في هذا الحوار يحكي الرميد جزءا من مسار حياته داخل الشبيبة الإسلامية زمن المحاضن والكهوف، ويكشف لأول مرة عن تأسيسه لمجموعة التبين الأولى في البيضاء قبل أن تظهر جماعة التبين بالرباط، كما يحكي سبب رجوعه إلى الشبيبة الإسلامية، والدور الذي لعبه عبد الحميد أبو النعيم في إقناعه، والموقع القيادي الذي احتله بعد رجوعه، ويكشف عن الأسئلة المحرجة التي صاغها في رسالة ووجهها إلى عبد الكريم مطيع والتي ستكون سبب تهميشه وإبعاده عن عمق التنظيم هل يمكن للأستاذ مصطفى الرميد أن يحدثنا عن البدايات الأولى؟ ولدت سنة 1959 بإحدى قبائل منطقة دكالة (قبيلة ولاد سي بوحيا) وهي قبيلة معروف أهلها بأنهم شرفاء أدارسة. درست المستوى الابتدائي، وبعد حصولي على الشهادة الابتدائية انتقلت إلى مدينة الدارالبيضاء حيث آواني عمي وزوج خالتي في نفس الوقت (الحسين الرميد) بحي الفرح. انتميت سنة 1970 إلى ثانوية ابن مسيك (تسمى اليوم ثانوية جمال الدين المهياوي) وكانت وقتها عبارة عن قاعات مبثوثة وسط المزارع والكروم بدون أسوار، وكانت تتواجد بين حي الفرح ودرب الكبير. وقضيت بهذه الثانوية حوالي ست سنوات، وحصلت منها على شهادة الباكلوريا في الموسم الدراسي 1976/1977, والتحقت بكلية الحقوق بالبيضاء. وكانت وقتها موزعة في مجموعة من البنايات وسط المدينة، وكنت أتردد بين بنايتين الأولى بمقر الستيام والثانية بكنيسة ميرابو لمدة سنة، وانتقلنا في السنة الثانية إلى طريق الجديدة التي دشنت بها كلية الحقوق لأول مرة وكان إلى جانبها الحي الجامعي الذي أصبحت أحد قاطنيه. تخرجت من كلية الحقوق سنة 1980, وانتميت إلى دار الحديث الحسنية بعد نجاحي في مباراة الولوج إليها، وتخصصت في شعبة الفقه وأصوله، وتخرجت منها سنة 1982, وكنت أقضي في فترة الدراسة بدار الحديث الحسنية الخدمة المدنية بالمحكمة الابتدائية بالدارالبيضاء. وبعد تخرجي من دار الحديث الحسنية، بدأت أهيئ دبلوم الدراسات العليا، وحصلت لي واقعة أثرت في مسار حياتي، حيث دعيت من قبل رئيس شعبة الدراسات الإسلامية بكلية الآداب عين الشق التي كانت قد افتتحت سنة 1980 للتدريس متطوعا في انتظار الحصول على منصب مالي ، وقد ألقيت بهذه الكلية مجموعة من الدروس، لكني بعد مرور شهر تقريبا طالبني رئيس شعبة الدراسات الإسلامية وقتها بالتوقف عن إلقاء الدروس وعدم الاتصال به مطلقا، كما طلب مني عدم سؤاله عن حيثيات هذا القرار مؤكدا لي أنه مهدد في وظيفته وشخصه وأبنائه، وهو ما جعلني أفهم أن جهة أمنية هي التي ضغطت عليه وحذرته مني وطلبت منه إخراجي من الكلية وهو ما أكد لي بعد سنوات. وكيف أثرت هذه الواقعة في مسار حياتك؟ بدأت أفكر في مهنة المحاماة، وهو ما حصل بالفعل في سنة 1984, بعدما كان معظم الإسلاميين ينفرون من هذه المهنة، وقد قمت بالبحث في مسألة مشروعية المحاماة كما بادرت إلى سؤال العلماء في الموضوع ومنهم الشيخ الدكتور تقي الدين الهلالي رحمه الله، الذي أجابني بأن مهنة المحاماة كأي مهنة أخرى يتحدد الحكم منها من طبيعة الممارسة فيها، فمن سعى فيها الخير كان خيرا ، ومن سعى فيها بالشر كانت وبالا عليه وعلى الناس. وانخرطت من سنة 1984 في سلك المحاماة إلى الآن. من أين ورث الأستاذ مصطفى الرميد التدين؟ كان التدين عندي فطريا كما هو شأن كل المغاربة الذي يعيشون في أوساط محافظة متدينة. لكني كنت أطرح على نفسي مبكرا جملة من الأسئلة الوجودية، وكنت متشوقا إلى أن تكون الإجابات بصددها مقنعة ومبددة للحيرة التي كانت تستبد بي على امتداد الموسم الدراسي 1972/1973 خصوصا وأني ذات يوم دخلت كباقي التلاميذ إلى الفصل الدراسي، فوجدت مكتوبا على السبروة عبارة تقوللا إله والحياة مادة وقد استشاط الأستاذ غضبا حينما رأى هذه العبارة، ونادى على التلميذ الذي كتبها بعد أن قام بتحرياته، وصفعه وأخرجه من الفصل الدراسي. فكان أول سؤال طرح علي بعد هذه الحادثة هي : هل أصل هذا الكون مادة؟ أم أنه وجد بالصدفة؟ أم أن له خالقا مدبرا هو الله؟ كان هذا السؤال ضمن أسئلة أخرى طرحت على جيلي والذي أجاب عنها بإجابات متعددة. بالنسبة غلي، فقد شاءت الأقدار أن تكون حركة الشبيبة الإسلامية في ذلك الوقت في بداياتها، وقد حدث أن انتمى إليها أحد أقاربي ممن كانوا يدرسون معي في نفس الثانوية وهو الذي كان له يد في ارتباطي بالشبيبة الإسلامية. متى كان انتماؤك إليها؟ انتميت إلى الشبيبة الإسلامية في الموسم الدراسي 1973/1974, وكنا مع مجموعة من التلاميذ نجتمع في منزل أحد المعلمين وكان من الشمال وكنا نتدارس في هذه اللقاءات كتابي معالم في الطريق ودراسات إسلامية لسيد قطب، وكتاب محمد قطب شبهات حول الإسلام: وكتاب سعيد حوى: جند الله إلى جانب كتب أخرى من الكتب الحركية المؤسسة. ما هي القضايا التي ركزتم عليها في هذه المرحلة داخل الشبيبة الإسلامية؟ ركزنا في عملنا على ثلاث مستويات: - العمل في الثانوية: حيث استطعنا بسرعة مذهلة أن نحقق نجاحا كبيرا على مستوى التوسع والانتشار، كما استطعنا أن نحد من خلال المكاسب التي حققناها من المد اليساري الزاحف وقتها على كل الثانويات. وقد أصبحت لنا بفضل مدارسات الكتب التي كنا نقوم بها في الجلسات ثقافة إسلامية ورصيد فكري قوي ساعدنا في تقوية مواقعنا في النقاش مع التيار اليساري. وقد تسلحنا في هذه الفترة بكل المعطيات العلمية التي كنا قد درسناها في كتابالله جل جلاله لسعيد حوي وكتابالله يتجلى في عصر العلم لكريسي موريسون، وكتاب الإسلام يتحدى لوحيد الدين خان. كما تعرفنا في مرحلة لاحقة على كتابي باقر الصدر فلسفتنا واقتصادنا واللذين أمدانا برصيد فكري إضافي أسعفنا في مقارعة الفكر اليساري وكشف تناقضاته. - العمل المسجدي: إذ كان جل الذين يؤمون المساجد ينتمون إلى الشبيبة الإسلامية، وهو ما ساعدنا على تكثيف الاستقطاب داخل المساجد، إذ كنا نراقب الشباب المترددين على المساجد، ونستقطبهم إلى جلساتنا التربوية. - العمل في الأحياء: فما من زقاق إلا كان لنا فيه إخوة من الشبيبة الإسلامية، وكان حي الفرح ودرب الكبير يعرفان توسعا في الاستقطاب داخل الشبيبة الإسلامية، وإن كان الأمر على مستوى الأخوات كان محدودا، إذ لم يكن في البداية إلى أخوات معدودات كانت منهن الأخت زينب الذهبي. وقد كانت لنا بعض المحلات السرية التي كنا نسميها كهوفا، وكنا نلجها ليلا بطريقة جد حذرة، وفي كثير من الأحيان كنا ننتظر عبد الكريم مطيع وإبراهيم كمال إلى غاية نصف الليل، وكانا يحضران إلينا بعد أن يكونا قد زارا كهوفا أخرى وأطرا جلسات متعددة. كان حماسنا كبيرا، وكان استعدادنا للتضحية بأنفسنا في سبيل الدعوة أكبر، وكنا أحيانا ندخل في صراعات مع الماركسيين ولا نبالي بما يمكن أن يصيبنا. وهل كان عبد الكريم مطيع يؤطركم بصفته الشخصية؟ كنا نجلس إليه في بيته بابن جدية أو في الكهوف حيث كان بزورنا في أوقات متأخرة من الليل. وما الانطباع الذي تركه فيك؟ كان رجلا في غابة الحيوية والتضحية والذكاء الخارق. هل تتذكر بعض الموضوعات التي ناقشها معكم مطيع؟ مرة كنا في بيته بابن جدية، فحدثناه عن ضرورة تدريبنا لحمل السلاح للثورة على النظام السياسي، فسألنا: في أي مكان تريدون أن تتدربوا فيه على السلاح؟ فقلنا له : في الجبال فقال:ستسهلون على النظام السياسي ضربكم وإفناءكم، لأنه يكفيه أن يقوم بتلغيم الجبال لينسفها وإياكم، وبإمكانه أن يرسل عليكم طائراته ليحرق الجبل ومن عليه فكان هذا الجواب حاسما في قمع الفكرة في أذهاننا. هل يعني هذا أن مطيع لم يكن يتبنى الخيار الثوري؟ في اعتقادي أن الرجل كان لديه منهج انقلابي. ألا تتذكر واقعة حدثت لك في المرحلة الثانوية؟ أذكر أنه تم إيقافي مرتين من قبل إدارة ثانوية المهياوي بسبب صراعاتنا التي كانت تصل أحيانا إلى درجة التشاجر مع بعض الماركسيين اللينينين. كيف أثر اغتيال عمر بن جلون على مسار الشبيبة الإسلامية؟ كان لاغتيال عمر بن جلون تأثير حاسم على مسار حركة الشبيبة الإسلامية، إذ بدأنا بين الفينة والأخرى نوزع مناشير في الثانويات والأحياء، وكان يطلب منا أن نقوم بعملية اللصق في وقت متأخر من الليل، وكانت هذه المنشورات والملصقات كلها طعن في النظام السياسي ورموزه. ومتى وصل أمر الفتنة داخل الشبيبة الإسلامية؟ كان ذلك في أواخر سنة 1977, إذ ستتفجر الخلافات بين عبد الكريم مطيع والقيادة السداسية، وقد عشنا هذه المرحلة محنة عصيبة، حيث انقلبت الأخوة الجامعة إلى نزاعات لا تكاد تنتهي بل إلى عداوات وخصومات بين أفراد التنظيم. وكيف كان موقف مصطفى الرميد من هذه الفتنة الهائجة؟ انتابتني حيرة كبيرة، فبقدر ما كنت أنزه عبد الكريم مطيع عما كان ينسبه إليه الستة كنت في نفس الوقت أقدر هؤلاء الإخوة. وكيف كان موقفك إذن؟ رفعت شعار التبين. هل تأثرت برأي مجموعة الرباط؟ للتاريخ، لقد تبنيت فكرة التبين قبل أن أسمع بأن هناك مجموعة في الرباط تتبنى نفس المفهوم، ولم يحدث أن سمعت بها حتى مرت مدة على اقتناعي بفكرة التبين. أليس غريبا أن تتبلور فكرة التبين في البيضاءوالرباط دون أن يكون بينهما رابط؟ لا أدري هل تأثر إخوة الرباط بما كنا قد بلورناه أنا وبعض الإخوة في البيضاء خاصة وأن منهم من كان يدرس بالرباط كالأخ الصخري مثلا؟ أم أن الأمر كان مجرد مصادفة؟ وهل كان لهذه الفكرة من مؤيدين بالبيضاء؟ وجدت الفكرة إقبالا كبيرا، وكتب لها أن تنتشر داخل صفوف العديد من الإخوة. ولماذا لم تستمر في بلورة فكر التبين والانتقال بها إلى فعل إجرائي كما سعى إخوة التبين في الرباط؟ في منتصف أحد الليالي، سمعت طرقا بالباب، فلما خرجت وجدت عبد الحميد أبو النعيم وإخوة آخرين، وقد كان أبو النعيم قد عاد من توه من رحلته إلى الحج بعد لقائه بعبد الكريم مطيع. ولماذا هذه الزيارة الليلية؟ جاءني وهو متحمس للدفاع عن فكرة البيعة لقائد التنظيم محذرا إياي من خطورة الخروج عن التنظيم من الناحية الشرعية، وقال لي إن علي بيعة في عنقي لا يجوز أن أنقضها، وأنني أنتمي إلى جماعة لا يجوز لي أن أتخلى عنها وصار يسوق لي أدلة من القرآن وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم ظاهرها يؤكد ما يقول. وهل اقتنعت بوجهة نظره؟ لما سمعت أدلته، تخليت عن فكرة التبين وأصبحت من المدافعين عن عبد الكريم مطيع في مواجهة الستة. ذكر الأستاذ العربي العظم أنك كنت من قيادة الخط الثاني في الشبيبة الإسلامية، كيف تم ذلك؟ في أواخر سنة 1978, أصبحت في اللجنة القيادية بالدارالبيضاء، وكانت هذه اللجنة تتكون من أخوين من البرنوصي كنا نسميهما في تلك الفترة البخاري ومسلم، وكان على رأسها عبد الحميد أبو النعيم وعبد اللطيف بكار ومحمد بيرواين وآخرين، إلا أن النقاشات التي كانت تدور بيننا وبين مخالفينا من المناصرين للستة كشفت لي حجم النقائص في المنظومة الفكرية والفقهية المؤطرة لعملنا داخل الحركة حيث لم تكن توجد عندنا أية وثيقة يتأسس عليها العمل، وهو ما جعلني أوجه رسالة إلى عبد الكريم مطيع أطالبه فيها بأن يضع للجماعة ورقة يوضح فيها الموقف من مجموعة من القضايا والمفاهيم. مثل ماذا تحديدا؟ مثل مفهوم بيعة الأمير ومفهوم الإمارة داخل التنظيم الحركي ومفهوم الجماعة التي لا يجوز الخروج عنها، وكذا الموقف من العنف وغيرها من القضايا والمفاهيم. وكيف تلقى عبد الكريم مطيع رسالتك؟ اتخذ قرارا بإقصائي من التنظيم وإلحاقي بلجنة كانت تعنى بقضايا البحث والمسائل العلمية وكانت تضم الشيح محمد زحل والقاضي برهون، غير أني لما حضرت معهم اجتماعا أو اجتماعين تبين لي أن هذه اللجنة كانت اسما من غير مسمى وأن عبد الكريم مطيع كان يلحق بها كل الذين يريد أن يهمشهم بسبب ما يحس به من احتمال قيامهم بالتشويش على التنظيم، لأن الرجل كان يريد تنظيما مغلقا ودوغمائيا لا يطرح على نفسه أي سؤال ولا يثار داخله أي نقاش بخصوص العديد من القضايا والمفاهيم الحركية مثل ما ذكرت سابقا. وما الموقف الذي اتخذته بعد أن تأكدت بنية مطيع تهميشك وإبعادك من عمق التنظيم؟ في هذه المرحلة، بدأت أفكر في وضع مسافة بيني وبين التنظيم، خصوصا وأني كنت قد التحقت بالجامعة وكان ذلك في أواخر سنة 1978 (يتبع)