زنيبر يبرز الجهود التي تبذلها الرئاسة المغربية لمجلس حقوق الإنسان لإصلاح النظام الأساسي للمجلس    دلالات لزيارة رئيس الصين الودية للمملكة المغربية    تحطم طائرة تدريب يودي بحياة ضابطين بالقوات الجوية الملكية    متابعة موظفين وسماسرة ومسيري شركات في حالة سراح في قضية التلاعب في تعشير السيارات    هل يؤثر قرار اعتقال نتنياهو في مسار المفاوضات؟    عشر سنوات سجنا وغرامة 20 مليون سنتيما... عقوبات قصوى ضد كل من مس بتراث المغرب        رسميا: الشروع في اعتماد 'بطاقة الملاعب'    أبناء "ملايرية" مشهورين يتورطون في اغتصاب مواطنة فرنسية واختطاف صديقها في الدار البيضاء    الحكومة توقف رسوم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام    الصحراء: الممكن من المستحيل في فتح قنصلية الصين..        المغرب التطواني يقاطع الإجتماعات التنظيمية مستنكرا حرمانه من مساندة جماهيره    أول دبلوم في طب القلب الرياضي بالمغرب.. خطوة استراتيجية لكرة القدم والرياضات ذات الأداء العالي    الحزب الحاكم في البرازيل يؤكد أن المخطط المغربي للحكم الذاتي في الصحراء يرتكز على مبادئ الحوار والقانون الدولي ومصالح السكان    تعيينات بمناصب عليا بمجلس الحكومة    مجلس الحكومة يصادق على مشروع مرسوم بوقف استيفاء رسم الاستيراد المفروض على الأبقار والأغنام الأليفة    "بتكوين" تقترب من 100 ألف دولار مواصلة قفزاتها بعد فوز ترامب    الرباط : ندوة حول « المرأة المغربية الصحراوية» و» الكتابة النسائية بالمغرب»    المنتدى الوطني للتراث الحساني ينظم الدورة الثالثة لمهرجان خيمة الثقافة الحسانية بالرباط    بعد غياب طويل.. سعاد صابر تعلن اعتزالها احترامًا لكرامتها ومسيرتها الفنية    القوات المسلحة الملكية تفتح تحقيقًا في تحطم طائرة ببنسليمان    استطلاع: 39% من الأطفال في المغرب يواجهون صعوبة التمدرس بالقرى    "الدستورية" تصرح بشغور مقاعد برلمانية    تناول الوجبات الثقيلة بعد الساعة الخامسة مساء له تأثيرات سلبية على الصحة (دراسة)    بإذن من الملك محمد السادس.. المجلس العلمي الأعلى يعقد دورته العادية ال 34    المغربيات حاضرات بقوة في جوائز الكاف 2024    توقعات أحوال الطقس ليوم غد الجمعة    الاستئناف يرفع عقوبة رئيس ورزازات    المركز السينمائي المغربي يقصي الناظور مجدداً .. الفشل يلاحق ممثلي الإقليم    مؤشر الحوافز.. المغرب يواصل جذب الإنتاجات السينمائية العالمية بفضل نظام استرداد 30% من النفقات    طنجة.. توقيف شخصين بحوزتهما 116 كيلوغرام من مخدر الشيرا    ميركل: ترامب يميل للقادة السلطويين    لأول مرة.. روسيا تطلق صاروخا باليستيا عابر للقارات على أوكرانيا    زكية الدريوش: قطاع الصيد البحري يحقق نموًا قياسيًا ويواجه تحديات مناخية تتطلب تعزيز الشراكة بين القطاعين العام والخاص    وزارة الإقتصاد والمالية…زيادة في مداخيل الضريبة    ارتفاع أسعار الذهب مع تصاعد الطلب على أصول الملاذ الآمن        رودري: ميسي هو الأفضل في التاريخ    أنفوغرافيك | يتحسن ببطئ.. تموقع المغرب وفق مؤشرات الحوكمة الإفريقية 2024    ارتفاع أسعار النفط وسط قلق بشأن الإمدادات جراء التوترات الجيوسياسية    بعد تأهلهم ل"الكان" على حساب الجزائر.. مدرب الشبان يشيد بالمستوى الجيد للاعبين    8.5 ملايين من المغاربة لا يستفيدون من التأمين الإجباري الأساسي عن المرض    مدرب ريال سوسيداد يقرر إراحة أكرد    انطلاق الدورة الثانية للمعرض الدولي "رحلات تصويرية" بالدار البيضاء    الشرطة الإسبانية تفكك عصابة خطيرة تجند القاصرين لتنفيذ عمليات اغتيال مأجورة    من شنغهاي إلى الدار البيضاء.. إنجاز طبي مغربي تاريخي    تشكل مادة "الأكريلاميد" يهدد الناس بالأمراض السرطانية    اليسار الأميركي يفشل في تعطيل صفقة بيع أسلحة لإسرائيل بقيمة 20 مليار دولار    شي جين بينغ ولولا دا سيلفا يعلنان تعزيز العلاقات بين الصين والبرازيل    جائزة "صُنع في قطر" تشعل تنافس 5 أفلام بمهرجان "أجيال السينمائي"    تفاصيل قضية تلوث معلبات التونة بالزئبق..    دراسة: المواظبة على استهلاك الفستق تحافظ على البصر    اليونسكو: المغرب يتصدر العالم في حفظ القرآن الكريم    بوغطاط المغربي | تصريحات خطيرة لحميد المهداوي تضعه في صدام مباشر مع الشعب المغربي والملك والدين.. في إساءة وتطاول غير مسبوقين !!!    في تنظيم العلاقة بين الأغنياء والفقراء    غياب علماء الدين عن النقاش العمومي.. سكنفل: علماء الأمة ليسوا مثيرين للفتنة ولا ساكتين عن الحق    سطات تفقد العلامة أحمد كثير أحد مراجعها في العلوم القانونية    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



أسئلة الإنسان الصعبة ، أما أسئلة الإسلام فأمر مختلف
نشر في هسبريس يوم 11 - 03 - 2010

نشرت الجريدة الأولى في عددها 506 ، ليوم 12 يناير 2010 ، مقالة للسيد أحمد عصيد تحت عنوان (( أسئلة الإسلام الصعبة )) فيها جرأة زائدة لم تكتف بنقد مظاهر التدين والتجارب الدينية ، بل بدأت تتدرج إلى نقد الدين نفسه وكيل التهم والدعاوى لنصوصه و استعارة الأحكام الانتقائية الجاهزة التي كان يرددها خصوم الدين منذ قرون خلت من غير بينات علمية تسندها. هذا فضلا عن مغالطات و تشكيكات في تاريخ وحضارة المسلمين لا ترى ولا تنظر إلا إلى السلبيات و تعمل على تضخيمها وكأنها كل إنجاز وعطاء هذه الحضارة انفردت بها من دون حضارات وتواريخ الأمم والشعوب التي مهما كانت سلبياتها وأخطاؤها فادحة و فضيعة و نصوصها الدينية هشة أمام النقد التاريخي والعلمي ، فإنه يتم التستر عليها والتعامل معها بمنطق معكوس لمنطق التعامل مع دين وتاريخ وحضارة الإسلام.
وهذه مقتطفات مما قاله ننقلها كما هي دون إخلال بمضمونها قبل الشروع في إبداء بعض الملاحظات والتوضيحات بخصوصها.
يقول السيد عصيد :
((إذا كان الإسلام دينا بريئا من كل النعوت السلبية و ليس فيه مشكل في حدّ ذاته، فأين يكمن المشكل إذن، ما دام المسلمون يبررون كل مشاكلهم مع العالم و مع بعضهم البعض و كل أخطائهم انطلاقا من الدين و من نصوصه؟)).
((إذا كان المشكل في المسلمين و ليس في الإسلام ذاته، فهل المقصود هم فقط مسلمو اليوم أو المسلمين منذ بداية الإسلام ))..
((إذا قام بعض المسلمين بالدفاع عن دينهم باستحضار نصوص ذات مضامين إيجابية، فإنّ بعضهم الآخر يرتكب الأخطاء الشنيعة اعتمادا على نصوص أخرى هي أيضا من القرآن و السنة، مما يطرح مشكل التعارض الصريح الموجود بين نصوص الدين الإسلامي ، و الإرتباك في استعمالها، و هي تناقضات إن كان المسلمون يبتلعونها صامتين باللجوء إلى ألاعيب "الناسخ" و "المنسوخ" و "الضعيف" و "الصحيح" فإن باقي العالم لا يمكن له القبول بالتناقضات التي لا يستسيغها العقل السليم. ذلك أن القرآن إن كان يضم نصوصا منسوخة و متجاوزة منذ 1400 سنة باعتراف الفقهاء أنفسهم فلماذا ظلت هذه النصوص موجودة ضمن الكتاب تحفظ و تروى و تشرح حتى الآن ؟ ألا يعني هذا في العمق أنها ليست "منسوخة" و أن من حق بعض المسلمين اعتبارها مرجعية لهم و اعتمادها في سلوكاتهم ؟ ما هو الموقف الواضح و الصريح من النصوص التي تستعمل في الإرهاب و إيذاء الناس و الإضرار بمصالحهم ؟ و لماذا يطالعك المسلم بالآيات الإيجابية و يخفي غيرها عندما يكون في وضعية دفاع، ثم يفاجئك بعد ذلك بنصوص إرهابية المحتوى بمجرد ما يصبح في حالة قوة ؟))..
((يعتقد جلّ المسلمين بأن الإسلام "صالح لكل زمان و مكان"، و هم يقصدون بذلك إمكان تطبيق نصوصه و شرائعه في الواقع العيني المشخص في عصرنا هذا و في المجتمعات الحالية، و كأن الزمن لم يكن، و كأن الحضارات لم تتعاقب و تنبن على أنقاض بعضها البعض على مدى قرون طويلة، و كأن أحداثا هائلة و مزلزلة لم تحدث، و كأن الإنسان لم يقم بثورات قلبت معارفه رأسا على عقب و جعلته يعي وجوده و وجود العالم بشكل مختلف لا نظير له في التاريخ و لا علاقة له بما كانت تقوله الأساطير و الديانات المختلفة، فهل يمكن للمسلمين أن يبدعوا في الحضارة الحالية و يضيفوا إليها شيئا جديدا إذا ظلوا يعتقدون حقا بأنّ دينهم كما هو و كما فهمه السلف ما زال صالحا لكل شيء في الوقت الراهن ؟ هل يمكن لأي دين في عالم اليوم أن يزعم بأنه "صالح" لكل شيء و في كل شيء ، إلا إن كان أهله يعانون من مشاكل نفسية و عقلية خطيرة)).
((يريد بعض المسلمين استعمال الدين في الحياة السياسية كمرجعية شمولية و كأحكام و مضامين أخلاقية و شرائعية و عقدية و ككل غير قابل للتجزيء، و يريدون في نفس الوقت ألا يكون هذا الدين مثارا لأي نقد أو تقييم أو معارضة، يُرشحون الدين لأن يمارس وظائف سياسية في الدولة، و لا يقبلون في الآن نفسه أن يُنتقد في مضامينه و نصوصه التي يراد "تطبيقها" على الناس في حياتهم العامة و الخاصة، و ذلك بزعم أنها نصوص "قطعية" "متعالية" و "سماوية" المصدر، فهل يمكن استعمال شيء ما كأداة في السياسة دون تعريضه للنقد؟)).
((الإعتراف بأن المشكل ليس في المسلمين فقط بل يكمن في صميم الدين الإسلامي و بين ثنايا نصوصه، و أن عليهم إعادة القراءة و التمحيص و التفسير و التأويل من أجل التخلص من النصوص المتجاوزة و الخروج من عنق الزجاجة إلى العالم الرحب، و هو مجهود لا يبدو أن لدى المسلمين لا القدرة و لا شجاعة القيام به في الوقت الراهن)).
((اللحظات التي تصور على أنها "عصر ذهبي" للإسلام و التي هي مرحلة النبوة و الخلفاء الراشدين كانت أيضا مرحلة حروب فظيعة و اقتتال شنيع و أحداث مهولة و لم تكن مرحلة سلم و حضارة و ازدهار. بل إن الحضارة لن تبدأ إلا خلال القرن الثاني الهجري بعد أن تمّ نقل التراث الإغريقي و اللاتيني و السرياني إلى العربية و هضمه بالتدريج، و التفاعل مع الحضارات الفارسية و الهندية و اليونانية و اللاتينية. إذا كان المشكل في المسلمين و ليس في الإسلام فلماذا نقدس أشخاصا أخطأوا منذ أربعة عشر قرنا و ما زلنا نجني اليوم نتائج أخطائهم ؟ ))..
((بعتبر المسلمون دينهم أفضل الأديان و أصحّها على الإطلاق، و يعتبرون ديانات غيرهم خرافية و منحرفة و لا عقلانية، يقدسون الأنبياء الذين ذكرهم القرآن بتمجيد و تشريف و يؤمنون بمعجزاتهم الخارقة للطبيعة، و لكنهم يقفون موقف الكره و النفور من الأقوام التي اتبعت ديانات هؤلاء الأنبياء، باعتبارهم منحرفين عن هدي أنبيائهم الذي أصبح يتجسد في الإسلام، الدين الذي ظل وحده وفيا لمبدإ التوحيد الصحيح من عهد إبراهيم، و هم يتشبثون بهذه المواقف العدائية من منطلق قرآني حيث يعتبرون أن ذلك ما جاء به القرآن و لا يمكن تكذيبه، هل يمكن لقوم هذا اعتقادهم أن يكونوا في سلام مع العالم ؟ كيف يمكن للمسلمين أن يحاوروا غيرهم و هم المهتدون و غيرهم في ضلالة ؟؟ يقتضي الحوار الندّية و الإحترام المتبادل، و الحال أن المسلمين لا يحترمون غيرهم و لا يعتبرون أنفسهم مساوين لغيرهم، إذ هم الأفضل و الأطهر و الأهدى و غيرهم بشر من الدرجة الثانية، حتى و لو كان البشر الآخرون في غاية التقدم و الرقي و كان المسلمون في الحضيض الأسفل من التخلف، لأنّ الإعتقاد هو أساس المفاضلة بين البشر عند المسلمين و ليس الإنتاج و الإبداع والحضارة ، و لا مجال عندهم للحديث عن المساواة التامة بين بني الإنسان من منطلق إنسانيتهم وحدها بغض النظر عن الدين و العقيدة )).
هذا معظم ما ورد في المقالة نقلناه بنصه ولفظه واعتمدناه وحده في الرد علما أن للسيد عصيد كتابات أخرى تكرر نفس الدعاوى بألفاظ أخرى قد تكون لنا إليها عودة أكثر تدقيقا واستيعابا إن شاء الله تعالى.
لما قرأت مقالة السيد عصيد وجدتها دعاوى و أحكاما تعميمية و انتقائية، لا تحمل قيمة علمية و لا تلتزم حقائق و مقررات تاريخية في الأديان و الحضارات . و كأن صاحبها كان يتكلف صوغ أسئلته لجعلها أكثر إقناعا و معقولية تفرح المناصرين وتسوء الخصوم و كأنها فتح عظيم لم يسبق إليه أحد . وكي لا ينزلق هذا الرد التوضيحي المنزلق الدعائي الأحكامي نفسه ، اخترنا أن يكون ردنا على الأسئلة بما يكفي لدرء الشبه التي يمكن أن تشوش على بعض القراء، وأن يكون السيد عصيد نموذجا لتيار نود أن نطرح عليه بعضا من أسئلة الإسلام الحقيقية، تلك التي يطرحها الإسلام على المسلمين و على الناس أجمعين و ليس العكس، وذلك ما حملنا على الكتابة والتوضيح. لأن ما يطرحه المسلمون أو غيرهم من أسئلة على الإسلام هي أسئلة الإنسان سهلة كانت أم صعبة و ليست أسئلة الإسلام. فأسئلة الإسلام ما نطقت به نصوصه وأحكامه و تعاليمه آمنا بها أم لم نؤمن.
ولا يختلف من وجهة نظرنا من يصادر حق النص في النطق و القول و الإبانة لينوب عنه مدافعا كان أو معارضا، لأنه حينها يقدم لنا قوله و تصوره كوسيط غير علمي و غير موضوعي. و كل ما تقدم به السيد عصيد إلى الإسلام دعاوى لم يقم عليها و لا بينة نصية واحدة ناقشها نقاشا عقليا يبين تهافتها أو نقليا يبين تعارضها . فما توجه به هو أسئلة إلى المسلمين في فهمهم و تمثلهم للإسلام كما يراهم رغما عنهم، و ليس للإسلام نفسه وإن زعم أن المشكل في النصوص و في الدين لأنه لم يناقش نصا ، ولو فعل لوفر لنا قاعدة يكون النقاش على أساسها علميا و ليس دعائيا .
فأنا مسلم مغربي لا أجد نفسي بتاتا في أي من الأسئلة المطروحة التي تتحدث بالنيابة عني و هي أشبه ما تكون بالأنساق الدائرية المغلقة، تسأل فتجيب لوحدها و تطرح فتقرر لوحدها . مما يدعونا بدورنا إلى التساؤل : هل طرح السيد عصيد علينا أسئلة ليشركنا في الاجابة عنها ، أم طرح علينا أسئلة و أجوبة ليحملنا على الاعتقاد كما يعتقد و التفكير كما يفكر .
ولو أبصر قليلا لا نتبه إلى أنه يروج خطابا و دعاوى يخالف بها اختيارا و إجماعا لأمة من غير بينة و لا دليل، وأن مساحة الحرية التي يتحرك فيها إنما يتيحها الدين الذي ينتقده .
ثم إن ثمة إشكالا آخر لا يقل خطورة، قصد ه الكاتب أو لم يقصد ه، يتجلى في إنتاج فكر عدمي منبن على ردود الأفعال السلبية، غير قادر لا على البناء و العطاء ولا على الحوار و التعايش، بقدر ما هو جاهز للمفاصلة و الرفض و التموقع في الطرف المقابل. فيكون السيد عصيد مساهما في إنتاج ما ينتقد عندما يصادر على قناعات و معتقدات الآخرين . وتكون العدمية أحيانا حالة فكرية تشترك في صناعتها مواقف تختلف كل الاختلاف في التصورات و المناهج و المفاهيم، لكنها تشترك في النهاية في موقف واحد هو إنشاء الحالة أو الواقع الذي أريد إزالته. ذلك لان المنطق الخفي المحرك لتلك المواقف كان واحد رغم اختلاف أشكال التعبير عنه، منطق الإقصاء و الإلغاء المتبادل و الرغبة في التفرد بالرأي و هزم الخصم و الانتصار عليه، و التموقع في أطراف الساحة و ليس في وسطها، و لم لا الرغبة في التفرد بالوجود رغم مصادمة هذا المنطق لنظام الوجود القاضي بالاختلاف و التعدد . لذا فمواقف السيد عصيد، من وجهة نظرنا، لن تنتج إلا المزيد من الظواهر السلبية التي ينتقدها . و الذين يسيئون فهم و إعمال النصوص و يشتطون في ذلك يصنعون السيد عصية و مواقفه. والأمة أحوج ما تكون إلى بناء ثقافي جديد تتكامل فيه الأفكار و لا تتقابل، يميز فيه بين الأصول البانية و الفروع المبنية، تحترم فيه الجهود و الاقتراحات المختلفة فيؤخذ بأمثلها و أصوبها ....الخ . إذا أن ترسيخ هذه القيم في المجالات الدينية و الثقافية و اللغوية و الحضارية.. وحده كفيل بإزاحة فكر المصادرة الأحادي إلى الظل و إحلال فكر المبادرة التشاركي محله .
و ذلك سؤال من الأسئلة الصعبة التي يدعونا إليها الإسلام: كيف نتعارف و لو كنا مختلفين، و نتكامل و لو كنا متقابلين، و نتعاون و لو كنا متفاوتين ..؟ و بعبارة أخرى كيف نحقق المعادلة الصعبة أو نتحقق بها : الانزياح من الأطراف إلى الوسط المشترك بناء في الفكر و المعرفة و فهما في الدين و الحياة . لسنا من دعاة الطوباوية و المثالية، لكنها معركة البناء الحقيقية التي ينبغي أن يتوجه إليها الجهد و يحدث فيها التراكم المطلوب لإحداث التغيير المطلوب .
ولنبدأ بأسئلة الإنسان الصعبة التي عبر عنها السيد عصيد و بيان ما لحقها من آفات نلخصها في الدعاوى التالية :
1)دعوى تحميل الإسلام أخطاء المسلمين وادعاء التعارض بين النصوص :
وهذا اتجاه معاكس تماما لمنطق النقد و المراجعة الذي يقضي بإرجاع المسلمين إلى فضائل و مكارم و قيم دينهم وليس إلحاق الإسلام بالمسلمين .
و لا نرى أن السيد عصيد يقدر حقا جهود النقد و المراجعة و التصحيح كما ذكر، مادام يسحب من تحتها مرجع و أصل نقدها و مراجعتها و تصحيحها و يسمه بالاضطراب و التناقض . هذا فضلا عما يعكسه السؤال من عدم إدراك لحقيقة الأزمة في بعدها التاريخي قديما و حديثا، تشخيصا للعلل و اقتراحا للعلاجات المناسبة . و لو جاز أن ننسب خطأ كل إنسان في قوله أو في فعله إلى دينه وعقيدته ، لأ فضى ذلك بالبشرية إلى العدمية و العدوانية المطلقة. وهل جاءت الأديان إلا لإزاحة العدمية عن فكر الإنسان ببيان مبررات خلقه و غايات وجوده و مآله، ولإزاحة العدوانية عن سلوكه بتحسين أخلاقه و تصرفاته . و لقد رأينا أمما في الصين و الهند لم ينزل فيهم أنبياء تشبثوا بأقوال و حكم حكمائهم و أنزلوها منزلة الكتب المقدسة كما أنزلوهم منزلة الأنبياء إشباعا للنزوع الفطري في الإنسان إلى التدين. إن آلة السكين قد يطعن بها إنسان إنسانا فيرديه قتيلا ، و ليس ذلك مبررا كافيا لسحبها من أيدي الناس للمنافع العظمى المترتبة عليها. وعلى رأي ابن رشد لا يشترط فيها كذلك أن تكون من موافق في الملة أو مخالف إذا توفرت فيها شروط التذكية ردا على الاتجاه المقابل في الرفض . فالمطلوب إذن ترشيد الاستعمال ، وفي حالتنا مع النصوص ترشيد الفهم و الإعمال. وهذا أيضا من أسئلة الإسلام الصعبة إلى الإنسان، دعوتة إلى التدبر و التفكير لحسن الفهم و التنزيل بما يحقق صلاحه و سعادته في دنياه و أخراه.
لكن يبدو أن للسيد عصيد استعدادا كبيرا لنقل الاختلاف في الفهم و التجارب إلى النصوص دون تكليف النفس شيئا من التحقيق العلمي في أوجه التعارض أو الاختلاف المزعومة، وهذا منهج انتقائي تجزيئي وتشكيكي نظري أكثر منه تطبيقي درج عليه باحثون ومفكرون ذوو مرجعيات رافضة للدين والتدين أصلا. لا سند لها في ذلك إلا مزاعم استشراقية واهية تجاوزها التاريخ وما بقي منها إلا أثر يذكر، ككتابات جولد زيهر وشاخت ولامانس وجيب وكليمان هوار وماسينيون ..، وغيرهم ممن اهتم بالقران خصوصا ككازيميرسكي ونولدكه وبلاشير وبيرك ... كما تبقى التجربة الغربية عموما في تعاملها مع نصوصها المقدسة ذات تأثير استلابي قوي على نخبة من الباحثين لم يروا سبيلا للنهوض والتحرر إلا هذه السبيل مع إصرارهم على عدم اعتبار الفوارق الدينية والتاريخية والثقافية وإن كانوا من كبار المثقفين والمؤرخين. وتلك ورقة ضاغطة ومؤثرة على كثير من الناشئة عندما تعرض عليها تلك التجربة وموقفها من الدين معزولة عن سياقاتها وظروفها وملابساتها والزج بها في مقارنات غير متكافئة بين واقع الأمة المتردي والمتشضي وواقع الأمم الأخرى التي قطعت أشواطا من النهوض والتقدم ، فتترسخ فيها القابلية للاستلاب والتبعية أكثر مما تتسلح بمقومات وشروط النهوض الحقيقي. لقد أضاعت الأمة قرنا وأكثر من نصف قرن تقريبا منذ ما سمي ب (عصر النهضة العربي) تيمنا بعصر النهضة الغربي وهي تتقلب من تجربة إلى أخرى يسارية وقومية وعلمانية وحتى إسلامية ذات نزعات معينة لا تعكس حقيقة التدين في شموله واستيعابه ووسطيته واعتداله ... دون الانتباه إلى إمكانات هذه الأمة وقدراتها الذاتية والتواصلية العميقة التي كان ينادي ويدعوا إليها جيل آخر من الرواد والباحثين .
إننا لو طبقنا منهج السيد عصيد على كل نص اختلف فيه وحيا كان أو بشريا لما صح في الأذهان و الأعيان شيء . و نحن نتساءل كم درجة الاختلاف في النصوص الماركسية و الليبرالية و القومية و العلمانية و الأمازيغية و في اليهودية و المسيحية و غيرها من الديانات، إذ نجد داخل كل تيار و دين الغلاة و المعتدلين، الوسط و الأطراف .
لكن الذي ينبغي الانتباه إليه أن ثمة اختلافات حقيقية تكشف عن أوجه تعارض معينة بين النصوص المؤسسة في أصولها و فروعها، و ثمة مساحة اختلاف في الجزئيات و الفروع تسمح بها تلك الأصول . أما الاختلاف في الفكر و النصوص البشرية فأمر بديهي و طبيعي إذ لا يمكنها مهما بدت متماسكة أن تتحول إلى مطلقات مستوعبة للزمان و المكان. لكن الاختلاف في النصوص الدينية يحتمل أمرين: إما اختلافا في الأصول و الكليات و المبادئ العامة بحيث يناقض و يضرب بعضها بعضا ، و هذا يدل على أن ثمة تغييرا طرأ على بنية النص جزء أو كلا . أو اختلاف في الفروع و الجزئيات كما سلف ترد إلى أصولها و كلياتها و تنضبط عندها.
و لقد كتب كتاب يهود و نصارى قديما و حديثا عن التناقض و الاضطراب و الاختلاف الموجود في نصوصهم الدينية المقدسة إلى درجة تعددها و تعديلها التاريخي المستمر . لكن لم نسمع و لم نقرأ إلى الآن لأحد قام بعمل علمي يثبت لنا التناقض و الاضطراب و الاختلاف بين آي القرآن تشريعا و أحكاما ، و قصصا و أخبارا ، و لغة و بيانا ... بحيث يخرق لنا نظام الحفظ الإلهي لهذا النص و يأتي بما عجز الأوائل و الأواخر عن مثله . فمنزل الكتاب سبحانه يقول ( إنا نحن نزلنا الذكر و إنا له لحافظون ) ، ويقول : ( و لو كان من عند غير الله لوجدوا فيه اختلافا كثيرا) و تحدى بأن يؤتى بآية أو سورة من مثله تحمل كل أضرب و أوجه الإعجاز التي يحملها .
ما و جدناه هو بعض الأفهام السقيمة و العليلة للنص تضر به أكثر مما تكشف عن أوجه الخير و النفع فيه . أو محاولات تشكيك و تقليد تحمل على الشفقة و الرثاء أكثر مما تستدعي من النقد و المراجعة. وزعم السيد عصيد بأن هناك من يعمل نصوصا تكون لصالحه و يهمل أخرى لا يراها تخدم أغراضه ومطامحه ، فهذا تقام عليه الحجة بإعمال النصوص و ليس بإهمالها . أما إدراجه للنسخ و الصحة و الضعف و القطع و الظن... في اعتبار النصوص أو عدم اعتبارها، فذلك تلويح بعناوين و تلبيس على القارئ لإيهامه بأن اللجوء إليها إنما هو نتيجة الاختلاف والتناقض في النصوص. هذا علما أن هذه المباحث يكون الاشتغال عليها علميا بعد إيراد النصوص و دراسة متونها وأسانيدها و هو ما لم يفعله الكاتب، فذلك أمر يستدعي استيعاب مناهج العلماء المسلمين أصوليين و محدثين في هذا الفن .
إننا نعتقد إلى جانب هذا أن ثمة دوائر كثيرة في القران الكريم ما تزال مهملة أو لم تنل حظها من البحث كما نال غيرها ، و خصوصا دوائر العلوم الإنسانية و العلوم الطبيعية و الكونية. إذ إن للقرآن الكريم فلسفة عامة تؤطر أحكامه و تشريعاته ، و المعرفة والقيم و المبادئ التي يحملها لا بد أن يتكامل فيها عالم التنزيل الغيبي و عالم التلقي الإنساني و عالم الاستخلاف الكوني. فالنص و العقل و الواقع مصادر تحتاج إلى الاستحضار الدائم لجدلها التكاملي في إنتاج العلم و المعرفة، دفعا لآفة التحيز و التمركز و النزعات المدمرة عندما يتم العدول عن بعضها انتصار للبعض الآخر . فلا فرق بين النزعات النصوصية المغلقة التي تلغي العقل الاجتهادي و الواقع التنزيلي وبين النزعات المادية (الواقعية جدا ) التي تلغي دور الوحي في الهداية و الإرشاد و دور العقل في الاجتهاد.
هذا أيضا من أسئلة الإسلام الصعبة ، كيف نبني معرفة و علوما تهتدي و تسترشد بنور الوحي، و تبدع و تجدد بنور العقل ، و تتكيف و تواكب تحولات واقعها و محيطها . و ذلك خير إسهام يمكن أن يسهم به المسلمون انطلاقا من القرآن الذي يوفر لهم هذه الأرضية لفائدة البشرية تحريرا لها من هيمنة الفلسفات المادية والعلمانية الشاملة على العلوم و المعارف و الكون و الطبيعة و الكرامة و الكينونة الإنسانية .
2)دعوى عدم صلاحية الدين لكل زمان و مكان :
و هذه الدعوى بالرغم مما تحمل من خطورة تشكيكية في عقائد المسلمين . إذ لا ندري بأي حق يشكك السيد عصيد في اعتقادات و قناعات الناس في الوقت الذي يحتفظ فيه باعتقاداته و قناعته ، و كأن ليس لهم حق الاختيار كما له و إن كان لا يمثل فيهم شيئا . فإننا نود أن نقول بخصوص بعض الشعارات التي ترفعها كثير من الحركات والاتجاهات الإسلامية متأثرة في ذلك بقوى يسارية و قومية سابقة في طرق احتجاجها و نضالها، و التي فيها من الكلام و الجدل أكثر مما فيها من العلم و العمل ، نقول إن الشعارات لا معنى لها ما لم تثمر واقعا يستفيد منه الناس . و لهذا فشعار (الإسلام صالح لكل مكان و زمان) لا معنى له إذا لم يتحقق أهل كل زمان و مكان بكسبهم من الإسلام ، و بقوا عالة على جهود سابقيهم دون إضافات و استدراكات مواكبة لتحولات زمانهم و مكانهم . و قس على ذلك شعارات (الإسلام هو الحل، ودولة الإسلام ..) ما لم تكن هناك حركة اجتهادية مطردة تجد الحلول المناسبة للحوادث و النوازل الجديدة وترسي قواعد وأصول الوحدة والتنمية والاستقرار . إذ تبقى في صورتها التجريدية شعارات نفسية تعويضية عن مطالب غير متحققة في الإصلاح و النهضة و التنمية و التحديث ...
لكن الذي نستدركه على السيد عصيد هنا هو أن عدم تحقق جيل أو أجيال بكسبها من الإسلام ليس معناه استحالة التحقق أو مبررا للتشكيك في أصل الصلاحية. فمن المعارك الخاسرة البين خسرانها، تلك التي يواجه فيها أناس ما حقائق كونية لا يمثلون بالنسبة لها شيئا، كذاك الذي يعمل جاهدا على إزالة الدين و التدين من المجتمع . فالتجارب قابلة للنقد كل النقد، لكن النقد التقويمي البنائي و ليس الهدمي الإلغائي .
فكون الإسلام صالحا لكل زمان و مكان ، من السنن الكونية التي لا يملك كائنا من كان تجاهها شيئا ( إن الدين عند الله إسلام ، ومن يبتغ غير الإسلام دينا فلن يقبل منه و هو في الآخرة من الخاسرين ) ولمن شاء أن يختار ما شاء، لكن أن يغير من واقع السنة فهو كمن يحاول إزاحة الأرض عن مدارها أو الشمس عن مركزها و أنى له ذلك (و لن تجد لسنة الله تبديلا و لن تجد لسنة الله تحويلا).
أما الرسالة و نصوصها فنحن لم نستثمر بعد إلا جزاء يسيرا من إمكاناتها التي تتيحها. وحبذا لو وظفت عقول لها قدرات فلسفية وتأملية وعلمية في بلداننا طاقاتها في استخراج مكنون هذا الكتاب لكان ذلك أنفع وأهدى لها ولأمتها. لكن ما تزال حالات الاستلاب والاستتباع التي تمارسها النماذج الغربية تدير تلك العقول في هوامش مفرغة هي أشبه بحواشي بعض المتون التي تجتر وتكرر من غير إضافة ولا بيان مفيد، وإن كان بعضها الآخر لا يخلوا من فائدة ، أو مختصرات مستغلقة هي ألغاز وأقفال . فنأسف كما تأسف العلامة الحجوي رحمه الله على ما يهبه الله تعالى لعباده من قدرات وأعمار يصرفونها في فك تلك الألغاز وفتح المستغلق منها، في حين لو أنه اتجه إلى الأصول المؤسسة والبانية وصرف فيها الذي صرفه هنالك بالعدة والعتاد اللازم، لعاد قطعا بالنفع العميم والخير الوفير الذي ينفع البلاد والعباد. فتلك تجربة كررها ويكررها باحثون محدثون ومعاصرون وإن كانوا من أشد نقادها لأن العبرة بالنتائج و الخلاصات والآثار الواقعية . فلا معنى لمشاريع قراءات حداثية ومعاصرة تنتهي صلاحيتها قبل الانتهاء منها، لأنها من موقع تبعيتها تقلد فكرا ليست أصوله أصولا لها ولا اختياراته اختيارات لها . كما لم تحسن اختيار مداخل ودوائر التفاعل الإيجابي وضوابط النقل والاستعارة التي تضعها الثقافات والحضارات والأديان على تخومها وحدودها بما يحفظ كياناتها في علاقاتها الغير أيا كان هذا الغير.
فما الفرق إذن بين النموذجين إلا إلغاء دور العقل في الاجتهاد والإبداع بما يحقق كسبه الذاتي لزمانه ومكانه وتفويت فرص البناء والنهوض المتاحة بين يديه . وأما ما تحدث عنه السيد عصيد من توظيفات سياسية للدين أو دينية لسياسة و إخفاء نوايا مبيتة و إظهار أخرى ، فهذا أعرضنا عنه جملة إذ آثرنا مناقشته باحثا و صاحب رأي و ذلك مجال اهتمامنا. إذ يمكن لأصحاب هذه النوايا المبيتة أن يعكسوا الآية ليتهموا السيد عصيد بمثلها، و تلك معارك خاسرة أيضا تضيع طاقات و جهود الأمة فيما لا فائدة تجنى من ورائه إلا إستدامة روح النزاع و الصراع .
3) دعوى التشكيك في العصر الذهبي للإسلام :
وذلك بإرجاع أصول الحضارة الإسلامية إلى الحضارات السابقة عليها . وتلك أطروحة من أطروحات خصوم الإسلام التقليديين قديما و حديثا من المستشرقين و القوى الاستعمارية التي لم تكن ترغب في منافس ديني أو علمي أو حضاري . ومن ثم جندت سلطاتها عسكرية و إعلامية و سياسية، كما استأجرت أقلاما باسم العلم و المعرفة لتزيف و قلب الحقائق . فقدمت صورة عن الإسلام تخيف بها رأيها العام وتبرر بها واقع الهيمنة والاحتلال. فأنتجت صورا عن الشرق والإسلام لا علاقة لهما بها. أو بتعبير الناقد ادوار سعيد قامت ب (شرقنة الشرق) أي إنتاج شرق آخر غير الشرق الحقيقي في عمل أشبه ما يكون ب(المسرح التمثيلي). و لو على حساب العلم و المعرفة و القيم الإنسانية الدينية و الحضارية المشتركة . وهو أمر ما يزال متسمرا إلى الآن مع قوى السلطة والمعرفة الجديدة . فما يزال الشرق خاضعا للتعديل الديني و الثقافي و الحضاري ...
واحدة من أبرز هذه التشكيكات التي تناقلتها أقلام عربية لها من المواقف أكثر مما لها من البحث، هي سحب كل إبداع علمي أو حضاري أو فلسفي من تاريخ الإسلام و المسلمين و إلحاقه بأصول أخرى غير الأصول الإسلامية . هذا في الوقت الذي نجد فيه منصفين من المؤسسة الاسشراقية نفسها يؤكدون تلك الحقائق على نحو ما فعلت زغريد هونكة أو ما فعل اندريه ما يكل و مونت غمري وات.. و غيرهم. أما منطق إفراغ الشبكة من كل صيد على نحو ما فعل رينان و هانوتو و من تلاهم إلى برنار لويس مؤسس ومروج نظريات الصدام والتمايز العرقي والإثني والملي والديني. فهو أبعد ما يكون عن روح الإبداع الفلسفي و الحضاري . و إذا كانت مواقف أولئك مفهومة باعتبارهم (آخر) يدافع عن كسبه الفلسفي و الحضاري، فغير المفهوم هو ما يفعله أبناء هذه الفلسفة و الحضارة ممن تقع على كاهلهم إعادة بنائها و تجديدها . فالانحطاط و التخلف ليس مبررا للتبعية و الإمعية. و الانحطاط الغربي في عصوره الوسطى كان أسوأ بكثير مما عليه الانحطاط الإسلامي ، و إنما كانت النهضة أو الميلاد الغربي الجديد من الذات الغربية نفسها بعد مخاض التحولات العسيرة على أكثر من صعيد، و لا يضر بعد ذلك استلهام و استعارة و نقل كل ما من شأنه أن يساعد على النهوض ، من حضارة المسلمين أو غيرهم . فالنهوض أمر و إمكان ذاتي و ليس غيريا ، و لا يمكن لأمة أن تنوب عن أخرى في هذا الأمر إلا أن تكون إحدى توابعها و هامشا ومن هوامشها، شأن المركزية الغربية مع ملحقاتها اليوم .
عنصر آخر من عناصر التعديل لتاريخ الإسلام التي مارسها الاستشراق و التيارات الانتقائية ، هو تضخيم بعض الأحداث إلى درجة جعلها تحتل كل مساحة الانجاز في هذا التاريخ، و النظر إليها بمنظور سلبي و ليس إيجابيا كالخلافات و الحروب التي عرفها صدر الإسلام . و كأنها استثناء من تواريخ الأمم و الشعوب . و لسنا ندري ما تساوي حرب الجمل و صفين أمام الحروب الرومانية و الاضطهاد المسيحي و الحروب الغربية الحديثة و المعاصرة.؟! ورغم ذلك نقول إنه باستثناء عطاء النبوة تبقى مرحلة الصدر الإسلامي الأول مرحلة بشرية بالمقاييس الدينية، و لهذا خلد القرآن نفسه أحداث هذه المرحلة إيجابية و سلبية، انتصارات و هزائم، في واقعية منعدمة النظير ، ليعتبر اللاحق بالسابق و يجتهد في التعرف على سنن البناء و التعمير و النصر و التمكين . ثم إن هذه المرحلة هي مرحلة نموذجية بالمقاييس البشرية في البذل والعطاء و القيم و الأخلاق و العلم و العمل . ولكم أن تقيسوا حجم و مدة البناء و التأسيس في عقيدة و فكر وسلوك الإنسان الجديد الذي أخرجتة الرسالة مع هوامش الخلاف و النزاع التي انقلبت أصلا و الأصل فرعا .
وهل من الواقعية و التاريخية في شيء أن نطلب من القرن الأول انجازات حضارية ظهرت في القرون اللاحقة بدعوى التلاقح الذي تم بعد مع الفلسفات والحضارات الخارجية؟! و كأنها تمت خارج دائرة الإسلام و أمة الإسلام متغافلين عن التحديات التي عرفها الدين الجديد و الجماعة الأولى من الأقارب والأباعد .!
ولسنا ندري لماذا انتظرت القبائل العربية و غير العربية حتى جاء الإسلام لتنبثق منها حضارة و تتفاعل مع الحضارات الأخرى ؟ فباسم من ثم نقل تراث اليونان و الإغريق و تمت الترجمات و نقل الخبرات و التجارب ؟ أليست تلك إمكانات أتاحتها عالمية الإسلام الأولى تبعا لعالمية رسالته وكونية خطابه ؟
أين نحن من مشروع الإحياء لعالمية مستوعبة تؤمن بالتعايش و التعدد و الاختلاف، و تحكم العلم و المعرفة و القيم. تسهم فيها هويات مختلفة تؤمن بغيرها إيمانا بنفسها، أمام الأطروحات و القراءات الجزئية والانتقائية التي تتم باسم الدين أو خارجه ؟ ذلك أيضا سؤال من أسئلة الإسلام الصعبة تجاه المسلمين و غيرهم ممن لا يرى إلا نفسه فحسب .
4)دعوى التسوية بين الديانات :
يكرر السيد عصيد هنا دعوى لطالما رددها باحثون قبله مند عقود خلت ، وليس رائدهم في ذلك إلا إزاحة القدسية و العصمة عن النصوص الدينية ، و هم يعتبرون أن القول بوجود نص مهيمن و مصدق لم يطله تغيير نوع من المصادرة و التشكيك في النصوص الأخرى ، و مدخل للقطيعة مع أهل تلك الديانات ، و يتغافل هؤلاء على أن الذي يقومون به هو عين المصادرة فتجد هم أشد حرصا و غيرة على نصوص غيرهم من أصحابها وأشد طعنا وتشكيكا في نصوصهم (إذ يصرحون بالانتساب إليها)من غيرهم .
فلسنا ندري من المخول للحديث عن النصوص و ما أصابها تصويبا و تقويما صاحبها الذي أنزلها أم البشر الذين أنزلت عليهم ؟ فالله تعالى الذي أنزل التوراة و الإنجيل و القرآن هو من يجعل بعضها مصدقا لبعض أو مهيمنا عليه . و لتعاقب الرسالات منطق يحكمها يتجلى في الاصطفاء ألحصري العمودي الممتد من آدم إلى عيسى عليه السلام ، و في الاصطفاء الكوني الأفقي الشامل الذي ختمت به تلك الرسالات مع نبينا الكريم المزودة بكل عناصر الحفظ و البقاء الذاتي و ليس الخارجي شأن ما تقدمها من رسالات . إن هذا النمط من المصادرة الذي يريد أن يسوي بين كل النصوص يتجاهل تاريخ كل نص و حركة النقد و المراجعة التي كشفت عن الاختلالات الكامنة في النصوص السابقة على القران .
ولسنا ندري لفائدة من يقع التشكيك في نص توافرت كل الدلائل على حفظه و صونه و سلامته، منذ نزل و هو يتلى كما نزل بلغته و بيانه. و الدفاع في المقابل على نصوص توافرت الدلائل الكثيرة من أصحابها على تأكيد اختلالاتها ، فهي لم تدون إلا بعد قرون من فقدان أصولها، و تدحرجت في ترجمات متعددة و مجامع كانت لها كل صلاحيات التعديل .
و بالرغم من ذلك كله نجد القرآن وهو يؤكد أشكال التحريف والتبديل في الكتب السابقة، لا يدعو إلى قطيعة و إنما إلى كلمة سواء و جدال بالتي هي أحسن. أما أصول تلك الديانات فهي من الهدى و النور و الإسلام الذي تجتمع و تتوحد عليه . و إشارة القرآن تلك دعوة إلى تفعيل و تقديم دائرة المشترك فيه على دائرة المختلف فيه التي يسارع إليها كثير من الناس للأسف فيفسدون أكثر مما يصلحون . أما نزعات التكفير فلا معنى لها في روح الإسلام و القيم السلمية التواصلية التي يحملها. ترى من يعامل الآخر بازدراء واحتقار ويخل بواجب الندية والاحترام المتبادل في الحوار ، المسلمون وإسلامهم أم الغربيون بمسيحيتهم ويهوديتهم ؟ أين نشأت النظريات العرقية التجريمية والعنصرية والطبقية .. وغيرها من أشكال التمييز بين الإنسان وأخيه الإنسان؟ فهل يصح في الأذهان شيء إذا احتاج النهار إلى دليل؟! أليست تلك إحدى الثلم العميقة للنموذج العلماني الغربي الشرس الذي تجرد من كل قيمة أخلاقية وفضيلة دينية فاستباح البلاد والعباد؟! ولم لا تستدعى هنا النماذج الحية في التعايش التي عرفها تاريخ الإسلام وحضارته مشرقا ومغربا انطلاقا من نصوصه ! لماذا يتم تضخيم وتغليب المحطات السلبية في تاريخ الإسلام وحضارته على المحطات الايجابية ويفعل العكس في تاريخ الغرب اليهودي والمسيحي مهما كانت الجرائم والفضائح؟ّ! أتلك مقدمات ممهدات للنهوض أم لمزيد من السقوط والتبعيةّ!.
إن الأسلوب التعميمي الذي تحدث به السيد أحمد عصيد فيه من الخلط و الخبط ما يجعله يجمع كل المساوئ فينسبها لكل المسلمين، و هو يتناسى، في سياسة جلد الذات هذه، أنه جزء من منظومة الحضيض و التخلف وأن الاغتراب الفكري والزماني لا يغني شيئا عن الانحطاط الواقعي والمكاني، و أن الخروج من ذلك إنما يكون بالبناء لا بالهدم . و إذا عاب على المسلمين ضيق الأفق و النظر و الانغلاق و التحجر و الرغبة في التفرد بكل شيء.. فما نراه أخط واحدة من تلك الآفات في تشنيعه الكلياني على الإسلام و المسلمين . و ذلك أيضا من أسئلة الإسلام الصعبة ، كيف تعيش و تترك مساحة لعيش الآخرين ؟ كيف تفكر و تترك مساحة لتفكير الآخرين ؟ كيف تعتقد و تحترم اعتقاد الآخرين .....إلخ . ذلك ما يعلمنا إياه الإسلام العظيم .


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.