في الحياة ثابت في المرجعية الإسلامية بنصوص الشرع، بل الحفاظ على النفس يعتبر من المصالح الضرورية التي أكد عليها علماء المقاصد ، والأصل في ذلك الآية الكريمة: من قتل نفسا بغير نفس فكأنما قتل الناس جميعا، ومن أحياها فكأنما أحيا الناس جميعا فنص القرآن واضح في كون قتل نفس واحدة هو بمثابة قتل لجميع البشرية. على أن الاعتداء على حياة الناس ليس فقط جريمة اجتماعية، وإنما هي جريمة دينية، لأنها تضمن الاعتداء على سلطان الله الذي يتصف وحده دون غيره بصفة الإحياء والإماتة. وما أوردت المقال المذكور، وقبله عشرات المقالات والكتابات الاستشراقية في العقود السابقة، إنما يتعلق بسياق الحرب التي تخضع لأحكام خاصة ليس فقط في الشريعة الإسلامية، وإنما في جميع الشرائع والقوانين، إذ لا يمكن أنت نتصور حربا من غير قتل وجرح. على أن المستقر والمتداول في الاجتهادات الإسلامية المعاصرة هو أن الحرب ومشروعية القتال تكون لجهة الدفاع عن الأوطان، وهو ما تكفله حتى المواثيق الدولية التي تجيز حق المقاومة ورد العدوان، والقتل الذي تمارسه حركات المقاومة ضد الاحتلال الأمريكي في أفغانستان وفي العراق، والقتل التي تمارسه الحركات المقاومة للاحتلال الإسرائيلي لا يمكن أن نعده اعتداء على حق الحياة، بل يدخل ضمن حق الدفاع على الوطن والديار الذي ترعاه الشريعة الإسلامية، وضمن حق المقاومة الذي تكفله المواثيق الدولية. فلا اعتراض بهذا الاعتبار بين المرجعية الإسلامية وبين المواثيق الدولية في هذا المثال. حق العقيدة كان على المقال المذكور أن يزيد إلى جهده جهدا لآخر، وأن يلزم نفسه بدراسة بعض المقتضيات الأصولية والمنهجية في فهم النصوص الشرعية، فالمعمول به أصوليا بل حتى قانونيا أن النص لا يقرأ إلا بجوار النصوص التي تتناول نفس الموضوع، والاقتصار على نص واحد، واستنباط الحكم الشرعي منه آفة منهجية حذر منها العلماء، والمبتدئون في علوم الشريعة قبل المنتهين يعلمون أن أول أصل وضابط لفهم الشرع هو جمع النصوص الواردة في الباب الواحد، وهو أصل معمول به أيضا في الاجتهاد القانوني والقضائي، والمنزلق الذي ارتكبه المقال المذكور في هذا الموضوع له وجهان: -الوجه الأول: أنه استمسك بالاجتهادات التي أصبحت متجاوزة في الدائرة الإسلامية، ولم يعرج على ما استقر من اجتهاد متداول بهذا الخصوص، وكان عليه على الأقل إن لم يكلف نفسه عناء البحث في كتابات سليم العوا والشيخ محمد الغزالي والشيخ يوسف القرضاوي والمستشار طارق البشري والشيخ طه جابر العلواني والدكتور محمد سعيد رمضان البوطي، أن يقرأ ما كتب الدكتور أحمد الريسوني في الموضوع باعتباره يمثل رمزا للحركة الإسلامية المحاورة (طرف الحوار في موضوع الحريات الفردية). -الوجه الثاني: أنه لم يكلف نفسه جمع النصوص الواردة في هذا الباب، بل ولم يكلف نفسه مناقشة تعليلات الفقهاء وتوجيهاتهم لبعض النصوص بما ينسجم مع المقاصد الكلية للقرآن الكريم. وقد نشرت التجديد في سياق تأكيدها على تبنيها للاجتهادات المستقرة في موضوع حرية الاعتقاد دراسة لكتاب الدكتور طه جابر العلواني حول إشكالية الردة، وانتهت إلى ما انتهى إليه العلواني من أن حرية الاعتقاد ليست فقط حقا من الحقوق، ولكنها مقصد كلي من مقاصد الإسلام، وأن النصوص الحديثية التي يتوهم تعارضها مع هذا الأصل تبين مدلولها نصوص أخرى تشرح مفهوم الردة وتحيل معناها إلى الخروج المسلح على الجماعة، وليس مجرد تغيير دين أو تبديل معتقد. ولو كان الحداثيون يلتزمون بالمنهج العلمي، لكان النقاش حول ما تبناه الحركة الإسلامية من آراء واجتهادات في الموضوع، وليس ما ورد من اجتهادات مشروطة بسياقها التاريخي والثقافي. حرية الرأي والتعبير النقاش مع الحداثيين في هذه النقطة عميق، ذلك أن الأصل في الإسلام هو حرية الاعتقاد وعدم الإكراه. والإيراد الوحيد الذي يتعقب به بعض الحداثيين الإسلاميين في هذه القضية، هو عدم سماح الإسلام بحرية زعزعة عقيدة المسلمين واستفزاز مشاعرهم. فهل يمكن أن نعد ذلك ضمن حرية التعبير والرأي؟ وهل حرية الرأي والتعبير تبقى مطلقة لا حدود لها ولا سقوف؟ في كل بلاد الدنيا، لا تكاد تجد حرية من غير قيود، فقد يتحدد سقفها بإذاية الآخرين، وقد تقيد بحقوق الجماعة، وقد تكون مسيجة بالإطار العام الذي توافق عليه الجماعة. لكن ما هو التركيب الذي يجمع هذه المعطيات ضمن سياق المرجعية الإسلامية؟ الأصل أن أي عمراني بشري، كيفما كان وفي أي دولة كان، لا بد يتأسس إما على إجماع مرجعي قيمي أو على الأقل على توافق حول قضية المرجعية والقيم المعيارية. في الحالة العربية الإسلامية، وكما تترجم ذلك الدساتير والتي تعتبر أعلى وثيقة حاكمة، فالمرجعية الإسلامية، والقيم المعيارية الإسلامية هي الإطار والفضاء الذي تأسس عليه الإجماع. ومن ثمة، فحرية التعبير وحرية الرأي تبقى مؤطرة لهذا الإجماع. لكن هذا لا يعني مطلقا أن النقاش الفكري والمعرفي حول الموضوع ممنوع، فالدينامية الفكرية والمجتمعية في المجتمع الإسلامي تحبل بهذا النقاش، وقد عرفت المساجد - أقول المساجد - مناظرات عقدية، ولم يكن أحد ليقمعها بدعوى مخالفة المنظومة المرجعية الحاكمة. إنما الأمر الذي عليه مدار النقاش هو مدى شرعية التشويش وزعزعة عقيدة المسلمين واستفزاز مشاعرهم الدينية كسب الرسول عليه السلام، والاستهزاء بتعاليم الإسلام والسخرية بأعلام ورموز المسلمين. على أن ذلك ليس ممنوعا فقط على غير المقتنعين بعقيدة الإسلام، وإنما الأمر يجري على المسلمين أيضا، وهذا جار ومطرد، ولا حاجة إلى التفصيل فيه.وقد وقعت المقال المذكور في خطأ معرفي صارخ حينما ذكر من نافلة القول وكأن الأمر مسلمة، أن القرآن يؤكد على ....حرمة السؤال عن القضاء والقدر مثلا والتفكير في خلق الله في حين أن نصوص القرآن لم تشر إلى ذلك من قريب أو بعيد، ولعل كاتب المقال لا يميز بين مصادر الشريعة في هذا الأمر، فالأولى أن يعود إلى الدروس الأولى فيها لعله يتمكن من امتلاك بعض الأدوات التي تعينه على اقتحام هذه الموضوعات بمهنية واحتراف بدلا من نقل فصول من كتاب واحد وأي كتاب. حق الحرية بدل أن يناقش المقال المذكور الموضوع في صيغته العلمية، ويناقش المنهجية التي اعتمدها الإسلام في القطع مع ظاهرة الرق، راح يتحدث عن بعض النصوص التي تذكر العبيد وبعض المسائل المتعلقة بالاسترقاق، وهي مسائل موجودة في كتب الفقه الإسلامي. إلا أن منهج الاستنارة العقلية تقتضي أن يطرح سؤال مآل الرق ومآل الاجتهادات التي قاربت مسائل الاسترقاق. كان الأولى بكاتب المقال أن يرجع إلى كتابات الإسلاميين في هذا الموضوع، وكان عليه على الأقل أن يقرأ كتاب عباس محمود العقاد في الموضوع، ليقف على الأسس المنهجية التي اعتمدها الإسلام للقطع مع ظاهرة كانت متأصلة في المجتمع الجاهلي مثل الرق والخمر، ولو رجع إلى تأملات الفيلسوف مالك بن بني المقارنة في موضوع منهجية منع الخمر بين الإسلام ودولة مثل أمريكا لما تدنت معالجته للموضوع إلى تلك الرداءة الفكرية. إذ بدل أن يناقش الأسس المنهجية العميقة التي سلكها الإسلام للقطيعة مع هذه الظاهرة المتأصلة راح يناقش مسائل فقهية ارتبطت بمسائل الاسترقاق وهو بسبيله إلى الانقراض. والمؤسف أنه اعتمد نفس المنهج المخل وهو يتناول قضية التصوير، وكان الأحرى به أن يعود إلى الاجتهادات التي قاربت الموضوع، وأن يناقش ما استقر منها وما يتداول بدل تضييق الواسع والانعطاف إلى اجتهاد فقهي لا تتبناه الحركات الإسلامية المعاصرة التي تعد طرفا مباشرا في النقاش. العقوبات لا يكاد يخلو نظلم قانوني من النقاش حول موضوع العقوبات، ذلك أن العقوبات والبعد الزجري في النظام القانوني مرتبط بتفعيل المادة القانونية ومرتبط قبل ذلك بالحفاظ على أمن المواطنين وسلامتهم واستقرار المجتمع. والنقاش الذي يفصل العقوبة عن مقاصدها وفعاليتها القانونية في إرساء الأمن الاجتماعي لا يمكن أن يكون من ورائه طائل معرفي. ونظام العقوبات في الإسلام، والحدود جزء من هذا النظام، هو أوسع من أن نحصره في مادة أو مادتين، فهو يتضمن الجانب المنصوص عليه والجانب الاجتهادي المتروك أمره للتقدير المصلحي الذي كان يتولاه في السابق الحاكم أو القاضي واليوم يمكن أن يؤول أمر التقدير المصلحي فيه إلى البرلمان باعتباره الجهاز التشريعي للأمة. على أن الجانب التعزيزي (الاجتهادي) يحتل المساحة الأكبر في التشريع القانوني الإسلامي، بخلاف الحدود التي لم ترد فيها إلا أحكام قطعية معدودة تناولت جريمة السرقة والحرابة والزنا والقذف، وكل ما سوى ذلك بما فيه حد الردة (الاجتهاد في مفهوم الردة) فمعدود ضمن دائرة الاجتهاد الذي يوكل اليوم إلى الجهاز التشريعي للأمة (البرلمان) على أن هذه القضايا القليلة والتي يقيم عليها الحداثيون الدنيا ولا يقعدونها قائمة على أصل منهجي كبير اصطلح عليه التعبير النبوي بقاعدة درء الحدود بالشبهات والتي تعني حرص الإسلام على عدم إيقاع العقوبة إذا تخلف الحد الأدنى من الشرائط والأوصاف القانونية التي تكيفها كجريمة قانونية. من ناحية أخرى، لا يمكن أن نقرأ الحدود التي وردت في الشريعة الإسلامية إلا في سياقها وضوابطها وإطارها المرجعي، والإسلاميون اليوم يدركون، وهذا معروف في أدبياتهم، أن كثيرا من الحدود لا تتوفر ضوابطها وشروطها، ولذلك لا يدعو أحد منهم إلى اعتماد هذه الحدود، لأنها لن تكون في نهاية المطاف إلا سيفا مصلطا على الضعفاء. المشكلة أن هم الحداثيين في هذا الموضوع ليس هو المناقشة المعرفية، ومدارسة فعالية العقوبة من الناحية القانونية وعلاقة العقوبة بمقاصدها الاجتماعية، وإنما هو تعويم النقاش وإقحام قضية شواذ القصر الكبير ضمن هذا الإطار حتى يتم تحريفها عن سياقها الحقيقي بما هو مخالفة لقوانين البلد واستفزاز لمشاعر المسلمين وانتهاكا للآداب العامة. فلا أحد من الإسلاميين تناول قضية شواذ القصر الكبير في علاقة مع موضوع الحدود، وإنما يتم تناولها في علاقة بالقانون المغربي الذي يمتح من المرجعية الإسلامية في هذا الموضوع. حق المساواة مرة أخرى يستصحب صاحب المقال نفس المنهج الخاطئ، ويكرر الانتقادات التي طالت العديد من المفردات الفقهية التي تنتمي إلى سياق تاريخي متجاوز مثل أهل الذمة، فيتم القفز على الاجتهادات المعاصرة التي تجعل من المواطنة الأصل في الاجتماع الإسلامي وتعود إلى المفاهيم القرآنية الأصلية التي لا تقسم البشر إلى دار حرب ودار إسلام، والتي تكيف مفهوم الجزية في إطار الضريبة التي هي من مقتضيات المواطنة. مقتضيات النقاش العلمي يقتضي على الأقل ذكر الاجتهادات الواردة في الموضوع كاملة من غير انتقاء ولا انتهازية مكشوفة. المؤسف أن القارئ لا يكاد يجد أثرا للاجتهادات المعاصرة المتداولة بخصوص المواطنة وحقوق الأقليات والعلاقة مع الآخر، وهو ما يكشف البعد الإيديولوجي في النقاش .